عن المسلسل الأمريكي “ثلاثة عشر سببا لماذا؟”

“من لا يطول العنب يقول عنه حامض”. هكذا يتصرف البعض. (هانا) كانت فاكهة يانعة أحبها الجميع وعندما لم ينالوها قالوا عنها “عاهرة”.

النهاية
في مسلسل “ثلاثة عشر سبباً لماذا” 13 Reasons Why(2017)، لا يوجد حرق للأحداث. أنت تعرف من أول حلقة أن هانا قد قتلت نفسها. إذن ما الذي تبقى ليشد انتباه المتفرج؟!

تقنية الاستباق – استباق الأحداث قبل أوان حدوثها الطبيعي في زمن السرد- شائعة في السرد الروائي والسينمائي، وقد تكون قاتلة إن لم توجد عناصر أخرى تشد المتفرج أو القارئ غير الحكاية. في رواية (فساد الأمكنة) لموسى صبري، تفتتح الرواية بفصل عنوانه (ملمح شبه نهائي) لخّص فيه السارد أحداث الرواية أو خطوطها العريضة. إن ما نقرأه في الافتتاحية ليس الحكاية كلها، إنها فخ محكم ومفعمٌ بالأسئلة. الملمح شبه النهائي يتضمن دلالة تحدٍ تفيد أن “الرواية ليست حكاية وإنما فن كتابة الحكاية”، وسيكون لهذا الفن وخصوصاً عنصره اللغوي- في هذه الرواية- الدور الأكبر في الحفاظ على القارئ حتى آخر صفحة.

هكذا هو حال هذا المسلسل، تَحلُّ اللغة البصرية- السيناريو وحركة الكاميرا والأداء محل اللغة المكتوبة. هذه العناصر تُبقي الأحداث في حالة حركة وحيوية، كما يبقى بصيص أمل أو شك بأن تلك الخاتمة الماثلة في الحلقة الأولى قد تكون فخاً، فيعلل المتفرج نفسه بنهاية مغايرة تُبقي هانا على قيد الحياة.

لماذا؟
طوال ثلاثة عشر حلقة تروي هانا الأسباب التي قادتها إلى اتخاذ ذلك القرار،إثنا عشر شخصاً دفعوها إلى ذلك المصير،أو أنها كانت تبحث عن شماعة تعلق عليها موتها،ولذلك كانت تبدو مستعدة للتراجع عن قرارها لو أن الشخص رقم 13 -الأخصائي النفسي- أوقفها أو ساعدها. الأحداث تدل على أن هانا مترددة وضعيفة الشخصية وقرارها ليس بيدها،وهو أمر يدعو للاستغراب كون الأحداث لم توضح الأسباب؛ فهي تحظى بالحب والاهتمام من قبل والديها! هذه الثغرة إضافة إلى النهاية المفتوحة ربما تكون دعوة لموسم أو مواسم قادمة،خصوصاً بعد الاهتمام الذي قوبل به المسلسل.

ثلاثة عشر دافعاً للموت كان يمكن أن تكون دوافع حياة،لو أن هانا لم تستسلم. بانتحارها رضخت هانا لسلطة الجموع، وظهرت في موقع الضحية. نحن هنا أمام فرد يختار الخضوع لسلطة الجماعة،فبدل أن يواجههم يقرر أن يفعل ذلك بطريقة أخرى. من موقعها كضحية تريد هانا أن تقتلهم معنوياً بطريقتها،أن تجعلهم يختبرون مشاعرها وهم يقتلونها بنظراتهم وهمساتهم وتحرشهم. هذا النوع من القتل الناعم البطيء ممكن حين يكون ضمير الجلادين نائماً ويحتاج إلى من يوقظه، أما وأن الضمائر قد ماتت فلن تؤدي هذه الوسيلة إلا إلى قتل الضحية مرتين.

ضمائرهم لم تستيقظ لدرجة أن البعض كان مستعداً لارتكاب جريمة أخرى، اتهموها بالكذب مع أنهم يعرفون أنها ليست كذلك. كل ما كان يشغل بالهم هو الخسائر الطفيفة التي يمكن أن يسببها لهم اعترافهم. أرادت هانا بالتسجيلات –التي خلفتها بعد انتحارها- أن تعالجهم بالبوح والمكاشفة، لكنهم فضلوا الصمت. سيقول عنها جاستن: “إنها مجنونة مغرمة بالدراما وانتحرت لكي تلفت الأنظار”.

الهدف من مخاطبة هانا لجلاديها هو إعادة تصحيح صورتها التي شوهها بعضهم بترويجها وشوهها البقية بتصديقها. أرادت هانا بالأشرطة أن تخاطب ضمائر قتلتها. سيستيقظ أحدهم ليقول: “لو أن شيئاً واحدا سار على نحو مختلف فيما مضى، ربما لما حدث ما حدث”. لكن حتى لو استيقظ الجميع فلن تستيقظ هي من موتها.

لم تستعمل هانا وسيلة حديثة لإيصال رسالتها؛ لأن تلك الوسائل أسهمت في تدمير حياتها. استعمالها لوسيلة قديمة هي أشرطة التسجيل ينسجم مع شخصيتها التقليدية، فهي فتاة كما تصف نفسها: تحب قراءة الكتب الورقية والكتابة على الهوامش. تنسجم أشرطة التسجيل القديمة أيضاً مع طبيعة المرأة في الماضي القريب، المرأة الصامتة الخانعة الذليلة. مصير هانا يوجه رسالة غير مباشرة إلى نساء الحاضر أن لا يكُنَّ مثلها حتى لا يلاقين مصيرها. على المرأة اليوم أن تكون ذئبة في غابة الذكور وإلا أكلتها الذئاب البشرية.

يأس وتردد
شخصية هانا مترددة، تارةً تخاطب نفسها بنبرة تفاؤل: “الحقيقة، بالرغم من كل شيء، أنك تريد أن تصدق أنه يوجد أناس طيبون في هذا العالم،وكنتُ أعلم أنهم هناك”. وفي لحظات اليأس تقول: “ماذا لو أن الطريقة الوحيدة لتجنب الشعور بالألم هي أن لا نشعر بأي شيء على الإطلاق”.

وفي عبارة أخرى، كأنها تلتمس لنفسها العذر مما توشك على اقترافه، تقول: “لا أحد يعرف حقيقة ما يدور في حياة شخص آخر، ولا تعرف قط كيف ستؤثر تصرفاتك على شخص آخر”. لكنها هي نفسها لم تفكر بأثر انتحارها على والديها.

حاولت هانا أن تتغير بتغيير قَصة شعرها، وكأنها بذلك تستحث الآخرين على أن يُغيّروا موقفهم تجاهها ونظرتهم إليها. تقول: “احتجت إلى التغيير،أن أكون شخصاً جديداً،لن أبقى غير مرئية بعد الآن، كنت سأبدأ من جديد تماماً،كنت سأمحو الماضي وأتركه كله خلفي،كنت سأعمل بجد أكثر، وأصبح أذكى، وأقوى، لأنه لا يمكن تغيير الآخرين، لكن يمكنك أن تغير نفسك”. محاولة التغيير صائبة لكن الخطأ الذي اقترفته هانا أنها غيَّرت مظهرها الخارجي ولم تُغير جوهرها، بأن تكون أقوى في مواجهة الذين يسيئون إليها.

شاهدٌ آخر على ترددها أو ضعف شخصيتها، المشهد الذي تُخبر فيه والديها عن حفلة بدتْ أنها مترددة في الذهاب إليها فأخذت تتحجج بالواجبات المدرسية كي تقرر أمها أو أبيها بدلاً عنها أو أن يمنعوها من الذهاب،لكن خلافا لما تتمناه هانا أعطتها أمها الحرية المطلقة لتقرر بنفسها ما تريد.

وقفت هانا تتفرج على صديقتها جيسي وهي تُغتصب من قبل برايس، اكتفت بالصمت والبكاء، مثلما استسلمت بعد ذلك لبرايس وهو يغتصبها،وفي كلا الحالتين كان يمكنها أن تُعبِّر عن رفضها بوسيلة أخرى غير الصمت. سلوك برايس وهو يتحرش بها بلمس مؤخرتها وسكوتها عن كشف ادعاءات جستن ضدها، وغيرها من أشكال اغتصابها بالكلمات، كانت مقدمة لاغتصابها عملياً في الأخير.

موقفها من الحب، ومن إعجابها بكلاي، يُعبر عن يأس وتردد وخوف، تقول: “أنت تفتح قلبك لشخص واحد وينتهي الأمر بأن يضحك عليك الجميع”. كانت تنتظر من كلاي أن يُبادر إلى التصريح بحبه لها، لكن كلاي كان نسخة أخرى منها.

لم تُنصت هانا لنصيحة أمها: “اسمحي لنفسك أن تحلم قليلاً، احلمي أحلاما كبيرة عن كل الأشياء التي من الممكن أن تصبحيها يوما ما،لا تقتنعي بالقليل”. إن صح أن موتها ناتج عن ثلاثة عشر دافعاً فقد كان هناك دوافع أكثر للحياة لكنها لم تستجب لها. اقتنعت هانا بالقليل، قنعت بالموت وتخلت عن أحلام الحياة الكبيرة.

رسائل ضالة
رسالة المسلسل للمتلقي سلبية بالمجمل، وكان بالإمكان إيصال رسالة مغايرة بالرفض والتمرد والمقاومة. إن هانا مرآة لماضي المرأة الخانعة، أو لحاضر المرأة الضحية، لكن شخصيتها السلبية لا تخلو من رسالة إيجابية تنتج من مقت المتفرج- والمرأة على وجه الخصوص- لشخصية هانا السلبية. المضمون الوحيد الإيجابي الذي يمكن استخلاصه من قصة المسلسل يأتي بطريقة منعكسة أو غير مباشرة وذلك بكره المتفرج لشخصية هانا وتكوين شخصية نقيضة.

فحوى تلك الرسالة أن الحل ليس في أن تموت؛ لتنغص حياة قتلتك أو تعذب ضمائرهم، فلو أن ضمائرهم حية لما دفعوك إلى الموت. الحل أن تُيقظ ضمائرهم بصدمة مقاومتك. فإن كان هناك ثلاثة عشر سبباً للموت فيكفي سبب واحد لمواصلة الحياة،ذلك السبب تَوفَّر في حب والديها، لكنها تخلت عن هذا الحب مدفوعة بالكراهية وحب الانتقام. لقد فكرتْ بالذين أساؤوا لها ولم تفكر بالذين أحبوها.

بلغة متفائلة توجه هانا رسالة للمتفرج: “أحياناً تحدث لك أشياء، تحدث فحسب، ولا تملك منعها،لكن ليس المهم ما حدث ولكن ما تفعله بعدها وما تقرر أن تفعله حيالها. وقد اتخذتُ قرارات سيئة في حياتي”. تدرك هانا قيمة ما اتخذته من قرارات وتستطيع تقييمها، لكن ذلك لم يمنعها من اتخاذ قرار أخير أسوأ من كل سابقيه، وهذا يدل على أنها لا تستفيد من تجاربها.

الانتحار للضعفاء، هذا ما قالته سكاي بعبارة أخرى وهي تتحدث عن هانا: “ما فعلَتْه كان غبياً، لم تكن تمر بشيء مختلف عما تمر به أي واحدة منا،لكننا نجتازه”. على النقيض منها تقول هانا: “قررتُ أن لا يجرحني أحد مرة أخرى”. قرار جيد،إن كان يعني المواجهة، لكنها قررت التخلي، ليس التخلي عن حياتها فحسب، بل وعن الحقيقة التي أرادت لها أن تُكشف بعد موتها.

المرشد النفسي، بورتر، قدَّم لها الحل في قوله لها: “إن لم تواجهيه فالخيار الوحيد المتاح هو أن تمضي قدماً”، أي أن تتناسى الإساءة وتواصل حياتها إن لم تكن قادرة على المواجهة. ترد هانا: “نعم، هذا ما سأفعله”. لكنها لم تواجه برايس ولم تكن لتنسَى ما حدث لها، فقررت الهروب للأمام بالتخلص من حياتها.

بلغة تبريرية يائسة تقول هانا: “الحياة لا يمكن التنبؤ بها، والتحكم هو مجرد وهم”. على النقيض منها تأتي شخصية جيسيكا التي مرت بتجربة الاغتصاب لكنها لم تستسلم وأعادت ترتيب حياتها والتحكم فيها، جيسيكا و سكاي بذلك هما المقابل الإيجابي لشخصية هانا السلبية.

تفكيرها بتوجيه رسالة للعالم أهم في نظرها من عواقب تصرفها على والديها والمقربين منها. بمنطق الضحية هذا تقول: “المغزى من التعبير الإبداعي هو أن ترفعي مرآة في وجه العالم على أمل أن يرى الناس المريعون أنفسهم ويقيمون قنوات تواصل تساعدهم على اجتياز حياتهم الكارثية. ألمك، ألمك مهم بالنسبة إلى الآخرين”. هنا تظهر هانا كمسيح يضحي بحياته من أجل خلاص العالم. تريد هانا لموتها أن يكون جرس إنذار،لكن ذلك الجرس لن يرن على الدوام،سيأتي وقت ويتوقف عن الرنين وسيعود الجميع إلى حياتهم وكأن شيئاً لم يكن!

نحن شركاء في الجريمة، هذا ما تقوله هانا مستعيرة لساننا: “نحن مجتمع من المطارِدِين، جميعنا مذنبون، نقف مشاهدين، ونفكر في أشياء نخجل منها”. وبهذا تُعلِّق هانا موتها في رقبة الجميع وليس في رقبة ثلاثة عشر شخصاً أو سبباً. رسالة أخرى ضمنية توجهها من خلال استعمال آلة التسجيل القديمة: لا تدع التكنولوجيا تستعملك فستحولك إلى آلة،استعملها أنت بحيث لا تفقد إنسانيتك. أما رسالتها الضمنية الأخيرة فتوجهها عبر “كلاي”: تَعلَّم الرقص وانتظر فربما تُعزفُ الموسيقى ذات فرصة فتدعوا حبيبتك إلى الرقص قبل أن تتحول الحلبة إلى كابوس يذكرك بحلمٍ لم تقطفه في أوانه. وبعبارة مباشرة تقول له جيسيكا: “اتخذ خياراً يا كلاي،كن جريئاً”. لا تكن تمثالاً تقف متفرجاً وهم يقتلون قلبك،كن صلصالاً كاسمك،صلصالاً تشكله أنت لا صلصالاً بيد غيرك.

استيقظَ كلاي بعد فوات الأوان، قائلاً بلسان الندم: “كلَّفتُ فتاة حياتها لأني كنت خائفاً من أن أحبها”. يرد بورتر: “لا يمكنك أن تعيد شخصاً إلى الحياة بالحب”. لكن كلاي أنقذ نفسه ونفساً أخرى،وهذا ما فعله في الأخير عندما وجد الصلصال سماءه (سكاي)!

Visited 37 times, 1 visit(s) today