“عزيزة”: انسدادُ الطريقِ مِن الجهتين!
هدى جعفر
ماذا يعني أن يتدرّبَ شخصٌ على قيادةِ سيارةِ وهي واقفة؟ المخرجةُ السوريّةُ سؤدد كعدان قدّمت إحدى الإجابات المُحتملة في فيلمِها القصير “عزيزة” (2019).
تسمح لنا كعدان هُنا بالتلصّصِ على حوالي 13 دقيقة من حياةِ زوجيْن سورييْن (كاريس بشار وعبد المنعم عمايري) حديثي اللجوء إلى بيروت مع “عزيزة”، وهي سيارة “فولكسواغن” حمراء تمثل أثمن ما تبقى للبطل من مقتنياته المجلوبة من بلده الغائب، وقد علّق على زجاجِها الأمامي صورة لساحة المرجة، وعلى المرآة الداخلية قطع من الزجاج تشبه الخرائط، وفي الخلف مروحة طاولة من طرازٍ قديمٍ.
نال “عزيزة” جائزة لجنة التحكيم الكبرى للفيلم القصير في جوائز مهرجان “صندانس” السينمائي، كما أنّه يُعرض منذ نهاية يوليو/تمّوز المُنصرم على منصة مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي، في إطار التعاون بين الأخير ومهرجان براغ للأفلام القصيرة، “عزيزة” سيناريو ومونتاج سؤدد كعدان أيضًا، والكتابة مشتركة مع مي حايك.
زمنُ القصةِ هو زمنُ الفيلمِ على الشريطِ السينمائيّ، يبدأُ العملُ من زوجيْن داخل سيارة، وينتهي عندَ سورٍ إسمنتيِّ أمام بحرِ بيروت الذي يُسمع ولا يُرى.
تفتتح الكاميرا القصةَ في لقطاتٍ قريبةٍ من الوجوهِ، الصورة مهزوزة، ومبتلّة، ومتردّدة، يبدو البطلان كأسيريْن في سجنٍ مُنعزل، الزوج يُمرّن زوجته على قيادةِ “عزيزة” في شوارع بيروت، صابًا على مسامعها نصائح متعددة لتلافي أي حوادثٍ أليمة في البلد الغريب الذي لا يرحّب كثيرًا باللاجئين، السيارة تبدو أنّها تسير في يومٍ ماطر، وأنّ الطريق غير معبّد، لكن بعد دقائق قليلة جدًا نكتشف أنّ البطلةَ تتمرّن و “عزيزة” واقفة لا تتحرك داخل مرآب مظلم.
“عزيزة” على اللاطريق
يُمكن بلا ترددٍ إدراجُ فيلم “عزيزة” ضمن ما يُسمّى بأفلام “الطريق”، وهو “جانرا” سينمائي فرعي يسحب تحته العديد من روائع السينما من حول العالم، في أفلام الطريق تنطلق السيارة/عربة الخيول/الحافلة من مكانٍ إلى آخر، لكن لا يذهب الأبطال إلا إلى ذواتهم، في رحلةٍ نحو الأعمق، نحو الأكثر ظُلمة، وينتهي العملُ بتغيّر حيواتهم إلى الأبد، والقائمة هنا طويلة فعلًا، ينتهي “عزيزة” عند سورٍ إسمنتيّ حاجبًا البحر، إنّ الأفلام التي تنتهي عند البحر أكثر من قدرة أيّ ناقدٍ على العد، وقد تعني هذه النهاية أشياء لا حدّ لها، فقد تشير إلى تمتع المرء بسخرية الأقدار صفر اليدين كما في “أحلام هند وكاميليا” لمحمد خان، أو الحرية والخلاص مثل “400 ضربة” لفرانسوا تروفو، أو تكثيف اللاعودة والولادة من جديد كـ”لا سترادا” فيلليني، وغيرها من النهايات، أما أن يحول الإسمنتُ بين البحرِ و”عزيزة” فذلك واضح بما يكفي.
وكما ينصُّ أحد قوانين نيوتن، وِفق كتاب ” من قام بطهي عشاء آدم سميث؟”، بأنّك كي تفهم شيئًا لا بد أن تُجزّئه، يشعر المشاهدُ أنّ المُخرجة قد جزّأت مخاوف اللاجئ حتى وصلت إلى علاقةِ البطليْن بعزيزة كي نفهمَ أكثر، يغرقُ البطلان في تمثيليةٍ تُضحك وتُبكي تحت وطأةِ الاغترابِ والانتزاعِ القسريّ من بلدهما، فيخرج الزوجُ من السيارةِ ويؤدي ما يُشبه المشهد المسرحيّ بأنّ زوجته قتلت رجلًا، ثم يتمنى بأنْ يكون الميّت سوريًا وليس من أبناء البلد المُضيف، لا دماء ولا قنابل ولا شظايا، بل لا جثة من الأساس، فقط هذه الجملة تُجسّد لنا تفاصيلَ الفاجعةِ.
13 دقيقة عن عدم النجاةِ
إنّ التعاطي مع أمرٍ هائلٍ كالحرب ليس شرطًا أن يُنتج أفلامًا “هائلة”، لكن سؤدد كعدان أجادت التقاط “عاديِّة” اليوم جاعلةً منه مسرحًا لاستعراضِ معنى أن تقضي وقتك ابنًا لحربٍ متّسعة من الصعب تخمين مآلاها.
خلال دقائق الفيلم يكرر الزوجان الانغماس والخروج من الذاكرةِ والخيالِ والأملِ الذي يصلُ إلى حد التبجّح في حالةٍ حادةٍ من الانفصالِ عن الواقعِ، فيتوصلان إلى حيلةٍ تُساعدُ الزوجةَ في قيادة السيارة بالتخيل أنّهما في الوطن، ثم يُمعنان في الأمل بأنّ الحرب قد انتهت وأن أصدقائهما قد عادوا من الشتات مع أبنائهم الذين لا يقولون كلمة عربية واحدة.
هناك مشهد مُشابه، أي الانفصال بالأملِ عن الواقعِ، في فيلم كعدان الطويل “يوم أضعتُ ظلّي” بين البطلة والشاب المسلح في الغابة ذات الأشجار العارية، ينتهي بطلقةِ رصاصة في جسدِ ميّتٍ.
وكما تنفعل البطلةُ على عزيزة وتضربها بيديها، تنهال سنا (سوسن أرشيد) في “يوم أضعتُ ظلّي” بالسبابِ والضرباتِ على الغسّالة شاتمةً إياها بـ”يلعن دينك”، فتفريغ القهر في الآلات الصمّاء، إذن، هو كل ما يمتلكه الأبطالُ من وسائلِ التنفيسِ حسب رؤية سؤدد كعدان.
انغلاقٌ من الطرفيْن
كل شيء في “عزيزة” عالق، ومأسور، وغير منظور في أمره، حتى أسمهان التي نسمع أغنيتها غير مرة، فقد ابتلع جسدها الماء في حادثةٍ غامضةٍ لم تُحلّ منذُ 75 عامًا، وصوتها الفاتن وهي تُناشد أن ” يا حبيبي تعالى الحقني شوف اللي جرالي” يبدو كنداء استغاثة من “عزيزة” ومَن فيها، ومَن على شاكلتهم.
في فيلم الرعب “كريستين” (1983) المقتبس من رواية ستيفن كِنغ، نشاهد كريستين السيارة الحمراء مسكونة بروحٍ مثيرة ومتلاعبة، وقاتلة، وعندما يُسأل البطل المولع بها عن سبب شرائها يقول لأنّي أخيرًا وجدتُ شيئًا أكثر قبحًا مني، وهذا العام في مهرجان الـ”أوسكار” كان هناك الفيلم اليابانيّ “قودي سيارتي” عن قصة قصيرة لهاروكي موراكامي وفيه سيارة حمراء أخرى شهدت تحوّلات أبطالها يومًا بعد يوم، وبين الفيلمين يوجد “عزيزة” التي ينتهي الفيلم والكاميرا في جوفِها، في انحباسٍ أبديّ داخلها، وخلف مِقودها، من هي “عزيزة”؟ أهي السيارة؟ دمشق؟ الذاكرة؟ الأمنية؟ أم كل ذلك؟
“عزيزة” فيلم بفكرةٍ مُبتكرة، حلو وقاسٍ، ومُقرّ باليأس، إذ أنّ التلويح بالأمل في هذا المقام محض فظاظة وتجنٍ على الواقعِ، والتذكّرِ، والعاطفةِ الإنسانيةِ، لأنّ الاعتراف بالفقدانِ الأبديّ للأشياء العزيزة تكريمٌ لها أحيانًا.
والتمثيلُ كان عزفًا موزونًا من البطليْن النجميْن.
في روايةِ الكاتبِ والشاعرِ السوريّ ماهر شرف الدين “أبي البعثي” الذي تناول فيه سيرةَ ابنٍ مع والده الديكتاتور يقول: “أن تكون سوريًّا في ساحةِ الشهداءِ (اللبنانية) يعني أن تكونَ سوريًا يتذكر، لا أفظع من سوري يتذكّر!”
وحقًا، في “عزيزة” يعرف المشاهدُ كم أنّ ذلك فظيعًا وساحرًا في آن، وألا أسوأ من السوري الفاقد لعقله، إلا السوري الذي يتذكّر، او رُبّما: ناجي الحرب الذي يتذكّر في مكانٍ تُسدّ فيه جميع المنافذِ حتى شاطئ البحر، إن كانت تلك الحالةُ نجاةً من الأساسِ!