حكايات الأشباح.. رعب هندي يكمن في التفاصيل

Print Friendly, PDF & Email

الذين تربوا مثلى على أعمال ألفريد هيتشكوك، رائد أفلام الرعب في العالم، وعاشوا مع أنتونى بيركنز، المختل عقليا، وهو يمزق جثث ضحاياه في مشهد البانيو الشهير من فيلم ” نفوس معقدة” (سايكو) دون أن تظهر على الشاشة قطرة دم واحدة، هؤلاء لن تروق لهم أفلام الرعب المنتشرة على القنوات الفضائية هذه الأيام، أي الأفلام التي يظهر فيها المسخ ممسكا بمنشار كهربائي كي يطيح برقاب الضحايا يمينا ويسارا في سعادة من يفوز في واحدة من ألعاب البلاي استيشن.

فالرعب الحقيقي في نظري، هو الذي ينبع من التفاصيل الصغيرة والأفكار المفزعة. هو الذي يأتي من حركة ستار، أو مقبض باب، أو صرير بوابة حديدية صدئة في منزل مهجور.

الرعب الحقيقي يهجم عليك ويستحوذ على كل كيانك عندما تكتشف فجأة أن زوجتك التي تشاركك الفراش، وأولادك الذين اعتدت أن تقبّلهم كل صباح، وزملاءك الذين ينافسونك في العمل، وأصدقاءك الذين تفضى إليهم بأسرارك الخاصة، وعامل المصعد وسائق الميكروباص وبواب العمارة وصاحبة السوبر ماركت، كل هؤلاء مجرد أشباح، رحل أصحابها عن الدنيا منذ زمن بعيد!

لهذه الأسباب توقفت عند الفيلم الهندي “حكايات الأشباح” Ghost Stories الذي عرضته منصة نتفليكس في ٢٠٢٠، وهو الفيلم الثالث من بين ثلاثة أفلام لكاران جوهر، وديباكار بانيرجي، وزويا أختار، وأنوراج كاشياب، ويسبقه فيلم Bombay Talkies في عام 2013 وLust Stories في عام 2018.

  والمخرجون الأربعة يمثلون تيارا جديدا في السينما الهندية يحاول أن يتجاوز السينما التقليدية، ويقدم شيئا مختلفا، وهو سبب آخر يدفعنا لمناقشة الفيلم.

مرت السينما الهندية بعدة مراحل، بدأت بالميلودرامية، ثم الغنائية الاستعراضية، ثم تحولت إلى لون هجين، يجمع بين الروح الهندية والشكل الأمريكي الهوليوودي، إلا إنها فقدت كثيرا من روحها الكلاسيكية التي كانت تميزها، وفي الوقت نفسه لم تستطع أن تنافس هوليوود، لأنها، في التحليل الأخير، كانت تقدم نسخا مكررة من أعمال أمريكية وأوروبية ناجحة لا تنتمي للثقافة الهندية الأصيلة مثل “جيمس بوند” و”رامبو” و”راقص الديسكو”. بالرغم من النجاح الكبير الذي حققه هذا الأخير.

وينسحب الأمر نفسه على أفلام الرعب، فبالرغم من أن الثقافة الهندية مليئة بالأساطير والقصص الشعبية التي تصلح لأن تكون مادة خصة لأفلام الرعب، إلا أنها بنت تراثها السينمائي المرعب على أساس من تيمات غربية دموية مثل الزومبي ومصاصي الدماء. وفي واحدة من المحاولات الجادة التي تهدف إلى كسر هذه التقاليد السينمائية المستوردة من ثقافات غربية مختلفة يأتي فيلم “حكايات الأشباح” موضوع مقالنا.

الفيلم يحتوي على أربع قصص منفصلة، كل قصة لها مخرج وطاقم عمل مستقل، ولا يجمعهم سوى الرغبة في التجديد وبث الرعب في نفوس المشاهدين، غير أن الرغبة في التجديد تجعل بث الرعب ليس غاية في حد ذاته، بل وسيلة لغايات أخرى اجتماعية وسياسية ونفسية، وإن جاءت بحمولات إيديولوجية أخف.

القصة الأولي التي أخرجتها “زويا أختار” تدور الأحداث حول ممرضة شابة (جانفي كابور) ترعى سيدة مسنة (سوريخا سيكري)، تعيش وحدها بعد أن غادرها الابن قبل خمسة أيام ولم يعد. ترتبط السيدة بابنها الغائب، وترتبط الفتاة بشاب مستهتر، وتهتم الكاميرا برصد تفاصيل الحياة اليومية داخل البيت، وهي حياة فقيرة التفاصيل، لأنها تدور حول العلاقة البسيطة التي يمكن أن تتولد من جراء رعاية الفتاة الشابة للسيدة المسنة المصابة بالخرف. ولا ينشأ الرعب إلا من خلال التصرفات الغريبة للسيدة، خاصة قدرتها على التنبؤ ببعض الأمور قبل حدوثها، وزاويا التصوير التي تجعلها تبدو كشبح يعبث في الظلام، ويصل الأمر للذروة في المشهد الذي تستدعي فيه الفتاة حبيبها لقضاء الليل معا في علاقة حميمية بعد أن أعطت السيدة منوما، غير أن حركة ما غريبة في البيت كانت تشعرهما بأنهما مراقبان، وهو ما تأكد بالفعل عندما اكتشفت أن السيدة جالسة في فراشها ولم تنم بعد!

وبالرغم من أن مجموع التفاصيل الصغيرة التي كانت تحيط بتصرفات السيدة العجوز هي التي كانت تضفي على القصة مسحة من الغموض وشيئا من الخوف، إلا أن صدمة الرعب الكبيرة أتت من الفكرة المروعة التي حملها مشهد النهاية، وهو مشهد تحركت فيه الكاميرا بذكاء بحيث لزم على المشاهد أن يكتم صرخة الفزع ويتوقف قليلا عن الاندماج مع الفتاة الذاهلة عن الوجود كي يفهم المعنى الإنساني العميق الذي كان يقف وراء التفاصيل البسيطة لهذه القصة.

في القصة الثانية التي أخرجها “أنوراج كاشياب”، نتعرف على “نيها” (سوبهيتا دهوليبالا) التي ترعى ابن اختها المتوفاة أثناء تواجد الأب في العمل. يرتبط الطفل بـ”نيها” كأم بديلة تعويضا عن الأم التي ماتت، وترتبط هي به، وفاء للأخت وتعويضاً عن الفراغ الذي تعيشه في ظل عدم وجود أطفال ورفقة زوج منشغل. في الوقت نفسه تقوم برعاية بعض الطيور في الطابق العلوي من المنزل. وتمضي الأيام على وتيرة واحدة حتى تحمل “نيها” وتهيئ الأسرة نفسها لاستقبال مولودها الأول.

البعد الاجتماعي، الواقعي، يبدو واضحا في النصف الأول من القصة، لكنها تأخذ مسارا سيريالياً في النصف الثاني عندما يختلط الحلم بالواقع، ويختلط الواقع بالوهم، ويعجز المشاهد عن التمييز بينهما. فالاختيارات التي يضعها السيناريو لتفسير واقعة إجهاض “نيها” ليس من بينها شيئا منطقيا، ولا سبيل سوى اللجوء إلى الأسطورة أو السحر، وتأتي الأسطورة من مقولة الأم لابنتها في الصغر أن من يلمس بيض طائر لا ينجب أبدا، كما يأتي السحر، غير المبرر، من رفض الطفل لفكرة وجود طفل آخر يمكن أن ينازعه الاهتمام، فيقوم بإجهاض خالته على الورق ما يؤدي إلى إجهاضها على الحقيقة.

وتتوحد “نيها” مع الطائر الكبير وهو يأكل صغاره في مشهد دموي لا يتناسب مع أجواء القصة الاجتماعية، الأكثر حميمية، ولسبب ليس مفهوما، يستخدم المخرج الأبيض والأسود لسرد أحداث القصة، ولا نجد تفسيرا لذلك سوى ضبابية الفكرة وانعدام اليقين في الأحداث. وفي كل الأحوال، يظل الرعب كامنا في غرابة الفكرة، ودقة التفاصيل.

القصة الثالثة التي أخرجها “ديباكار بانيرجي”، وهي الأكثر رعبا ودموية، تبدأ بوصول أحد الأشخاص (سوكانت جويل) في الليل إلي قرية نائية، تخلو من ساكنيها، ولا يظهر للزائر الغريب سوى طفلين صغيرين (ولد وبنت) يتصرفان بغرابة طوال الأحداث، ويفهم الزائر منهما أن والد البنت أصيب بعدوى تحوّل على أثرها إلى آكل للحوم البشر، وأن العدوى انتقلت إلى أهل القرية كلها، ونجا فقط هذان الطفلان اللذان يعيشان على حليب فاسد وبصل نيئ يحصلان عليهما من حظيرة مجاورة.

لا يصدق الزائر ما رواه له الطفلان، إلا عندما يقرر أن يخرج إلى الشارع بعد طلوع النهار، ويتعرض لهجوم ضارٍ من أكلة لحوم البشر، بل ويشاهد بعينيه مشهدا دمويا مروعا يأكل فيه الأب الوحش ابنته الطفلة الصغيرة!

بالرغم من دموية المشاهد إلا أن الرعب يأتي من الفكرة، فكرة أن سكان القرية جميعهم تحولوا إلى كائنات متوحشة تتغذى على لحوم البشر، وأن الزائر الغريب سيظل هدفا لهذه الكائنات ما لم يتحول هو أيضا إلى وحش مثلهم، وهي فكرة رمزية عبّر عنها المخرج في مشهد ذي دلالة عندما قام الزائر والطفل الباقي على قيد الحياة بطلاء وجهيهما وملابسهما بدماء الضحايا حتي يستطيعا النجاة، ما يعني أنه لكي تستطيع العيش في عالم فاسد ينبغي عليك أن تكون فاسدا أو على الأقل تتظاهر بالفساد، وهي دلالة اجتماعية وسياسية، فضلا عن الدلالة السياسية المباشرة التي أتى بها الحوار الختامي للقصة على لسان رجال الإنقاذ، وكذا تقسيم المجتمع إلي “بيج تاون”- بلدة كبيرة و “سمول تاون”- بلدة صغيرة، واهتمام السلطات بالأولى وإهمالها للأخيرة، الذي وضح منذ الدقائق الأولى للقصة.

القصة الرابعة التي أخرجها “كاران جوهر”، يغلب عليها الطابع الرومانسي الاجتماعي، فهي تدور حول “إيرا” (مرونال تاكور) و”دروف” (أفيناش تيواري) وهما يتزوجان زواجا تقليديا، وعندما تدخل “إيرا” في أسرة “دروف” تلاحظ ارتباطه الشديد بجدته التي توفيت منذ عشرين عاما، وأن هذا الارتباط ليس مجرد شعور نفسي تجاه الجدة التي كان يكن لها الكثير من الاحترام، لكنه ارتباط حياتي متصل يجعله يتصرف وكأنها مازالت على قيد الحياة، فيتحدث إليها باستمرار، ويأخذ رأيها في كل كبيرة وصغيرة في حياته، ما أثار حفيظة زوجته الشابة، وجعلها تتمرد على حياتهما معا، بل وتحاول الانتقام من الجدة بالرغم من أنها لا تراها!

خلافا للقصتين الأولى والثالثة، بدأت الأحداث بمشهد رومانسي يجمع بين الشابين في بداية تعرفهما وهما يتمشيان في ساحة قصر عائلة دروف الذي بنته الجدة، وهو مشهد مفعم بروح الحياة والمرح، يكشف عن شخصيتين تتمتعان بخفة الظل والرغبة في خوض حياة زوجية ملؤها الأمل والسعادة، غير أن تصرفات “دروف” وأسرته، فيما بعد، لم تكن تخلو من غرابة وغموض، بل يمكن أن يقال الشي نفسه عن جميع سكان القصر بما فيهم الخدم الذين كانوا يتصرفون على نحو يجعلهم يبدون وكأنهم يمارسون طقسا سريا!

أهم ما يميز هذه القصة هو كادراتها ذات الألوان المبهجة التي تعكس فخامة القصر والحياة الأرستقراطية التي يعيشها ساكنوه، وفي هذا السياق نجح المخرج في التعبير عن ذلك الشعور بالتناقض الذي انتاب “إيرا”، وانتقل إلى المشاهد، نتيجة الجمع بين العناصر البصرية التي تعبّر عن قوة الحياة وتلك التي تشير إلى الحضور اللافت والملغز للموت.

تعتبر هذه القصة هي الأقل رعبا، لكنها الأكثر قدرة على التعبير عن مشاعر الخوف عندما تأتي من أشخاص عاديين وأشياء شديدة الحميمية. ومثل القصتين الأولى والثالثة تنتهي القصة بالتواءة تجعل المشاهد يعيد النظر في التفاصيل الصغيرة التي بدت عادية ولم تكن كذلك، ومن ثم يمكنه أن يفهم سر الغموض والغرابة اللذان كانا يكمنان في هذه التفاصيل.

ويُلاحظ أن القصص الأربع تسيطر عليها فكرة الارتباط بين الأحياء والأموات، الأم والابن في القصة الأولى، والحفيد والجدة في القصة الأخيرة، وبين الأحياء والأحياء، ابن الخالة والخالة في القصة الثانية، والابنة والأب في القصة الثالثة، وهي فكرة تجد أساسها في المعتقدات الشرقية. كما تسيطر فكرة الاغتراب على بنية السرد، فدائما هناك شخص تدفعه الظروف إلى الدخول في عالم جديد يجعله يشعر بالاغتراب، ويأتي الرعب من عدم فهم الشخص حقيقة هذا العالم الذي يبدو في تفاصيله غامضا وغريبا. وهي فكرة تجد أساسها في الفلسفة الغربية. وفي كل الأحوال، تحتفي مجموعة القصص بكل ما هو إنساني، سواء أكان شرقيا أو غربيا.

وبنظرة إجمالية يمكننا القول إن فيلم “حكايات الأشباح” نجح في تقديم رؤية مغايرة للرعب، لا تقوم على خيال جامح متخم بالعنف وسفك الدماء، لكن من خلال موضوعات اجتماعية وإيقاع هادئ محمل بتفاصيل يومية بسيطة، وأن الرعب يكمن في غرابة الفكرة وغموض التفاصيل. فالمشاهد يرى عوالم مألوفة تشبه عالمه الطبيعي في الواقع، لكن ثمة شعور بالقلق يتسرب إليه من أن ثمة شيئا ما غامضا يعمل في الخفاء خلف هذه العوالم التي تبدو مألوفة.

وهذا في نظرنا ما ينبغي أن يكون عليه الرعب السينمائي، إذا أردنا رعبا فنيا وجماليا، يهتم بالصورة ويحمل مضمونا فكريا يتجاوز مجرد الرغبة الإخراجية السادية في تحطيم الأعصاب وإصابة المشاهد بنوبة من الهلع!

Visited 2 times, 1 visit(s) today