“عاش يا كابتن”.. فوضى بصريَّة قليلة الجدوى

“عاش يا كابتن” (أسلوب تشجيع واستنهاض بالعاميَّة المِصريَّة) فيلم تسجيليّ مصريّ، لصانعته “مي زايد”. وقد عرضته منصة “نتفليكس” في الأيام الأخيرة؛ ليكون أوَّل فيلم تسجيليّ عربيّ تبثُّه المنصة.

في العموم الفيلم يعرض تجربة سينمائيَّة قد تتعرَّض بالقسوة في التقدير لكثير من الرُّؤى الفنيَّة العاقلة، والفيلم بتنفيذه يُحرِّضُك ويَستعدِيْك عليه، بل قد يستفزُّك للنفور منه. فهو فيلم مختلف إلى حدّ بعيد عن الأفلام كمبدأ جماليّ، وعن فنّ الفيلم -أيًّا كان جِنسُه- والذي يعتمد على “النظام” في العمل. ولعلَّ هذا التنبيه يبدو مُستغربًا في نظر القارئ؛ الذي سرعان ما سيدرك الغرض منه منذ دقائق الفيلم الأولى. فالفيلم فوضى بصريَّة عارمة، وطوفان من “اللاشيء”.

وكي لا نظلم التجربة التي استطاعت الذهاب بعيدًا -والتي بالقطع ستجد كثيرًا من أصوات التهليل لها- سأحاول اللجوء إلى الموضوعيَّة قدر الإمكان، والتعامُل مع الموجود على الشريط على أنَّه اختيار فنيّ. وسأتغاضى تمامًا عن اتهاماتٍ وُجِّهتْ للمخرجة بسرقة الفكرة والمُلصق من غيرها.

الفيلم يدور حول بعض المحاولات الفرديَّة للتدريب على رياضة “رفع الأثقال”؛ حيث فتاة صغيرة تُدعى “أسماء رمضان”، ومُدرِّبها واسمه “رمضان عبد المعطي”. يحاول “رمضان” أنْ يُدرِّب الفتيات على تلك الرياضة، خاصَّةً بعد أنْ استطاع أنْ يصنع من ابنته “نهلة رمضان” بطلة عالميَّة فيها. ويتابع الفيلم جهود “رمضان” من ساحة التدريب المُفتوحة على الطريق، في أحد شوارع محافظة “الإسكندريَّة”.

مكان الفيلم هو تلك الساحة التي هي قطعة أرض مليئة بمُخلَّفات البناء، وبعض القمامة، ولا شيء عليها يصلح للتدريب. ويتابع الفيلم جهود “رمضان” في تحديث الساحة، وتسويرها، وتشجيرها. أمَّا زمان الفيلم فسنوات أربع- حسب الظاهر- حيث بدأ الفيلم و”أسماء” في الرابعة عشرة وانتهى وهي في الثامنة عشرة من عُمرها.

ويعرض الفيلم مراحل اشتراك “أسماء” مع مدرِّبها في بطولات متدرِّجة؛ بطولة المحافظة، ثُمَّ بطولة الجمهوريَّة، ثُمَّ بطولة إفريقيَّة. وكذا يعرض بعض الفتيات الأخريات واشتراكهنّ في التدريب والبطولات، وكذا استجداء “رمضان” للمسئولين ومحاولة استمالتهم للاشتراك بأيَّة أموال أو قرارات تُساعد الساحة وأبنائها على مُهمَّتهم؛ خاصَّةً مع سبق حصول فتياته على كثير من البطولات المحليَّة والعالميَّة، أيْ أنَّه مشروع مثمر وناجح يستحقُّ الدعم. يتحوَّل الفيلم ذو التسعين دقيقةً تحوُّلًا واحدًا؛ عندما يتوفَّى المدرب “رمضان”.

وأوَّل ما يقابلنا هو عدم تحديد وجهة موضوع واستهداف الفيلم؛ ما هو هدف الفيلم؟ هل هو عرض تحدِّي “أسماء” ورحلة صعودها، بوصفها تكرارًا لرحلة “نهلة رمضان” وغيرها من الفتيات؟ أمْ عرض الساحة وجهود الجميع في إنجاحها؟ أم هي استعراض لشخصيَّة المُدرِّب “رمضان” نفسه؟ ففي الوقت الذي يوحي لنا الفيلم أنَّ “أسماء” هي هدفه الأوَّل والأخير؛ بدليل تقسيم الفيلم على سنوات عُمرها وحدها، نجد أنَّ الاهتمام كُلَّه منصبٌّ حول المُدرِّب لا الفتاة. بل إنَّ الفيلم صار باهتًا جدًّا بموت المُدرِّب عند بلوغ ستِّين دقيقةً. وكأنَّه صارَعَ للوصول إلى تحرير ثلاثين دقيقة أخرى، كما نجد تأرجُحًا في تحديد منظور الرؤية المعنويَّة بين الإنسانيَّة العامَّة والنِّسويَّة.

لقد عجز الفيلم -أو بدقَّة لمْ يختَرْ طواعيةً- أنْ يقدِّم حياة بطلته “أسماء”؛ فلا نكاد نعرف عنها شيئًا، ولمْ يهتمَّ الفيلم بتعريفنا على تعليمها أو تغذيتها أو دوافعها نحو دخول المجال الرياضيّ، وهذه الرياضة خاصَّةً. وكلُّ هذه ليست أمورًا هامشيَّةً يحقُّ للفيلم التغاضي عنها أو تهميشها، والحقُّ أنَّ الفيلم أغفلها إغفالًا كاملًا. ولمْ يبقَ من “شخصيَّة” فيلميَّة إلا المُدرِّب “رمضان”؛ هذا الرجل العجوز المُتهالك الذي مجَّده الفيلم تمجيدًا واضحًا متعمدًا. والغريب أنَّ الفيلم حرص على تصوير لقطات من التلوُّث السمعيّ والخُلُقيّ البالغ على لسان الرجل؛ حتى لمْ يعُدْ صالحًا للمُشاهدة العائليَّة، ولمْ يعُد صالحًا لتقديم القُدوة للأجيال الشابَّة!

ولعلَّ الأصلح لبنية الفيلم التركيز على جوانب لمْ يُركِّز عليها- التي أشرت إليها- بدل التركيز على مشاهد طويلة يسبُّ فيها “المُدرِّب” مُجرَّد أطفال يلعبون في الشارع! وبالعموم قسَّمتْ الصانعة الفيلم أجزاءً على حسب سنوات البطلة، هذه التقسيمات جاءت واضحةً بكتابتها على الشاشة.

وأهمُّ محور نقاش في الفيلم هو أسلوب التصوير الذي مثَّلَ البنية الرئيسة للفيلم. فهذا الفيلم اقتصر على الصورة وحسب؛ في حين تجاهَلَ دور التعليق الصوتيّ الذي كان قادرًا على نقل الفيلم إلى مستوى آخر من التأثير والجودة، وكذا همَّش بشدَّة دور شريط الصوت. وأقصد هُنا كامل مُكوِّنات شريط الصوت: فليس هناك موسيقى فيلميَّة، وليس هناك حوار مُتعمَّد. والأسوأ هو أنَّ ما دار عَرَضًا -ولنُركِّز على كلمة عَرَضًا- لمْ يُسمعنا الفيلم إلا القليل منه لرداءة الصوت بالتشويش من أصوات أخرى، أو بانخفاض الصوت لعدم استخدام لواقط صوت خاصَّة. والصوت في هذا الفيلم بالغ الرداءة في العموم والخصوص.

ولمْ تترك صاحبة الفيلم لنفسها إلا أداةً وحيدةً هي التصوير. وتصوير الفيلم غريب بعض الشيء؛ وأستطيع أنْ أصفه لمَن لمْ يرَ الفيلم بتشبيهه بتصوير حفلات الزفاف والمُناسبات والمهرجانات- هذا الوصف يخلو تمامًا من السخرية-. حيث ترى الكاميرا تتجوَّل بلا هدف في أرجاء المكان، أو كأنَّها في انتظار اقتناص هدف. واعتمد الفكر العموميّ للتصوير على خفاء الكاميرا؛ بأنْ يظهر الأشخاص كأنْ لا كاميرا بينهم، ولعلَّ هذا القصد من الوصول إلى غاية الطبيعيَّة في تصوير الأشخاص قد أنسى صانعة الفيلم مبدأ الفيلم العامّ؛ أنَّه خَلقٌ فنِّيّ يعتمد على النظام. واعتماد الفيلم على النظام يهدف إلى الإنتاج المعنويّ؛ فليس هناك كبير جدوى من الفوضى.

وقد اعتمد التصوير على الإضاءة الطبيعيَّة لمحلّ التصوير، بغضّ النظر عن كونها لائقةً لتحقيق “إنتاج فيلميّ سليم” أم لا. وكأنَّنا نقول: الأهمّ أنْ نصوِّر وأنْ نملأ الشريط بغضّ النظر عمَّا إذا وصل التصوير إلى حيِّز التشوُّه البصريّ أو إذا وصل الصوت إلى التشوُّه السمعيّ. وقد نسي الفيلم المبدأ الجماليّ وقلَبَهُ إلى لا مُبالاة واضحة، أدَّتْ إلى إخراج الكثير من التلوُّث البصريّ والسمعيّ والأخلاقيّ في صورة شكل جماليّ فيلميّ.

وقد ساعد المونتاج في إنجاح فوضى الصورة؛ فكثيرًا ما نجد لقطات طويلة لأشياء هامشيَّة جدًّا لا اعتبار لها، على حساب أهداف التصوير الحقيقيّ. بل إنَّ الصورة في أكثر من لقطة انتقلتْ انتقالةً تُبهرك من العَجَب؛ على سبيل المثال الدقيقة 48 عندما انتقلتْ الصورة من “أسماء” على منصَّة اللعبة وفي أثناء بطولة، والجو مشحون بالتوتُّر والقلق، ولا أحد يعرف إذا كانت ستنجح في رفع الثقل أمْ لا، إلى قطع على المُدرِّب!! وتكرَّر الأمر، وغيره كثير.

من محاسن التجربة تناوُل الفيلم للإصرار الإنسانيّ، والإرادة الإنسانيَّة في مواجهة صعوبات الطريق، وأمام المِحَن الكُبرى -مثل محنة موت المُدرِّب بالنسبة للفتيات-. وكذا دور المُساهَمة مهما كانت صغيرةً في صناعة الإنجازات.

ومن محاسن التجربة تسليطها الضوء- أنَّها لمْ تستهدف هذه النقطة خاصَّةً- على مأساة الرياضات الأخرى في مصر. فالغريب أنَّ مصر في إدارتها تتجاهل تمامًا الرياضات جميعًا إلا كُرة القدم! ومكمن الغرابة في الإدارة لا الشعب؛ لأنَّ الإدارة لا يصحُّ منها التغافُل والتجاهُل حتى لو تجاهل الشعب نفسه. بل الأصل أنْ تسلِّط الضوء على هذه الرياضات والمُتفرِّدين فيها -على الأقل-، وتفرد لها مساحات إعلاميَّة على صنوف الإعلام المرئيَّة والمسموعة والمقروءة. والعجيب أنَّ الدولة تهتمُّ برياضة لا تحقِّق فيها مصر أيَّة إنجازات عالميَّة، بل تظهر بالكاد على تلك الساحة، على حساب رياضات كثيرة تحقِّق فيها مصر، أقصد يحقِّق فيها مصريُّون عديد الإنجازات.

كلُّ هذا لأنَّ الدولة تستخدم رياضة كُرة القدم قناعًا لإلهاء الشعب، وكذا تسترضي الشعب بما يرضى به، عامدةً التجاهُل لبقيَّة أبناء البلاد الذين يصولون ويجولون في العالَم ولا ينالهم من تلك الحقوق الماديَّة والمعنويَّة العُظمى للاعبِيْ كرة القدم إلا خبرًا لا تراه إلا إذا دقَّقتَ عينيْك، أرادوا به سدَّ تلك المساحة الصغيرة من الصفحة!

وما ذنب كلُّ هؤلاء الرياضيِّين أنْ يشعروا شعور القهر والاستبعاد؛ وهُم الناجحون المُحقِّقون لكلِّ المرجوّ منهم؟! لكنَّ الموقف في أحيان كثيرة لا يعطي مساحةً للتعجُّب؛ فكثير من المجالات -وهذا تقدير مُهذَّب- تمتاز بذلك العيب الخطير في الإدارة. مثلًا في مجال الكتابة يُدفن أصحاب الكتابة العلميَّة الجادَّة، ولا يُعطون أيَّة فرص. ولا يبقى على شاشة التلفاز، وعلى قوائم الأموال والتكريم إلا المُهرِّجون ومنافقو رأس المال!

Visited 83 times, 1 visit(s) today