“شفرة الزمن” سلطة الصورة ودلالات الشفرة
أننا نسلم كما في الفلسفة الافلاطونية (من الصورة تأتينا الفكرة) فالتفكير هو تصوير، بمعنى أن يعتلي الملكة التصويرية كإنجاز أو بناء للمشكل التفكيري لذلك فان الناجز للعمل النصي هو مصور، وقد تفقد ألأنا مركزيتها حين لا يكون للفكرة ما يسمى بالتأويل.
فالتأويل هو إعلان شأن سلطة النص (وطبعا هنا النص المرئي الموازي لفعل الكتابة) على سلطة الفكرة أي أن التأويل لا يريد معرفة ماهية النص بل محاورته والكشف عن خفايا وما يخبئه خلف سطوره.
هنالك رؤيتان للنص: أما حالة صامته، أي أن النص (الشريط لا يقول شيئا غير المكتوب) أو النص الناطق المؤول، وفيه يخرج الشريط من عزلته إلى آفاق أرحب، “شفرة الزمن” للمخرج مايك فيكس هو واحد من أهم الأشرطة التي اتخذت من التجريب حيزا لها في السينما، شركة للإنتاج السينمائي يعمل فيها المخرج على توضيح بناء الشخصيات وتقاطع مصائرها بالتتابع المشهدي، فقد قسم الشاشة إلى أربع أقسام (وفي أحد المشاهد إلى خمسة) وكل قسم من هذه الأقسام يحمل دلالة مستقلة تفصح عن اشتغال المؤلف/ المخرج على ربط الفصول بالدلالات جميعها وهي تقدم دلالاتها بقوة الحكاية (السرد) حتى تعطي نفسها للمتلقي وتحل نهايتها بوضوح يسير.
وهنا يصبح تأويل كل مشهد على حدة ضمن سياق النص الفلسفي، يميل بدوره إلى كلية العمل إذا كان هذا المشهد ذا مدلول مركزي ثابت، فالتثبيت هو بناء للنص ذاته وإضافة له.
من هنا ينبني التوجه إلى شفرة الزمن ذات البناء السردي المتعدد الذي يقودنا إلى المتابعة قسرا إلى قاع المدينة الأمريكية وتهميشية الفرد بمستوياته المتعددة (متسلط، عادي) ومن الطبيعي اننا سنبحث في المعنى الضمني للنص فهو الرسالة التي يجب غور باطنها من خلال القراءة المتعددة لطبقات النص فإن حاول المخرج فك الرمز عن منجزه أم لا فإن هذه الرموز سوف تكون الضوء الأول لكشف الوجوه الخفية تحت القناع، يأخذنا مايك فيكس في شفرة الزمن إلى ما يمكن أن نطلق عليه مسرح الأحداث وهو عبارة عن ( شركة إنتاج سينمائي) والكواليس الخلفية لها ذات الأبواب والممرات المتداخلة الموحية مثل شخصياته بالحيرة والمتاهة والضياع ويصبح فيها الكشف عن الدواخل النفسية للشخصيات هو الوسيلة في نظام التسلط( سلطة القوة، سلطة الجنس، سلطة المال) وبالتالي (سلطة الصورة) كمهيمن على المكان.
في شفرة الزمن تصبح الصورة هي القوة والسلطة المطلقة تتحرك وتسكن وتتقاطع مع بعضها وتجتمع في واحدة ولكنها لا تختفي ويبقى الأستوديو السينمائي هو المكان الجغرافي الذي يحيط الحدث به وبالعاملين داخله ويصبح خطاب (فيكس) ليس الكشف بل الغور في الحقيقة إلى أقصاها، إذا لابد من القراءة الدقيقة المتأنية للنص كي تحل مستوياته وخطوط سرده هذه القراءة هي جهد متوج للأثر وليس جهد منجز الأثر، فالمحاور(المتلقي) يجعل محتوى النص شبيها له أي( أنا) قادرة على الإتيان بالفعل في مقابل كثافة الأسئلة التي يحتويها عقله عن النص المرئي.
وهنا يتبادر سؤال آخر عن التأويل والتأمل وعن ماهية العلاقة بينهما؟ أن الوعي بالمماثلة كما يقول فرويد هو وعيا ضروريا والبعد ألتأملي للمعنى ضمن بنية العمل هو القدرة على إنتاج صورة على أن نضع في البال دائما العلاقة بين فعل التأمل والصورة المنتجة من جهة الإثارة والإغراء ليستحضر هنا وبقوة مقولة ديكارت (إننا لا نحتاج إلى التأمل بل نحتاج إجادة التأمل) خصوصا في عصر ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية والتي هي أزمنة أجادة لعبة المعنى، والتأويل هو ليس كلام عن النص بل كلام النص نفسه (فالكتابة ذاكرة) كما يقول ليفي شتراوس (والكتابة جدل بين الذاكرة والحرية) كما عبر عنها رولان بارت ويضيف (العالم مملوء بالأدلة وعلينا تفكيك أدلة العالم).
لذلك فالتأويل هو (حركة ألانا مع ذاتها) كما عبر عنها هيغل، فالتأمل إذا أختلف عن التأويل فان التأويل لا يمتنع عن التأمل كما قال فوكو أن التخيل هو تمثيل شيء ما مثلا أو ننظر إليه لا من عين الفكر بل من عين الجسد وكأن الشيء المجسد (المشهد) هو إني أمثله بكل أبعاده وكذلك الشعور حتى باللون والموسيقى، وعلى هذا الأساس فان التخيل هو تصور الشيء على نحو ماهيته وهو بالتأكيد بذل مجهود كبير من الفكر، وشريط شفرة الزمن يأخذ غناه الإبداعي من طاقته على إنتاج الدلالات، هل من الممكن متابعة تدفق صورة معينه من الشاشة لتتولد صورة جديدة ومعنى جديد آخر في صورة أخرى يأخذ معناه من الصورة السابقة أو مكمل له أو يتجانس ويسير معه إلى حدود الفكرة الواحدة (ولأذكر القاريء بأن الشاشة مقسمة إلى أربعة أقسام) أن تولد الدلالات لا يأتي من منطلق سير الأحداث كما في أي منجز سينمي بل هنا يقدم دلالاته من نظام الصور، هذا مجرد ترف تجريبي أو رؤية عادية ساذجة ولكن هل نذهب وراء الدافع الحقيقي الذي جعل مايك فيكس يقدم شريطه بهذه الرؤية وكما جاء على لسان أحد الشخصيات في الشريط( لنجعل الشريط بأربعة أقسام كل قسم يحكي حكاية، نعم هذا صعب ولكن بالضبط مثل الحياة).
هذه الإجابة هي بالضبط الذي دفع المخرج الى هذا اللون السينمائي الجديد، إجابة من منطلق النص نفسه حيث تبدو إن سلطة الصورة هي السلطة المطلقة في الوجود فأمامه تختفي السلطات الأخرى كالسمع واللمس وحتى الشم وتبقى العين “النظر” هي الكاميرا الموثقة للحياة فالغاية التي أراد المخرج الوصول إليها منبعثة من خلال المكان الأستوديو، فهو متلصص على الكل بمعنى منجز للصورة وتصبح الصورة عاملة داخل الصورة الأصلية (الشريط) الذي بدوره يقسم نفسه إلى مجموعة صور.
في ظل أعلام الصورة المهيمنة والمصورة لجنة الحياة الجميلة وهي عكس الواقع المفروض على الفرد الحامل لكل أشكال الهموم يصل في النهاية إلى اتخاذ العدالة بنفسه منتقما لنفسه من التسلطات الكاذبة في ظل غياب السلطة الحقيقية، أراد مايك فيكس أن يجيب عن أسئلته من خلال منطلق الصورة خصوصا وهو يريد منا التركيز على الصور الأربع المشتغلة في بنية النص السينمي كي نذهب في التأويل إلى أقصاه جماليا أو اجتماعيا أو سيكولوجيا وبذلك نبتعد قدر الامكان عن التأويل المرتبط بأدب منجز الشريط أن شبكة العلاقات في الشريط (وهي أشبه بشبكة العنكبوت) تتقاطع بين الشخصيات وعملها داخل الحكاية وبين تداخل الأفكار للشخصيات وأفكار المؤلف التي تنسجم مع أفكارنا أو تتصادم معها وبين تدفق الصورة الحاملة لهذه الأفكار، بدون شك أن شفرة الزمن احتوت كل هذه العلامات من دون الغوص فيها بل عنيت بها جميعا مستندة إلى مرجعياتنا المعرفية الصورية.
لقد أدخلنا مايك فيكس الى عالمهم، عالم الصورة/ وكأنها هذه المرة الصورة توثق نفسها وربما تنتقم لنفسها من بؤس أشخاصها ومن بؤس المتلقي، أن السينما/ الصورة رمز الحياة الجميلة، ورمز المعرفة الحديثة كونها رواية مكتوبة بالكاميرا، هذا الرمز الكبير يكون في النهاية مصيره القتل حين يعجز عن نقل الحياة كما هي حين تقتل شقيقة البطلة الممثل ولكنه وهو يموت توثق المصورة موته بالكاميرا إنها سلطة الصورة مرة أخرى، أنها الكاميرا في كل مكان، لم تعد الحياة سهلة وبسيطة أنك تشعر مراقب في كل مكان، في كل خطوة، جاء الشريط أشبه بالزلزال الذي يهز كيان الصورة، فهل أراد به العقاب الإنساني؟؟
يبقى شريط شفرة الزمن حول أهمية (السينما) كأداة للمعرفة و(الصورة) وسيلتها الأهم لقد استغل فيكس القيمة إلى أقصاها لتأويل السينما كشفرة صعبة وجميلة خالدة للزمن.
- ناقد من العراق