“عندما رن الهاتف”.. مصير معلق على مكالمة هاتفية
سلوى شلبي
عرض فيلم ” عندما رن الهاتف” When the phone rang إنتاج عام 2024 من كتابة وإخراج “إيفا راديفوبيفتش” في الدورة الـ 45 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وهو من الإنتاج مشترك بين صربيا وأمريكا.
يبدأ الفيلم بهذه الجملة ” تقع الأحداث في بلد لم يعد له وجود، سوى في الكتب والأفلام وذاكرة من ولدوا قبل غام 1995″. هكذا يؤسس الفيلم العالم الذي سيصحبنا إليه. تسترجع المخرجة هنا بعضاَ من ذكريات طفولتها التي قضتها في يوغوسلافيا قبل أن يدمرها التصارع على السلطة والحروب العرقية في التسعينيات فتنمحي وتتفكك إلى مجموعة من الدول الصغيرة بعد سنوات من المعاناة والحرب.
ذات يوم جمعة من عام 1992 الساعة العاشرة و36 دقيقة تتلقى “لانا” ذات الحادية عشر عاماً نبأ وفاة جدها فتحمل عبء نقل الخبر لوالدتها ثم مكالمة أخرى تغادر عائلتها البلاد على إثرها بلا رجعة.
يطارد صوت الهاتف” لانا” طوال الفيلم، فتسير حياتها على هذا المنوال: رنين الهاتف يعقبه لقطة لحقائب سفر معدة للرحيل. مكالمة واحدة أسفرت عن اختفاء جدها ووطنها في آن واحد. تبدأ ” لانا” حياة التنقل وعدم الاستقرار، تبني علاقاتها مع الآخرين ثم تقطعها فجأة عندما يرن الهاتف. نتابع حياة ” لانا” في صورة شذرات من مشاهد متفرقة تستعيدها المخرجة من الذاكرة فنشعر أننا في رحلة داخل عالم مشوش يشبه ذكرى بعيدة بالكاد تتمكن من استرجاعها.
أكثر ما يظهر على الشاشة هو المكالمة الهاتفية التي تلقتها “لانا” عام 1992 لينمحي بعدها أي أثر لوطنها. ففي عقلها ترتبط هذه المكالمة بخسارتها لبلدها الأم إلى الأبد.
مكالمة واحدة غيرت حياة “لانا” التي تعرفها وبدأت حياة أخرى مليئة بالترحال. يتعمق الفيلم فيما تعنيه هذه الخسارة لطفلة في الحادية عشر، كيف لها أن تستوعب هذا الفقد وما نتج عنه من شعور بالاغتراب سيظل ملازماً لها أينما تذهب.
تغلب على مشاهد الفيلم لقطات لصور متفرقة لشخصية واحدة أو أكثر مصحوبة بتعليق صوتي يخبرنا عن مصير هذه الشخصيات.
لم يهتم الفيلم كثيراً برسم الشخصيات فيبدوا وكأنها مجرد صور ومواقف مستعادة مثلها مثل حياة “لانا” السابقة، أي مجرد ذكرى مشوشة تحاول استرجاعها. فالفيلم لا يعتمد على وجود حبكة وتصاعد درامي تقليدي، حيث نشاهد صوراً متعددة لهواتف قديمة ثم ننتقل لمكالمة غامضة في مشهد يمهد لمصير الأب، والأم أيضا لم تظهر سوى وهي تخبر ” لانا” بأن عليهم الرحيل.
ركزت المشاهد على أصدقاء “لانا” الذين ستضطر لتركهم بشكل أكبر فنشاهدها تغني مع جارها أثناء متابعة مسابقة غنائية في التلفاز بعد أن أخبرنا صوت الراوي مصير هذا الجار وكيف ستنتهي حياته فيما بعد وتلهو مع أحد أصدقائها ثم نشاهدها تودع صديقتها.
ساعد المونتاج والتصوير أيضاً في التعبير عن حالة التشظي في حياة البطلة عن طريق القطعات السريعة والصور المتعاقبة مع التعليق الصوتي عليها. فنشاهد داخل الإطار مشاهد متلاحقة تستدعي ذكريات من طفولة لانا مثل مشاهد لعبها مع أحد الجيران وفي الخلفية تذكرة دائمة بأن الحياة التي نشاهدها على وشك الاختفاء من خلال التعليق الصوتي أو نشرة الأخبار.
ومن أكثر المشاهد تعبيراً عن مشاعر “لانا” مشاهد حلمها المتكرر الذي ترى فيه نفسها في نفق مظلم يبدو بلا نهاية.
يستعيد الفيلم فترة التسعينيات من خلال طريقة التصوير التي تحاكي أفلام هذه الفترة فيعطي الفيلم طابعاً مميزا للغاية وكأننا نستعيد الزمن مثلما تستعيد “لانا” الذكريات عن وطنها المفقود.
كل تفاصيل الفيلم تستدعي حقبة التسعينيات بداية من الهواتف وصوت أجراسها لملابس الشخصيات وتسريحات الشعر مع وجود شرائط الفيديو بكثرة وظهور نادي الفيديو وبعض أغاني وبرامج التسعينيات.
في النهاية يتركنا الفيلم مع الشعور بأننا كنا داخل عقل ” لانا” فنعيش معها صدمة استقبال المكالمة الهاتفية التي تغير حياتها إلى الأبد ونستعيد معها بعض ذكريات الطفولة المشوشة من خلال عدسة الكاميرا التي تقوم بدور المشاهد معنا فتأخذنا في رحلة قصيرة عبر الزمان والمكان وكأننا سافرنا بالزمن إلى حقبة اختفت ملامحها فباتت رغم حداثتها وكأنها تنتمي إلى الماضي البعيد في بلد محت الحروب أثره فلم يعد بالإمكان زيارته إلا عن طريق ذكريات من ولدوا قبل عام 1995.