“شئ قلته الليلة الماضية”.. علاقات معقدة لأسرة بسيطة
محمد كمال
العلاقات الإنسانية من أعقد الأشياء في الكون من الصعب إدراكها أو فهما بشكل كامل لكن الممتع فيها انها تحمل التأويل ومن هنا تخلق حالة إبداعية من الاختلافات حول هذه التفسيرات وهذا ما تنقله السينما عن الواقع في العديد من التجارب كان أخرها الفيلم الكندي السويسري “Something You Said Last Night” أو “شئ قلته الليلة الماضية” من تأليف وإخراج الكندية صاحبت الأصول الإيطالية لويس دي فيليبس، ويشارك الفيلم في المسابقة الدولية للدورة 44 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ويعد –حتى الآن – من أبرز الأفلام التي تواجدت في المسابقة.
يبدو أن الفيلم في الغالب تجربة ذاتية للمخرجة لأن على المستوى الشكلي عن طريق المكياج جعلت البطلتين قريبتا الشبه منها لكن ما لا نعلمه من منهما تمثل شخصية دي فيليبس في الحقيقة هل الكبرى ريناتا أم الصغرى سيينا؟، من الصعب ان يكون الأخ الذي لا يكون حضوره إلا من خلال المكالمات الهاتفية لكن الأشقاء الثلاثة يمكن أن يمثلوا الجانب الواقعي للمخرجة التي من الممكن أنها نقلت تجارب الآخرين معها أيضا.
نقطة قوة الفيلم المهمة هي أن الحبكة ترتكز على ان الماضي الذي لا يتم عرضه بشكل مباشر، فهذا الماضي يعد بوابة قراءة الحاضر خاصة اذا كانت الحبكة تقتصر على أسرة محدودة العدد (أب – أم – شقيقتين) وليس مستوى عائلة، فمنذ اللحظة الأولى يتضحح اننا أمام أسرة وصل الوضع بها في الوقت الحاضر إلى حالة بائسة على مستوى العلاقات بينهم والأمر هنا يصل إلى أن العلاقات معقدة ومتشابكة بين الرباعي برغم أنهم أسرة شديدة البساطة، بجانب أن الرباعي يمكثون في مكان واحد.
تقرر الأسرة التي تتكون من أربعة أفراد قضاء إجازة صيفية لمدة أسبوع وهم الأب جويدو والأم مونا والابنتين ريناتا وسيينا بعد اعتذار شقيقهما عن التواجد ويبدو من الوهلة الاولى أن ريناتا جاءت معهم مضطرة أو على غير المعتاد لأنها انفصلت عن الأسرة وتعيش بمفردها، وهذه الأسرة تحمل الجنسية الكندية لكنهم يندرجون من أصول إيطالية حيث يتضح هذا من خلال التحدث بعبارت إيطالية بينهم حتى على مستوى اختيار أسماء الأبناء.
في بداية الأحداث تظهر المخرجة ريناتا على انها المحرك الرئيسي للأحداث فهي بالفعل صاحبة الأزمة الأكبر والتي من خلالها تعتبر مجرى نتحرك من خلاله لنكتشف التفاصيل، ريناتا فتاة عابرة جنسيا ويبدو أن الأمر مازال في مراحله المبكرة سواء على مستوى التشريح الجسدي وأيضا الوضع العائلي، وهنا تسير أزمة ريناتا خلال مسارين الأول أزمتها الداخلية في التعامل مع الأمر وهو ما أوضحته المخرجة في العديد من المشاهد على غرار عدم نزولها البحر إلا بمفردها، التعامل مع الشاب الذي تقابلت معه مصادفة وأيضا علاقتها المرتبكة مع شقيقتها.
والمسار الثاني المرتبط بعلاقتها بحدودة أسرتها وخصوصا مع الأم الذي يبدو أنه السبب الأهم في توتر العلاقة بينهما بجانب أمور أخرى من ضمنها عدم التحقق الوظيفي في عملها ككاتبة الذي يبدو أن ريناتا في الأصل مرتبكة حول تحديدا إذا كانت موهوبة في الكتابة أم أنها اختارت هذا العمل لأنه على عكس رغبة والدتها.
مونا الوالدة تبدو في البداية على انها شخص متسلط تحاول أن تجعل أسرتها تعيش الحياة من منظورها الخاص ومن خلال وجهة نظرها وهذا يظهر أكثر من خلال فتور العلاقة مع زوجها جويدو لكن على التوازي أظهرت المخرجة جوانب إيجابية في شخصية مونا مثل الاهتمام بأسرتها حتى وان كان زائد عن الحد قليلا ورغبتها في تجمعهم من وقت لاخر، مونا شخصية ملتزمة اجتماعيا منظمة وهذا ما ظهر في مشاهد النهاية بعد ترك الأسرة المنزل وعرض المخرجة لقطتين للغرفتين فنجد أن غرفة الأم شديدة التنظيم عكس غرفة الفتاتين.
مونا شخصية ليست مسيطرة بالمفهوم الكامل لكن يبدو أن الماضي الذي عاشته سواء مع الومضات التي أظهرها الفيلم عن علاقتها بوالدتها أو بشكل عام معاناة أزمات الطبقة المتوسطة مع محاولة مجارة مستوى المعيشة في بلاد المهجر فهذا الماضي كان له الأثر الأول في تحول مونا بالإضافة إلى أزمة ابنتها ريناتا التي تعتبر القشة التي قسمت ظهر البعير، مما جعل مونا طريقتها تتحول هي الأخرى وليس على ريناتا فقط بل انتقل الأمر إلى الشقيقة الصغرى سيينا.
تظهر علاقة سيينا مع الأم بحال أفضل حتى وان كان يشوبها بعض المنغصات لكن سيينا تمثل الجانب الأصعب في هذا الأمر عن شقيقها الإثنين لأن العلاقة مع الأم أكثر وضوحا، حيث أن العلاقة بين الأم وريناتا متوترة وسيئة، وكذلك علاقة الأم مع شقيقها الذي يبدو وكأنه ملتزم بتنفيذ التعليمات لكن علاقة سيينا هي التي تسير في المنطقة الرمادية لأن سيينا نفسها مرتبكة في الأمر فهي ما بين حالة خاصة تجمع بين التمرد والخضوع لوالدتها فتارة تكون خاضعة وفي مرات أخرى تعبر عن تمردها لأنها في النهاية تخشى من أن يصبح مصيرها في العلاقة مع الأم نفس مصير شقيقتها الكبرى التي أقدمت على أمر على غير رغبة والدتها، لأن سيينا تفكر في الإقدام على خطوة ترك دراسة المحاسبة التي دخلتها بناء على رغبة الأم.
وجود الرباعي معا خلال إجازة صيفية في مكان واحد أتاح لهم الفرصة في التقرب بشكل أكبر ويبدو أن الأم هي صاحبة الفكرة من الأساس وهو جانب إنساني نبيل حتى وان كانت لا تظهره لابنتها الكبرى لأن ريناتا جاءت مضطرة بعد أن فصلت من وظيفتها وقرارها بترك منزلها لأن بدون عمل لن تسطيع تحمل التكاليف، وسيينا رغم قربها نسبيا من الام لكن ليس لدرجة أن تفكر في قضاء إجازة معها.
أما الأب جويدو الحاضر الغائب في الأسرة والذي كان أول المستسلمين أمام قوة شخصية زوجته فهو يلعب في الأسرة دور المتفرج دون التدخل، حائر بين الجبهتين لكنه اختار الصمت وذلك لثلاثة أسباب الأول طبيعته شخصيته والثاني إدراكه الكامل لطبيعة الجوانب السلبية في شخصية زوجته وأيضا أزمة ابنته العابرة جنسيا لهذا فهو لا يستطيع أن ينحاز لجانب على حساب الآخر، أما السبب الثالث المتعلق بأزمات الطبقة المتوسطة من المهاجرين حيث بعد أعوام من العمل الشاق مازلوا أمام التزامات وديون مادية وصعوبة في تدبير أمورهم.
رغم أن الأم هي السبب الرئيسي في ازمات تلك الأسرة لكن لا يمكن أن نقدم لها لوم كامل لأن من منظور اخر لديها جوانب شديدة الجمال وأيضا هي في النهاية أم مشاعرها ومسئوليتها تجاه الأبناء هي التي تحركها وتجعلها تفكر وتقرر لمستقبلهم أو ترفض قرار مصيري لهم لأن من وجهة نظرها أن هذا هو الحب الذي ضحت في سبيله أعوام من الكفاح من أجل الأسرة ويجب أن يكون المقابل يوازي هذا الحب حتى وان كان حب أحادي الرؤية.