عن الكتابة والسينما: حوار مع السيناريست احمد عامر

أن تكتب يعني أن تواجه الحياة بصدق، أن تلتقط التفاصيل الصغيرة وتصوغها في حكاية تُبقي أثرها في وجدان الناس. والكتابة للسينما على وجه الخصوص ليست مجرد موهبة، بل صنعة تحتاج إلى صبر وتجربة وخيال منفتح على العالم. كثير من الشباب يحلمون أن يصبحوا كتاب سيناريو، لكن الطريق مليء بالأسئلة: من أين نبدأ؟ كيف نصنع فكرة أصلية؟ وما الذي يجعل السيناريو حيًا وقادرًا على أن يتحول إلى فيلم؟

في هذا الحوار، نفتح هذه الأسئلة مع السيناريست أحمد عامر، الذي خاض رحلة غير تقليدية انتهت به واحدًا من أبرز كتاب السيناريو في جيله. هنا يتحدث عن تجربته، عن معنى أن تكون كاتبًا، وعن نصائح مباشرة لكل من يريد أن يبدأ رحلته في عالم الكتابة السينمائية.

  • لا أعرف بدقة من أين تأتي الأفكار، ولا ما الذي يجعلني أتمسّك بفكرة وأتجاهل أخرى. كل ما أعرفه أنّ الفكرة تفاجئني، تطرق ذهني وتلازمني لفترة… عندها أفتح لها ملفًا وأبدأ في العيش معها لأسابيع وربما لأشهر. أجد نفسي أجمع لها تفاصيل متفرقة بشكل عفوي: جملة حوار، ملامح شخصية، لوكيشان، أو حتى صورة. ومع مرور الوقت، يتضح لي أنني صرت مستعدًا لتحويل هذه الشرارات إلى فيلم متماسك البنية، ومنها أنطلق.

=الأفكار الجديدة ليست مستحيلة، لكنها نادرة الحدوث. في الغالب تدور أفكار الدراما في فلك ما كُتب وقُدِّم منذ بدايات الحكي. ما يميز أي عمل في النهاية هو طريقة السرد والتناول. ما أسعى إليه دائمًا، وأعترف أنني لا أنجح فيه كل مرة، هو أن يحتوي الفيلم على شيء جديد ومفاجئ لي شخصيًا، حتى أستمتع بكتابته. أنا بطبعي شخص سريع الملل، ولا أحب التكرار أو التوقعات المألوفة. حتى لو كانت تيمة الفيلم تقليدية، يظل هناك مجال للتجريب: في البناء، أو في النهاية، أو في تفاصيل المشاهد.

أحمد عامر

=بحكم مشاركتي في لجان تحكيم عدة مسابقات للسيناريو في مصر، أستطيع القول إن البلد لا يخلو أبدًا من المواهب. لكنني ألوم بعض الشركات المنتجة أحيانًا، لأنها تميل إلى البحث عن المشاريع “المضمونة” من وجهة نظرها، وتتردد في المخاطرة بتركيبة جديدة أو قصة غير مألوفة. السيناريوهات موجودة ومتاحة، لكن الأزمة الحقيقية تكمن في عملية الاختيار. ومع ذلك، لا بد أن أشيد بالشركات التي تخاطر وتشجع التجريب، حتى ولو في جزء من إنتاجها.

=طقسي الوحيد هو أن أستغرق وقتًا طويلًا في تطوير الفكرة، والقيام ببحث مطوّل حول كل تفاصيلها، ولا أبدأ الكتابة إلا عندما أشعر أن لدي شحنة كافية تدفعني للانطلاق. فترة كتابة السيناريو بالنسبة لي مليئة بالعزلة، وباللحظات المحبِطة أحيانًا، لكنها أيضًا لحظات ساحرة حين تفاجئ نفسك بتفاصيل طازجة لم تخطر لك من قبل. أشعر أنني أكتب عملًا مُرضيًا عندما أغرق في الكتابة يوميًا ولساعات طويلة دون ملل، حتى أنني أنسى نفسي وأكتب وكأنني أستدعي النص من عقلي الباطن بلا وعي كامل. أحيانًا، بعد ساعات من الاسترسال، أعود لأقرأ ما كتبت فأفاجأ: هل كتبتُ هذا فعلًا؟ لا أتذكر لحظة كتابته ولا تفاصيله، لكنه خرج مني على أي حال.

=أواجه جمود الكتابة بالانشغال بأعمال أخرى، حتى تعود إليّ حماسة الكتابة من جديد. وكثيرًا ما يكون ضغط الوقت دافعًا إضافيًا يجعلني أعمل بسرعة أكبر، وكأنه حافز خفي. بل أحيانًا أشعر أن ضغط الوقت يمدني بجرعة أدرينالين تساعدني على الاستمرار.

مع محمد خان وخيري بشارة

=كل الشخصيات التي أكتبها مستوحاة من أشخاص ألتقي بهم في حياتي. قد تحمل شخصية في فيلم أعمل عليه طموح صديق أعرفه، أو بعضًا من عيوبي أنا شخصيًا، أو حتى طريقة كلام مواطن صادفته في مصلحة حكومية. بعد ذلك أحاول أن أتقمّص هذا الشخص، وأرتجل حواراته بيني وبين نفسي، حتى أصل إلى تفاصيله الدقيقة وأشعر أنني أعرفه عن قرب.

=نصحني أستاذ في بداياتي ألّا أشارك عملي مع عدد كبير من الناس في مرحلة التطوير. لذلك أختار شخصًا أو اثنين أثق في ذوقهم وصراحتهم، وأطلب منهم قراءة ما أكتب لأكتشف ما قد أكون أخفقت فيه. كذلك، كان لورش الكتابة أثر كبير في تكويني. ليس بالضرورة أن آخذ برأي الزملاء أو أنفّذ ما يقترحونه، لكن هذه الورش توسّع الأفق، وتفتح لي نوافذ على عوالم كتّاب آخرين وطرق سرد مختلفة. كما أنها تعلّمني أدوات نقد السيناريو وكيفية النظر إليه من زوايا وثقافات متعددة.

-وهل أساسا قد يصل الكاتب إلى الرضا التام عن ما يكتبه أم أنه من الطبيعي أن يكون هناك نسبة شك، وعدم رضا؟

=الشك لا يزول حتى مع الخبرة. فأنا أشك في عملي طوال الوقت، وأحاول أن أفتّش عن عيوبه وأعمل على إصلاحها. لكن في المقابل، لا بد من لحظة رضا، لحظة تشعر فيها أن السيناريو اكتمل وأصبح جاهزًا للتصوير.

-ولو من الممكن أن تحكي لنا تجربتك الشخصية مع اول عمل

=كنت قد عدت لتوّي من الولايات المتحدة ولا أعرف أحدًا في الوسط الفني. قرأ إبراهيم البطوط أحد السيناريوهات التي كتبتها، فرشّحني للشركة المنتجة لمسلسل الجامعة. في ذلك الوقت لم تكن لدي أي خبرة بورش كتابة المسلسلات، ولا حتى بكتابة المسلسلات نفسها، لكنني تعلّمت كثيرًا من الفريق الذي عملت معه، ومن سبقوني في هذا المجال مثل وائل حمدي، ومحمود دسوقي، وهشام هلال.

=الأمر يعتمد على الفكرة ومدى تعقيدها. أحيانًا يُكتب الفيلم في عدة أشهر، وأحيانًا قد يستغرق سنوات. أما أقصر مدة مررت بها فكانت حوالي سنة، منذ لحظة ظهور الفكرة وحتى اكتمال السيناريو الجاهز للتصوير.

=لا أعترف بفكرة “المدة الصحية” لكتابة السيناريو، فهي في النهاية قرار شخصي. لكني أحذّر نفسي والآخرين من إطالة زمن الكتابة لسنوات كوسيلة للهروب من رهبة مواجهة العمل المصوَّر. فهناك خوف عميق من لحظة مشاركة العالم بأفكارك وقصصك، ومن انتظار حكم الجمهور. عندها يتدخل العقل الباطن، يزرع الشكوك، ويجعل مرحلة الكتابة شاقة وطويلة، وكأنها وسيلة للهروب من المواجهة.

– التأخير قد يكون صحيًا عندما يقترن بالحركة إلى الأمام والتطوير، لكنه يصبح غير صحي عندما يتحوّل إلى هروب أو كسل. العمل يحتاج إلى وقت واهتمام ليخرج بصورة جيدة، لكن إن طال التأخير أكثر من طاقة الكاتب، يظهر خطر الملل. عندها قد تجد نفسك غير مقبل على الكتابة على العمل وتفقد حماسك تجاهه بسبب طول الفترة التي قضيتها وأنت عالق فيه…

  • يمكن للكاتب أن يستفيد من أساتذة ومن المشاركة في ورش التطوير، لكنني لا أغفل أبدًا دور القراءة ومتابعة الأعمال الكلاسيكية والمعاصرة، فهي المدرسة الأهم. المشاهدة هنا ليست كمجرد متفرج، بل كمؤلف يحلّل وينتقد ويحاول أن يفهم الحرفة: نوايا الكاتب، دوافع الشخصيات، وأسلوب السرد، وغيرها من التفاصيل التي تصنع العمل.
  • بصراحة، لا أحب تصنيف الأعمال إلى “تجارية” و”غير تجارية”. أحب أن أشارك في أعمال ذات جماهيرية واسعة، وأشعر أنني قادر على ذلك، لكن لم يُعرض عليّ أي مشروع من هذا النوع في مصر، ولا أعرف السبب. ربما لأن المنتجين وضعوني في قالب معين ولا يتصورونني خارجه..

“عفريت ترانزيت” كان مشروعًا يُصنَّف “تجاريًا”، وقد شاركني في كتابته آخرون. كانت تلك أول تجربة لي مع شركة كبيرة، وتعلمت منها الكثير، وأعتقد أنه نجح بحسب الإيرادات. من خلاله تعرّفت على حسابات السوق والنجوم والتوازنات الإنتاجية، وهي أمور لم أكن على دراية بها من قبل..

أتمنى أن أكتب عملًا جماهيريًا بطريقتي الخاصة وبمساحة أوسع.

هناك عمل عربي جديد أعتز به سيعرض آخر ٢٠٢٥ من تأليفي وأتمنى أن ينجح ويلفت نظر منتجون مصر أني لست فقط مؤلف المهرجانات.

من فيلم “ريش”

= عمر الزهيري، مخرج الفيلم، هو من عرض عليّ العمل معه في أول أفلامه الطويلة. كان لديه معالجة جيدة، فعملنا معًا لسنوات على تطوير الفكرة، وعلى فهم ما يربطه بها وما يربطني أنا أيضًا. كتبت تقريبًا أول عشر نسخ من السيناريو بناءً على أفكارنا المشتركة، وهو ما ساعد على جذب التمويل وانضمام منتجين للفيلم لاحقاً، رغم أننا قضينا ما يقارب السنتين من العمل بدون وجود منتج.

بعد سنتين أو أكثر، قرر عمر أن يُكمل المشروع بمفرده. كتب النسخة المصوَّرة مستندًا إلى بعض الأفكار التي عملنا عليها سويًا، لكن بطريقته البصرية التي تميّزه كمخرج. لم نعد نتحدث منذ ذلك الحين، ولا أعرف السبب تحديدًا، لكن بعد مرور سنوات أستطيع أن أخمّن أن هناك شدًّا وجذبًا كان حاضرًا بيننا طوال الوقت، ولم أكن أدركه آنذاك. ربما أنا كنت أرى الفيلم من زاوية الشخصيات والمشاعر الإنسانية مع لحظات كوميدية تجعلنا نتفاعل أكثر مع القصة من وجهة نظري، بينما عمر كمخرج له بصمته الخاصة، يضع الصورة والستايل كعنصر أساسي يميز فيلمه. ولا أقول إن هذا أفضل أو أسوأ، بل هو ببساطة اختيار فني.

ما يجب أن أنهي به… كان العمل بيننا ممتعاً ومن أكثر المشاريع التي استمتعت بكتابتها وكنت أتمنى أن نكمل المسيرة سوياً بأعمال كثيرة كفريق واحد. ربما في المستقبل…

=المشكلة في رأيي تكمن في الثقة الزائدة مع قلة القراءة مع بعضهم ولا أعمم. المخزون الذي أستند إليه من قراءاتي في الأدب والمسرح، ومتابعتي للفن المعاصر، هو جزء أساسي من رؤيتي كمؤلف ومخرج وصانع. فكيف يمكن أن تكتب دراما من دون معرفة بالمسرح الإغريقي أو شكسبير؟ وكيف تكتب فيلمًا كوميديًا من دون دراسة موليير، و تشابلن، و كيتون، و فطين عبد الوهاب؟ وكيف يمكن أن تُخرج فيلمًا تجريبيًا من دون الاطّلاع على من سبقوك مثل كريس ماركر مثلاً؟

انغمس في الحياة وتعرّف على الناس… بالمصري بنقول: =عيش حياة حقيقية تخلي عندك مخزون تقدر تكتب عيش

=الموهبة لا بد أن تكون موجودة، لكن بالنسبة لي الدراسة تظل ضرورية، ولا ينبغي أن تتوقف حتى بعد كتابة عدد كبير من الأفلام.

لا تتوقع أن تُنتَج أول عدة أفلام تكتبها. بالنسبة لي، كانت تلك الأعمال بمثابة مدرسة أهلّتني للعمل في الصناعة، رغم أنها ما زالت حبيسة أدراجي. ولا أشعر بالحزن تجاه ذلك.