“عمل من أعمال الحرب”: جحيم العودة إلى الوطن

يمكن القول إن فيلم “عمل من أعمال الحرب” An Act of War وهو الفيلم الأول للمخرج الشاب ريان كنيدي، أحد أكثر الأفلام الأمريكية التي ظهرت في العام الجاري، تميزا في الأسلوب واللغة السينمائية والاهتمام بأبعاد الشخصية الرئيسية، وبالأبعاد الدرامية التي تصبغ الفيلم بشكل عام. إنه بلاشك، أحد الأفلام المستقلة المثالية، أي أنه ينتمي بالتأكيد إلى سينما الفن، سينما التعبير عن رؤية للعالم، للمجتمع، لأزمة الفرد في إطار المعطيات السياسية والاجتماعية. وهو أيضا فيلم أمريكي تماما، في تعبيره الصادق عن اغتراب الفرد عن “المؤسسة”، او تلك القسوة التي تدخرها المؤسسة لمن انصاعوا لنداءاتها، شاركوا في حروبها الخارجية، ثم أصابهم ما أصابهم من دمار نفسي واغتراب روحي واجتماعي.

يتميز الفيلم بأسلوبه الخاص في التعبير عن عزلة بطله واغترابه وشعوره بالنبذ بعد عودته من الحرب في العراق، وقد عاد كبطل قومي، مُنح نوط الشجاعة بسبب صموده لثمانية أشهر في الأسر، حيث تعرض للتعذيب دون أن يعترف بما كان مطلوبا منه الاعتراف به.

هوس الشخصية

هناك شيء ما في شخصية هذا البطل- اللا بطل “جيكوب نيكز”، يذكرنا على الفور بترافيس بيكل، بطل فيلم سكورسيزي “سائق التاكسي” (1976)، فهو مثله، يعود من الحرب لكي يجد أن ما كان يحارب من أجله لا يساوي ما جناه من الم وتشقق داخلي وندوب روحية تجعله يعاني الأرق الحاد والانفصال عن الواقع وعدم القدرة على التكيف مع الحياة المدنية. وبسبب عدم قدرته على النوم، يلتحق جيكوب بالعمل كعارض للأفلام في دار سينما بنيويورك، من تلك الدور العتيقة المهملة التي تعرض الأفلام طول الليل لمجموعة من الزبائن الذين يبدون وكأنهم كائنات خرجت من كابوس ليلي!

جيكوب أيضا مهووس بالأفلام، تزدحم شقته الصغيرة بعشرات من عُلب الافلام والشرائط وآلة للعرض السينمائي، وهو يمارس الانعزال وحيدا لمشاهدة بعض ما صوره في الخارج، يستعين في تظهيره وطباعته برجل يدير معملا للتصوير، ومن هذه المشاهد ما صوره بكاميرا هاتفه المحمول خلال مهمته في العراق.

يتردد جيكوب على عاهرة روسية تدعى “إيفانا”، يريدها أن تصبح صديقة له، لكنها رغم تعاطفها معه تكتفي بمعاملته مثل أي “زبون” آخر. وعندما تكتشف ذات يوم أنه قام بتصويرها سرا وهما يمارسان الجنس معا، تثور وتغضب وتتهمه بالجبن والعجز والتقاعس عن انقاذ زميله من الأسر.

يلتقي جيكوب ذات صباح باكر، بعد أن يكون قد أنهى نوبة عمله الليلية في دار السينما، بشاب أسود يدعى “مارلون”، متردد، متلعثم، حزين، يبدو هائما محلقا في عالم آخر، وهو عاطل عن العمل يعيش على هامش المجتمع، يمتهن وسيلة للعيش من خلال بيع الهيروين للشباب. بعد تردد، يقبل مارلون دعوة جيكوب لتناول قدح من القهوة، ويلح عليه جيكوب أن يمنحه بعض المخدر فيستجيب مارلون إلا أنه يحذره من مخاطر الإدمان.

يزداد نهم جيكوب للمخدر، وتتدهور حالته النفسية أكثر، وتتصاعد حدة البارانويا لديه بشكل ينذر بالخطر، فهو مثلا يتصور أن هناك من يراقبه، ويتخيل رجلا يرتدي معطفا وقبعة يسري وراءه ويتخفى في جنبات الطرق المظلمة المهجورة ليلا. وذات مرة يواجهه ويصرخ في وجهه أن يتركه وشأنه لكن الرجل يصر على أن يعطيه شريطا ليشاهده. هذا المشهد يعكس الخلل النفسي للشخصية الرئيسية لأننا سنرى بعد ذلك أن “إيفانا” لا ترى ذلك الشخص الذي هو محض خيال نابع من نفس مضطربة.

يبدأ الفيلم بمحقق يزور شقة جيكوب المهجورة بعد أن يكون قد وصل إلى نهاية قصته، يتأمل قصاصات الصحف التي تغطي جدار غرفته، كلها تمتليء بأخبار عن جرائم عنف يرتكبها جنود سابقون من المارينز، وينتهي بالمحقق وهو يستدعي شقيق حيكوب لكي يتعرف على صورته ويسلط بعض الأضواء على التغير الذي حدث لشقيقه منذ عودته من الخارج: “شقيقي بطل من أبطال الحرب.. صمد لثمانية أشهر في الأسر.. لقد قتلوه.. عاد جسده الى الوطن.. لكنه كان قد مات”.

وبين البداية والنهاية، وهما مصوران بالألوان، يأخذنا الفيلم في رحلة بالأبيض والأسود داخل عقل جيكوب المضطرب المشوش، الذي ينتهي إلى تفجير الغضب المكتوم باللجوء لأقصى درجات العنف، انتقاما من المجتمع الذي أهمله وتجاهله وساهم في تدميره.

هناك تأثير مقبض لهذا الفيلم على من يشاهده، تأثير كالمنوم، يخدرك ويستدرجك للاندماج معه في رحلة البطل نحو الدمار الذاتي. ويتبع المخرج ريان كنيدي هنا أسلوب “الفيلم – نوار” في استخدامه التعبيري المؤثر للتصوير بالأبيض والأسود، من خلال إضاءة خافتة، وزوايا مرتفعة غريبة للكاميرا، والتركيز على الشوارع الخاليىة من البشر ليلا، وجنبات الطريق التي تخفي أكثر مما تظهر، مع شريط صوت هائل في تعبيره عن التدهور التدريجي الذي يقود في النهاية إلى النهاية التراجيدية للفيلم.

عن التمثيل والإخراج

هذا فيلم محدود الإمكانيات، من الناحية الانتاجية، متماسك من ناحية البناء،  متميز في أسلوب الإخراج والتصوير، وفي اختيار مواقع التصوير والديكورات، كما يتميز أيضا بأداء تمثلي رفيع. ولاشك أن المخرج الشاب الذي قضى عامين يكتب سيناريو فيلمه بينما كان يعمل نادلا في أحد مطاعم نيويورك، وفق كثيرا في إسناد الدور الرئيسي للممثل روس روسو (حصل بعد أدائه المتميز في هذا الفيلم على أربعة أدوار في أفلام روائية جديدة). إنه يجيد تجسيد شخصية جندي المارينز العائد محطما الى الوطن، لكي يعتزل الحياة المدنية، يقضى الليل في العمل كعارض للأفلام، ويصل في هوسه ذات مرة الى حد عرض الشريط الذي التقطه مع صديقته “إيفانا” على الجمهور مما يؤدي إلى  فقدانه الوظيفة!

ويبدو روس متماثلا تماما مع الدور، فهو يعبر بنظراته الصامتة التي تخفي جنونه الخفي، بحركة يده المتوترة، بتحديقاته في الشرائط التي يعرضها في غرفته باستمرار، بصوته الهامس الذي يبدو مدفوعا بقوة داخلية غامضة، إلى أن يصل في جنونه إلى نهايته المحتمة، ولكن من دون مبالغات في الأداء.

تزوره “إيفانا” في شقته ذات مرة، يفشل في ممارسة الجنس معها، تطلب أن يقص عليها ما وقع له. يرفض بقوة.. تغضب، ترتدي ملابسها وتشرع في مغادرة المكان. يأتي صوته عبر شريط الصوت من خارج الكادر: “لقد تعرضنا لكمين”. تتوقف الكاميرا على ظهر الفتاة من أعلى قبل أن تغادر الشقة، تنتقل الكاميرا إلى وجه روس في لقطة قريبة “كلوز أب” وهو مطرق الرأس، يواصل سرد قصته وكيف تعرض للتعذيب هو وزميله، ثم كيف مزقوا جسد زميله لإرغامه على الإدلاء بما يريدونه منه، قائلين له إن اعترافه كفيل بانقاذ حياة زميله هو. لكنه لم يفعل، وهذا مصدر شعوره بالذنب.

هذه اللقطة القريبة لوجه روس تستغرق ثلاث دقائق وثلاث ثوان. وهو يصمد أمام الكاميرا دون أن يواجهها بعينيه، بل يظل مطرق الرأس، يتحدث ثم يتوقف لبرهة قبل أن يواصل الحديث بنبرة صوت تشي بالأسى والألم، تنهمر دموعه، لا يقطع حديثه الأقرب إلى “المونولوج” سوى لقطة واحدة للفتاة وهي تلتفت ناحيته، وتبدو متأثرة.

يعكس المشهد، ليس فقط القدرة التمثيلية العالية لروس، بل أسلوب المخرج في استخدام أحجام اللقطات، في الانتقال بالقطع في الوقت المناسب من لقطة إلى أخرى، في توظيف اللقطة القريبة، “كلوز أب”، لوجهي الممثل والممثلة بطريقة درامية مؤثرة. قد يكون حديث الشخصية أطول مما ينبغي، لكن هذا المشهد تحديدا، وهو الوحيد الذي يعترف فيه البطل المهزوم بضعفه، هو مشهد مفصلي في الفيلم، فهو يرتبط بالمشهد الذي سنشاهده فيما بعد، عندما تهزأ منه إيفانا وتتهمه بالتقاعس والجبن ليصبح هذا المشهد مفجرا لغضبه الذي سيقوده إلى “المذبحة”.

على شريط الصوت نسمع مزيجا من الموسيقى المكتومة الرتيبة التي تشي بالتوتر، وصوت بطلنا الذي يأتي من خارج الصورة، تتابعه الكاميرا في حركة بطيئة ممتدة من مشهد إلى آخر، وهو في شوارع المدينة الخالية في الصباح الباكر، ثم وهو يستحم داخل حمام شقته، ثم وهو يتسلح بأسلحته، يرتدي حذاءه الثقيل، يأتي صوته ليقول لنا إنه “لا مفر مما اعتزم القيام به، ولم يعد ممكنا العودة عنه الآن، وإن ما سيقدم عليه هو قربان وفداء للإنسانية جمعاء”!

إن “عمل من أعمال الحرب” هو درس للسينمائيين العرب الشباب الراغبين في صنع أفلامهم “المستقلة” في بلاغته وتأثيره ورونقه وأسلوبه المتميز بعيدا عن هستيريا المبالغات.   

Visited 34 times, 1 visit(s) today