“حياة هادئة”: لحظة حنين تكاد تدمر كل شيء!

Print Friendly, PDF & Email

لم يكن يتوقع روزاريو (توني سيرفيلو) القاتل المحترف سابقاً الذي هجر إيطاليا منذُ خمسة عشر عاماً وجاء إلى ألمانيا لبدء حياة جديدة،أنه سيأتي ذات يوم وفي لحظة غير متوقعة، من سيذكره بتاريخهُ الدموي، ويرهقهُ بأعباء ماضيه، ظن أنه تخلص من ذكراها نهائياً، وكيف إن كان هذا الشخص هو ابنه الذي تركهُ وراءه مع أمه يوم هرب من إيطاليا.

هذا هو الحدث الذي بنيت عليه قصة فيلم المخرج الإيطالي كلوديو كوبليني “حياة هادئة”A Quiet Life  (2010)بأسلوب مشوق من المشهد الأول إلى ما قبل نهاية  الفيلم بقليل، فالهزة التي تصيب شخص روزاريو جراء الزيارة المفاجئة لابنهُ دييغو (ماركو دي أفوري) وصديقه إدواردو (فرانسيسكو دي ليفا)  نبقى نجهل أسبابها الحقيقية حتى مشهد اعتراف روزاريو للكاهن- المحتضر على فراش المستشفى- بأنه قتل سبعة وثلاثين شخصاً في حياته، وأن هذا الأمر يعذبهُ كثيراً، فابنه دييغو الذي ورث امتهان الجريمة عن أبيه وأثناء سفرهُ مع صديقهُ القاتل المأجور إدواردو إلى ألمانيا لتنفيذ جريمة قتل لأحد مدراء الشركات الصناعية الكبرى، يقرر أن يمر بالفندق الذي يملكه والده روزاريو في أحد أرياف فرانكفورت الجميلة والمسمى روزاريو باسم صاحبه، الذي يقيم فيه مع زوجته رينيتا (جوليان كولهير) وابنه الصغير.

وعندما يقترب موعد تنفيذ الجريمة، يبدأ القلق يغزو حياة روزاريو منذ القدوم المفاجئ لابنه وصديقه المشاكس إدواردو الذي يكون أيضاً إبن زميل سابق لهُ في إيطاليا، الأمر الذي لايعرفه روزاريو من ابنه إلا متأخراً بعد تنفيذ إدواردو جريمة القتل التي جاءوا إلى ألمانيا من أجلها ، الخبر الذي سيعطي الأحداث في الفيلم تحولاً مفصلياً خطيراً حين يترامى إلى أسماع روزاريو ويجعله نادماً على الإتصال بابنه دييغو ذات يوم في لحظة حنين له وإخباره بمكان تواجده ودعوته لزيارته.

فإدواردو العابث ،اللامبالي والغير خاضع لأي ضوابط أخلاقية تعجبهُ نادلة الفندق الوحيدة دوريس- (أليس داير في أداء جميل) رغم أنه لا يلفظ إدواردو اسمها صحيحاً فيناديها بوريس الأمر الذي يثير الضحك، لكنه يقيم علاقة غرامية معها مما يزعج روزاريو ويعتبرهُ إهانة لحرمة ويحذره بأن يلتزم حدوده، لكن الأخير لايبالي بتحذيره مما يجعل روزاريو يتضايق أكثر من وجوده الضوضائي الذي اقتحم به سكينة الفندق ووداعته فيتعاطف دييغو مع إدواردو وينزعج من معاملة والده الفظة معه.

دييغو متحامل أصلاً على والده بسبب هجره له ولوالدته في السابق لايفوت فرصة للتعبير عن استيائه منه رغم أن روزاريو يحاول دائماً أن يعبر له عن حبه الكبير لهُ ويفهمهُ أن اختفاءه المفاجئ يوماً وهروبه  لم يكن إلا إنقاذاً لحياتهما معاً، لكن دييغو لايبالي بكل هذا فعلى ما يبدو أن حقده على أبيه أعمق من أن تمحوه معاملة لطيفة ومشاعر حب آنية يمنحهُ إياها روزاريو.

تصل مشاعر دييغو السيئة تجاه أبيه إلى ذروتها عندما يعرف أن روزاريو قتل صديقه العزيز إدواردو خوفاً من أن يكشف الأخير حقيقتهُ في إيطاليا، ويعرف جميع المتربصين به سابقاً عنوانه الحالي، واعتقاد روزاريو للمرة الثانية بأن قتله لإدواردو المجرم ينقذ وجوده ووجود ابنه دييغو، فلا يتوانى الأخير عن الانتقام من والده أشد انتقام عن طريق تسليمه لوالد إدواردو وعصابته الإيطالية لينال القصاص العادل عن الجريمة التي ارتكبها في حق صديقه.  فحياة إدواردو بالنسبة لدييغو أهم وأثمن من حياة والده الذي تخلى عنهُ يوماً ما حين كان بأمس الحاجة لوجوده بقربه، لكن الأقدار تشاء أن ينجو روزاريو وتصيب الرصاصة رأس دييغو وترديه قتيلاً، ليضطر روزاريو بعدها للهرب من جديد ليبدأ حياة أخرى بعيداً عن زوجته وابنه اللذين يحبهما كثيراً.  

النص واللغة السينمائية

سيناريو الفيلم  متماسك ذو بناء متين، تشويقي لا تنكشف الحقائق فيه إلا تباعاً وفق تصاعد درامي تقليدي للأحداث، ولا يعرف المشاهد ماضي الشخصية الرئيسية (روزاريو) إلا عبر أحاديثها التي تدور مع دييغو (الابن) ليتكون لدينا في النهاية فكرة شاملة عن هذه الشخصية التي رغم إجادة توني سيرفيلو لها وتقديمهُ مفارقاتها وتركيتها الازدواجية، لكنها تفتقر إلى العمق وكانت تحتاج الى تكثيف أكبر لأنها تحتمل هذا فالغنى والتنوع في هذه الشخصية كان ضروريا ً إلا أننا لانراه إلا بشكل بسيط في الفيلم.

 وكان من الضروري الإضاءة على ماضيها بشكل أوسع، فكان يمكن الاستغناء عن بعض التفاصيل والمواقف التي تبرز لنا بعض سمات هذه الشخصية لأنها ليست إلا عبارة عن ثرثرات يمكن الاستغناء عنها واستبدالها بمواقف أقوى وأحداث أقوى.. كالحوار الذي يجري في بداية الفيلم بين روزاريو ومساعده الطاهي الايطالي حول استغراب الأخير من طهي روزاريو للسرطانات البحرية مع الخنزير البري الذي اصطادهُ روزاريو بنفسه في المشهد الأول في الفيلم- وهنا تلميح ذكي لإظهار روزاريو الذي كان يقتل البشر سابقاً أنهُ أصبح يقتل الخنازير حالياً أي أن مهنة القتل مستمرة لكن تجاه نوع آخر من الكائنات الحية.

وكان يمكن استبدال هذا الموقف بموقف آخر أنضج يظهر سمات روزاريو المرحة، أما الكارثة التي وقع النص فيها والتي تظهر تسرع صناعهُ فتتجلى في حدثين اثنين في نهاية الفيلم: الأول حين تصل العصابة الإيطالية إلى المتجر الذي يجلس به روزاريو مع ولديه دييغو والصغير لاصطحاب روزاريو معها، فيرون ابنه الصغير الذي طلب منه روزاريو قبل أن يغادر مع العصابة أن يبقى مكانه ينتظر والدته حتى تأتي لاصطحابه ثم يغادر هو ودييغو بالسيارة والعصابة تتبعهم. والتساؤل هو ألم يكن باستطاعة العصابة بعد هروب روزاريو وفشلها في القبض عليه وقتلهُ أن تعود إلى ذلك المتجر وتخطف ابنهُ الصغير وتهددهُ بقتله إذا لم يسلم نفسهُ؟!

 وحتى لو افترضنا أن هذه العصابة لا تعرف أن هذا الصبي هو ابن روزاريو، وأنه مجرد صبي صغير يهمهُ أمره، ألم يكن بإمكانها استخدامه كورقة ضغط على روزاريو؟!

أما السقطة الثانية للنص فتتمثل في ظهور روزاريو في إحدى اللقطات مصاباً في ساقه بعد هروبه من السيارة التي قتل فيها ابنه دييغو لنرى في لقطة بعدها – في الزمن نفسه- أنهُ يسير بشكل طبيعي ولم يصب!

عن الاخراج

يجمع المخرج كلوديو كوبليني بين الكاميرا الثابتة والمتحركة التي يستخدمها في أسلوب متماسك يوازن بسلاسة بين حركة الشخصيات داخل الكادر وحركة الكاميرا، فالصورة في الفيلم استخدمت في أكثر الأحيان للتعبير عن الحالة النفسية الداخلية للشخصيات كما في المشهد الذي يظهر به إدواردو ودييغو يجلسان حائران لايعرفان ماذا يفعلان بعد أن نفذا جريمتهما، ويتناقشان حول  طلب روزاريو منهما مغادرة  فندقهُ بسرعة، فينتهي النقاش ويغادر دييغو ويبقى إدواردو وحيداً فتبتعد عنهُ الكاميرا وترتفع للأعلى بحركة كرين بطيئة، تصوره من اعلى في لقطة عامة واسعة جداً تظهر كم هو ضعيف  وتائه  وصغير الحجم بالنسبة إلى المكان الذي يتواجد به.

كما استعملت الصورة في الفيلم رمزيا حين ظهر إبريق القهوة في لقطة قريبة وهو يغلي ثم انتقل الشريط إلى لقطة عامة يظهر فيها روزاريو والابريق معاً دلالة على أن روزاريو هو الذي يغلي من الداخل منتظراً أن يحين الوقت لتنفيذ جريمتهُ في حق إدواردو الذي يسهر في صالون النزل مع دييغو والطاهي الايطالي مساعد روزاريو يشربون النبيذ ويتسامرون. ولاننسى توظيف المكان توظيفاً جميلاً في الكادرات واستثمار جماليات المنطقة دون مبالغات بصرية.

أما الممثلون اللذين أدوا شخصيات الفيلم فقد كان اختيارهم موفقاً فإن استثينا روعة العظيم توني سيرفيلو والصدق التي أدى به شخصيتهُ، فإننا سنرى أن معظم شخصوص الفيلم كان أداؤهم متميزاً وخصوصاً الممثل ماركو أفوري (دييغو) والممثلة الألمانية جوليان كولهير (زوجة روزاريو) يليهما الايطالي فرانسيسكو دي ليفا، والألمانية أليس داير، فكل ممثل أغنى الشخصية التي أداها وتماهى معها بعفوية دون تكلف أو مبالغة.

* ناقد من سورية

Visited 31 times, 1 visit(s) today