“الشارع لنا”.. أوبريت يوسف شاهين الذي تنبأ بثورة يناير

Print Friendly, PDF & Email

“قولوا له ليكون البعيد غفلان.. قولوا له يا ولاد الشارع لمين؟”

“كان وعد منك

كان حلم منا

قالت الشفايف

شافت عيونا

قوس الشتوية سبع ألوان”

هكذا كتب الشاعر صلاح جاهين ولحن كل من بليغ حمدي وسيد مكاوي، وأخرج يوسف شاهين في رائعتهم أوبريت “الشارع لنا” في فيلم “عودة الابن الضال” (1976) وهو أوبريت يحتاج لاستعادته والتمعن فيه مرارا وتكرارا من جانب الجيل الذي مازال يحلم بالثورة والتغيير والذي ثار في يناير 2011.

يبدأ الأوبريت بالاستعارة أو بتقمص “تفيدة” (ماجدة الرومي) و”إبراهيم” (هشام سليم) دوري “طلبة” (شكري سرحان) و”علي” (أحمد محرز) ليبدأوا تمثيل مسرحية حتى يرى “علي” نفسه في هذه التمثيلية وكأن المقصود بالعرض الذي تقدمه “تفيدة” و”إبراهيم” أن يكون مرآة يرى ويكتشف فيها “علي” ما خفي عليه بسبب اندماجه أو بالأحرى اغترابه عن نفسه وعن مبادئه عبر التقوقع على مكتب داخل المعصرة ليقوم بأعمال آلية تنسيه نفسه وتنسيه العالم وتنسيه تغيير العالم وهو ما خطط له ونجح فيه أخيه طلبة.

وتعتبر تقنية المسرحية داخل المسرحية أو قصة داخل قصة واحدة من أشهر التقنيات السردية التي استخدمت بزخم في ألف ليلة وليلية، مثلا ولكن المؤكد أن مخرج الفيلم استلهمها من شكسبير وخاصة من المسرحية التي ألهمت شاهين كثيرا وهي “هاملت”.

نعود للتمثيلية الغنائية (الأوبريت) لنجد أن “إبراهيم” يرتدي ملابس ذات ألوان تتطابق مع ملابس العمال الذين يحيطون به وهو ما يرمز إلى أن “إبراهيم” الذي يتقمص في هذا الأوبريت دور “علي” هو واحد من العمال يدافع عن حقوقهم ويقف بجانبهم بوجه أخيه ورئيسهم في العمل “طلبة” الذي هضم وما زال يهضم حقوقهم والذي يحاول أيضا أن يهضم حقوق أخوته “علي وإبرهيم” وأيضا أخت زوجته وحبيبة أخيه “فاطمة (سهير المرشدي)”.

الأوبريت الذي اشترك في غنائه ماجدة الرومي وماهر العطار وأمين الموجي، يحيلنا أيضا إلى مشكلة تؤرق شاهين في معظم أفلامه ويحاول أن يجد لها حلا أو على الأقل أن يبرزها، وهي مشكلة هضم أصحاب العمل لحقوق العمال. ففي هذا الفيلم يركز شاهين على مشكلة العمال حيث نجد في الأوبريت عمالا كثيرين مصابين لم يستطيعوا أن يحصلوا على حقوقهم من صاحب المصنع، رغم إصابتهم أثناء العمل وهو ما حدث لـ”حسونة (سيد علي كويرات)” قرب نهاية الفيلم والذي لم يستطع أيضا أن يحصل على مكافأة نهاية الخدمة بالرغم من عمله لما يقرب من ربع قرن في المعصرة بالإضافة إلى أن “طلبة” يطرد العمال من العمل بلا أسباب وبدون أن يعطيهم مستحقاتهم هازئا بمكتب العمل الذي يعمل على حفظ حقوق العمال وناعتا إياه بأن القائمين عليه هم مجموعة من الشيوعيين الذين لا يهتمون بسير العمل أو صاحب العمل بقدر اهتمامهم بالعمال وحقوقهم.

ولكن الأوبريت لا يهتم فقط بإظهار هذه النقطة المتعلقة بالعمال ولكنه أيضا يتناول ويبرز الخط الأساسي في الفيلم وهو أن الجيل الذي آمن بالثورة وفقد الأمل بسبب ما آلت إليه الثورة (المقصود ثورة 23 يوليو 1952) ومؤلفا الفيلم – شاهين وجاهين – من هذا الجيل، يجب عليه ألا يقف أمام الجيل الجديد وطموحاته وآماله بل يجب عليه أن يساعده في تحقيق طموحاته تلك.

وتعبر كلمات الأوبريت عن مدى هذه الخيبة واليأس الذي وصل حصده جيل “علي”، بينما يعبر الأوبريت أيضا عن الأمل الذي ما زال يملأ شباب الفيلم: “إبراهيم” و”تفيدة”، حيث يقول “على”: “أحلى ما في الحلق طعم المر للذكرى.. شوفوا المرار لما يبقى حلو يا جدعان” فقد وصل “علي” إلى اقتناع داخلي بأن لا فائدة ترجى، وأن أفضل ما يمكن أن يفكر فيه هو أن يستعيد خيبته والأمل الذي كان يملؤه بينما ترد عليه “تفيدة” قائلة: “كان وعد منك.. كان حلم منا.. قالت الشفايف.. شافت عيونا.. قوس الشتوية سبع ألوان” وهي بذلك تعرض قناعتها التي تحاول أن توصلها لـ”علي” عله يعود إلى حالته الأولى حيث كان هو الذي ينشر الأمل في أرجاء قرية “ميت شابورة” مسرح أحداث الفيلم.

وتعيد “تفيدة” تأكيدها فتقول: “قوس الشتوية سبع ألوان” لتشير إلى أنه يوجد دائما أمل حتى في أحلك الأيام حيث يظهر أحد مظاهر الربيع في الشتاء ويتبدى ذلك بينما يمسك العمال (أعضاء فرقة الفنون الشعبية الاستعراضية) بأقمشة ملونة تشير إلى ألوان الطيف (قوس قزح) ليقفوا خلف أبطال الأوبريت.. وهذه اللقطة وبالتأكيد الأوبريت كله يمثل ذروة استفادة شاهين من الألوان في هذه المرحلة من حياته الفنية بعد تجربته في لبنان مع فيروز والرحابنة في فيلم “بياع الخواتم”.

ويلى ذلك انتقال جماعي لمساعدة صاحب عربة بطيخ وقعت بضاعته على الأرض في لملمة هذه البضاعة وهو ما يمثل الاصطفاف والاتحاد مرة أخرى وسط الخلاف من أجل هدف أسمى وهو “لقمة العيش”، ما يذكرنا بمشهد هام جدا في فيلم آخر ليوسف شاهين هو فيلم “الأرض” عندما يتوقف الأبطال عن الخلاف إلى اتحاد واصطفاف حينما تقع الجاموسة في بئر الساقية فيتعاونون جميعا على رفعها من الساقية فهي أحد مصادر عيشهم والتي لا يستطيعون أن يعيشوا بدونها، وحينما ينجحون في انقاذها يعود الود بينهم ويضحكون متخطين بذلك خلافاتهم الداخلية ليفيقوا لمواجهة خطر الإقطاع.

ويتحد أبطال الأوبريت ليصطفوا جميعا وهم يغنون “والله رجعت يا علوة لعهد الشطارة والأيام الحلوة” ويرصون البطيخ مرة أخرى في العربة، ثم يعبرون جسرا على خلفية مجموعة من المصانع التي تتميز بمداخنها التي تعمل بلا توقف، وهو ما يمثل عبور الجيش في حرب أكتوبر 1973 ليؤكد لنا صناع الفيلم أن العمال يجب أن يتحدوا في مواجهة الإقطاع الجديد أو الطبقة التي تستغلهم والتي ظهرت بعد ثورة يوليو 1952 وأن تقدم مصر سيأتي عبر حماية جيشها لأراضيها واستعادة الأراضي المحتلة من جهة وأيضا تحديث الصناعة والقضاء على إقطاع الصناعة من جهة أخرى حيث يواجه الجيش المحتل الإسرائيلي بينما يواجه العمال الفكر الرأسمالي الأمريكي (الغربي) المتمثل في “الكاوبوي” الذي يمتطي حصانا والذي يوقف الجماهير بعد عبورهم الجسر ليفرقهم مهددا إياهم بمسدس.

Visited 92 times, 1 visit(s) today