عندما يتحدث ستانلي كوبريك عن نفسه
ظهرت أفلام تسجيلية كثيرة عن عبقرية المخرج الأميركي ستانلي كوبريك منذ رحيله قبل أكثر من 20 عاما. من بين هذه الأفلام “ستانلي كوبريك: حياة في الأفلام” و”الغرفة 237″ و”عامل سينمائي”. تركزت هذه الأفلام على طريقة عمل كوبريك وعلاقته بالممثلين، واختياره لمواضيع أفلامه الغريبة التي تتنوع بدرجة كبيرة.
وربما يبدو الفيلم الفرنسي الجديد “كوبريك عن كوبريك” (72 دقيقة)Kubrick by Kubrick” إضافة ثانوية نسبيًا لما سبق أن شاهدناه عن التجربة السينمائية لهذا المخرج المثير للجدل، ولكن الجديد هو أنه تجميع لمقاطع صوتية نادرة من مقابلات أجريت مع كوبريك، يتحدث فيها عن أعماله بلغة بسيطة. وفي الوقت نفسه، قد يكون أقرب ما يمكننا الاستماع إليه من شرح يقدمه هذا العملاق لرؤيته السينمائية، وفرصة للعودة إلى تأمل براعته الإبداعية.
مخرج الفيلم غريغوري مونرو، الذي أخرج أفلاما تسجيلية كثيرة عن فناني السينما من أمثال ميشيل لوغران، وجيري لويس وغيرهما، يستمد فيلمه من مصدر رئيسي للعودة إلى شخصية وأفلام ستانلي كوبريك خاصة أن كوبريك لم يكن يقبل سوى نادرا باجراء مقابلات معه، هذا المصدر هو تلك المقابلات الطويلة التي امتدت لعشر سنوات تقريبا والتي أجراها معه الناقد الفرنسي ميشيل سيمون، رئيس رئيس تحرير مجلة “بوزيتيف“، ووضعها في الكتاب الذي أصدره علم 1982. وتشكل المقاطع الصوتية من تلك المقابلات العمود الفقري لهذا الفيلم التسجيلي مع ملاحظات كوبريك حول أفلامه رؤيته الفلسفية التي تتجسد في أعماله.
شكل نشر كتاب سيمون، نوعًا من النصر الصحفي “الفردي” بالنسبة لمجلة بوزيتيف التي كانت منغمسة في منافسة شرسة عبر عقود مع نقاد مجلة “كراسات السينما” Cahiers du Cinema. وكانت هذه المنافسة قد بدأت مع صدور كتاب الناقد الذي تحول إلى الاخراج، فرانسوا تروفو “حوارات هيتشكوك- تروفو”عام 1966، الذي أعتبر مثالا على الحوار الطويل التفصيلي بين الناقد والمخرج الذي يصلح للنشر في كتاب. وكما كانت حوارات ميشيل سيمون مع كوبريك أساسا للفيلم التسجيلي الجديد “كوبريك عن كوبريك” كانت حوارات تروفو عن هيتشكوك أساسا للفيلم التسجيلي “هيتشكوك/ تروفو” الذي أنتج عام 2015 وأخرجه كنت جونز.
وبينما كان فيلم “هيتشكوك/ تروفو” يستخدم مقاطع صوتية لعدد ممن ينتمون لسينما المؤلف يقيمون عبقرية هيتشوك، فإن مخرج “كوبريك عن كوبريك لا يبذل جهدا أكبر للحصول على أصوات إضافية. لذلك يتحول الفيلم إلى جهاز لتتابع الصور، مع عرض مقاطع في المستشفى المعقم المشهور في مشهد ذروة من فيلم “2011 أوديسا الفضاء”. وفضلا عن ذلك، فإنه يفقد السيطرة على المادة الأساسية، ليعتمد على كوبريك وهو يتحدث من خلال حساسيته المعقدة. والنتيجة أن الفيلم يركز على العقلية التي تقود العمل بدلاً من محاولة إلقاء نظرة على مسار العمل من وراء الكواليس.
وهذا يعني أن القادمين الجدد إلى عالم كوبريك، أو أولئك الراغبين في العثور على معلومات جديدة عن مسيرته السينمائية، لن يجدوا الكثير في هذا الفيلم الذي يخضع لرغبة المخرج نفسه في تجنب أي تحليل دقيق لأسلوبه في العمل. ففي أحد المقاطع، يعرب كوبريك عن عدم اهتمامه بتقديم “ملخص ذكي” عن نواياه، ويغض ميشيل سيمون، الطرف عن هذا ويمضي مفضلا التركيز على الأسئلة المجردة طوال الوقت.
يوجه سيمون سؤالا إلى كوبريك عما إذا كان من الدقة القول “كلما ازدادت واقعية أفلامه كلما زاد الوهم”، وهو ما يتيح له العمق في المواقف الأخرى البسيطة بقدر من الألفة. وهذا النوع من الأسئلة العالي هو ما يدفع كوبريك، الذي نسمع صوته المعتدل طوال الوقت – للتحدث عن اهتماماته الرئيسية: فلسفة يونغ، السلطة، مخاطر التكنوقراطية، وغيرها من المواضيع الكاشفة التي تأتي وتذهب على مدار مجموعة ثرية من المقاطع الصوتية التي تغطي الفيلم كله.
في أفضل الأحوال فإن فيلم “كوبريك عن كوبريك” هو نوع من التأمل النفسي في علاقة كوبريك بفنه. وكما يلاحظ سيمون في مقابلة تلفزيونية عابرة، فقد كان كوبريك يقوم بعمل المونتاج لأفلامه في منزله، مخضعا عمل تجاري كبير إلى مجاله الضيق الخاص. لكنه لم يكن فوضويًا تمامًا. فالفيلم التسجيلي يتأمل في “هاجس الأصالة” الثقافي عنده، الذي يجعله مهووسا بالبحث عن آفاق جديدة للشكل الفني. لقد كان كوبريك يسعى للانطلاق من الأشكال الكلاسيكية القائمة للعثور على الطبيعة الحقيقية للسينما بما يتجاوز قيود الشكل السردي.
في هذا السياق، فإن فيلم “كوبريك عن كوبريك” يظل ينقب طويلا في البراعة التي تتميز بها أعمال المخرج الكبير الراحل ورغبته المستمرة في العثور على أشكال جديدة للسرد. وربما لم يتمكن الفيلم من سبر أغوار كل جوانب عبقريته من خلال كلماته الخاصة، إلا أن الأفلام التي صنعها تتحدث عن نفسها، وهذا الفيلم التسجيلي الرصين يدفع بالتأكيد إلى إعادة مشاهدتها.