سيمفونية الذاكرة في عالم موريكوني: تحليل لموسيقى “حدث ذات مرة في أمريكا
وليد خيري *
لا يعد فيلم حدث ذات مرة في أمريكا (Once Upon a Time in America) (1984) لسيرجيو ليوني مجرد فيلم عن العصابات والجريمة، بل هو تأمل سينمائي شعري عميق في الذاكرة، وقوة الماضي في تشكيل الحاضر، وتأثير الزمن على العلاقات الإنسانية. يُعتبر الفيلم سيمفونية بصرية وسمعية متكاملة، حيث تتداخل الصور والموسيقى بخلق تجربة فريدة تُلامس أعماق المُشاهد وتستدعي الحنين والأسى. في هذا السياق، تبرز الأهمية القصوى للموسيقى التصويرية التي وضعها الموسيقار الإيطالي العظيم إنيو موريكوني، والتي لا تُعتبر مجرد خلفية صوتية عابرة، بل هي شخصية فاعلة تُعزز المشاعر، وتُعمق فهمنا للشخصيات، وتُساهم في خلق جو من الحنين والأسى المُرّ. يهدف هذا التحليل إلى دراسة كيفية استخدام موريكوني لموسيقاه ببراعة لاستحضار الذكريات، وكيف ساهمت هذه الموسيقى في تشكيل تجربة المُشاهد وتثبيت الفيلم في ذاكرته كتحفة فنية خالدة، مؤكدة على العلاقة الجدلية بين الفن السابع والموسيقى كأداة سردية.
الموسيقى كعنصر سردي

تتجاوز وظيفة الموسيقى في السينما مُجرد التزيين الصوتي لتلعب أدوارًا حيوية تُثري التجربة الإدراكية والعاطفية للمُشاهد. فهي تُساهم بفعالية في تحديد الحالة المزاجية للمشهد، وتعزيز المشاعر الكامنة فيه، والتنبؤ غير المباشر ببعض الأحداث أو مصائر الشخصيات، والأهم هو خلق وحدة موضوعية وجمالية تربط أجزاء الفيلم المُتفرقة. في سياق فيلم حدث ذات مرة في أمريكا، تصبح الموسيقى “شخصية” أخرى ضمن فريق العمل، تُخاطب المُشاهد مباشرةً وتُشاركه مشاعر الحيرة، والندم، والحب الضائع. كما تُساهم الموسيقى في خلق إحساس قوي بالزمان والمكان المُميزين لأحداث الفيلم، وتُعزز التعاطف مع الشخصيات المعقدة، وتُساعد على فهم السرد بشكل أعمق من خلال الإشارات الصوتية الدقيقة التي يُطلقها موريكوني. هي ليست مُجرد إيقاعات، بل هي تعليق عاطفي على الأحداث.
تتمثل الفرضية الرئيسية لهذا التحليل في أن موسيقى موريكوني ليست مُجرد موسيقى خلفية مُرافقة، بل هي عنصر سردي حاسم، منسوج بدقة في نسيج الفيلم ومواضيعه الرئيسية، مما يُعزز عمقه العاطفي ويخلق إحساسًا قويًا بالحنين إلى الماضي والخسارة غير القابلة للتعويض. تساهم الموسيقى بشكل كبير ومتعمد في استحضار الذكريات، سواء لدى شخصية نودلز أو لدى المُشاهد، وتشكيل تجربته.
ملحن الذكريات
يعتبر إنيو موريكوني أحد أعظم مُلحني الموسيقى التصويرية في تاريخ السينما، وتميزت مسيرته المهنية التي امتدت لعقود بتنوع الأساليب والقدرة على خلق بصمات صوتية لا تُمحى. وُلِد في روما عام 1928، ودرس الموسيقى الكلاسيكية في أكاديمية سانتا تشيشيليا الوطنية، حيث تخصص في العزف على البوق، ما منحه أساسا متينا في التوزيع الأوركسترالي. بدأ مسيرته كعازف بوق وموزع موسيقي، قبل أن يتحول إلى تأليف الموسيقى للأفلام في أوائل الستينيات، ليحدث ثورة في موسيقى الويسترن (أفلام الغرب الأمريكي).

يتميز أسلوب موريكوني بالتوقيع الصوتي الفريد، والاستخدام المبتكر وغير التقليدي للآلات الموسيقية، مُتجاوزا الإطار الأوركسترالي التقليدي. فقد أدخل أصواتا غريبة على موسيقى الأفلام آنذاك، مثل صوت مزمار الراعي المُتكرر الذي أصبح رمزًا للحنين في فيلم حدث ذات مرة في أمريكا، والأصوات البشرية الغامضة (مثل الصراخ والهمس)، بالإضافة إلى الآلات الشعبية مثل الهارمونيكا، ليخلق تأثيرات نفسية وعاطفية غير مسبوقة. كما تميز موريكوني بتعاونه المُثمر والأيقوني مع المُخرج سيرجيو ليوني، الذي أثمر عن تحف سينمائية خالدة مثل ثلاثية الدولارات (أو ما يُعرف بأفلام سباجيتي ويسترن) وفيلم حدث ذات مرة في الغرب. بالإضافة إلى أفلام الويسترن، ألّف موريكوني موسيقى تصويرية لمجموعة واسعة من الأفلام من مختلف الأنواع، مُظهرًا براعة في التكيف مع متطلبات كل عمل. أكد موريكوني مرارًا على أن موسيقى الأفلام يجب أن تخدم الفيلم دائما، وأن تعزز السرد والمشاعر دون أن تطغى بشكل مصطنع على المرئيات.
الهيكل السردي والموسيقى: الانتقال عبر الزمن
يتميز فيلم حدث ذات مرة في أمريكا بهيكل سردي مركب وغير خطي يتنقل باستمرار بين فترتين زمنيتين رئيسيتين في حياة ديفيد “نودلز” آرونسون:
أولا: الطفولة والشباب: الفترة التي شهدت تشكل عصابته في الحي اليهودي الفقير في نيويورك، وظهور صداقته القوية مع ماكس.
ثانيا: العودة إلى نيويورك: عودة نودلز في سن الشيخوخة بعد سنوات من الاختباء والندم، ومحاولته لمواجهة أشباح الماضي.
تلعب الموسيقى دورا حاسما في دعم هذا الهيكل السردي وتوضيحه، حيث تساعد ببراعة على ربط الأحداث المنفصلة زمنيا وخلق إحساس قوي بالاستمرارية والوحدة رغم التقطع الزمني. يعمل اللحن الرئيسي للفيلم كخيط موحد يربط بين الفترات الزمنية المتباينة ويذكر المشاهد دائما بتأثير الماضي البعيد على الحاضر المثقل. ففي اللحظات التي ينتقل فيها ليوني من مشهد طفولة إلى مشهد شيخوخة، غالبا ما يبقي موريكوني على لحن أو نغمة واحدة، مرسخا فكرة أن الذاكرة لا تعمل بخط مستقيم.
المواضيع الموسيقية الرئيسية ورموزها
تتميز موسيقى الفيلم ببنائها المحكم واعتمادها على مجموعة من المواضيع الموسيقية المتكررة (Motifs) التي تشكل نسيجا صوتيا غنيا يرافق رحلة نودلز عبر الزمن المعقدة. هذه المواضيع ليست مجرد ألحان جميلة، بل هي رموز صوتية مصاغة بدقة تحمل معاني ودلالات عميقة، ترتبط ارتباطا وثيقا بشخصيات رئيسية وأماكن محددة ومشاعر أساسية في القصة. يوظف موريكوني ببراعة مجموعة متنوعة من الآلات الموسيقية لخلق الأجواء المناسبة لكل مشهد، وتتميز مقطوعاته بالانتقال السلس بين العزف الأوركسترالي الكامل والمقاطع البسيطة التي تعتمد على آلة واحدة.
1. لحن الحنين والذاكرة (اللحن الرئيسي)

يعتبر لحن الفيلم الرئيسي الذي يحمل اسم حدث ذات مرة في أمريكا، العمود الفقري للموسيقى التصويرية. يتميز هذا اللحن بلحنه الحزين والشاعري الذي يعزف بشكل أساسي على مزمار الراعي (Pan Flute) أو آلة مشابهة. يصبح صوت مزمار الراعي رمزا خالصا للماضي المفقود، والذكريات المؤلمة، والشعور بالندم الذي لا يزول. غالبا ما يظهر هذا اللحن عندما يكون نودلز في حالة تأمل عميق أو حنين إلى ما فات. يمنح مزمار الراعي للموسيقى جودة بكر وأثيرية تشير إلى براءة الطفولة التي ضاعت في غياهب الجريمة. يشعر اللحن الرئيسي المُشاهد دائما بالثقل العاطفي للأحداث.
2. لحن ديبورا (Deborah’s Theme)

يُمثل لحن ديبورا جوهرة التاج في موسيقى الفيلم التصويرية من الناحية العاطفية. هذا اللحن هو تعبير موسيقي خالص عن الحب الضائع، والجمال، والأحلام غير المحققة بين نودلز وديبورا. يتميز اللحن برومانسيته الحزينة، ويعزف غالبا على الكمان أو البيانو مع خلفية أوركسترالية غنية. يصاحب هذا اللحن مشاهد الرقص واللقاءات بين نودلز وديبورا، خاصة المشهد الأيقوني حيث تراقب ديبورا نودلز من خلف الباب، مجسدة البعد الطبقي والعاطفي بينهما. يتميز لحن ديبورا أيضًا بصوت نسائي كورس أو غناء سوبرانو خفيف يضفي عليه لمسة سماوية وبعيدة المنال، ما يعزز فكرة أنها كانت حُلمًا لن يستطيع نودلز الوصول إليه. هذا اللحن هو تجسيد للفرصة التي ضاعت من نودلز ليُصبح إنسانًا أفضل، بعيدًا عن عالم الجريمة.
3. موضوع الفقر والطفولة (الهارمونيكا)

يجسد هذا الموضوع حياة الشخصيات في طفولتهم المبكرة في الحي اليهودي الفقير في نيويورك، حيث تبدأ صداقتهم وعصابتهم الصغيرة. يعتمد موريكوني هنا على آلات بسيطة وشعبية مثل الهارمونيكا، والكلارينيت، والأكورديون. هذه الآلات تخلق إحساسا بالضعف، والبراءة المُهددة، والعزلة التي يعيشها هؤلاء الأطفال في بيئة قاسية. صوت الهارمونيكا له دلالة خاصة، فهو غالبا ما يستخدم في أفلام الويسترن (وهو توقيع صوتي لموريكوني)، لكن هنا يستخدم ليرمز إلى البدايات المتواضعة والبراءة المفقودة في عالم الجريمة. تظهر هذه النغمات في مشاهد هروب الأطفال ولعبهم وتأسيس عصابتهم، منذرة بالمسار القاتم الذي سيسلكونه.
4. موضوع القوة والسلطة
مع انتقال حياة العصابة من الطفولة إلى شبابهم وبدء اكتسابهم للقوة والنفوذ، تتغير الموسيقى لتصبح أكثر قوة وتهديدا. يوظف موريكوني هنا الأوركسترا الكاملة مع استخدام مكثف للأوتار النحاسية والطبول الثقيلة. هذا التغيير الصوتي يُشير إلى تحوّل الشخصيات من أطفال فقراء إلى رجال عصابات أقوياء ومهددين. هذه النغمات تظهر غالبًا في مشاهد الصراع، أو التخطيط لعمليات السرقة، أو الاستعراضات المتعجرفة للقوة.
الموسيقى كمرآة للذاكرة والهلوسة

يُعتبر فيلم حدث ذات مرة في أمريكا في جوهره رحلة داخل وعي نودلز وذكرياته. غالبًا ما تكون المشاهد التي نراها ليست حقائق موضوعية، بل هي إما ذكريات مشوهة، أو هلوسات ناتجة عن تعاطيه للمخدرات في بداية ونهاية الفيلم، أو مزيجا من الاثنين.
تلعب موسيقى موريكوني دورا محوريا في تغليف هذه الذكريات بنوع من الضبابية الحالمة والمحزنة. عندما يبدأ لحن مزمار الراعي أو لحن ديبورا في الظهور، نعلم أننا ندخل إلى عالم الذاكرة الخاص بنودلز. الموسيقى لا تعزز المشهد فحسب، بل هي التي تنقذنا إلى الماضي، كـ”ناقل صوتي” للزمن. فالانتقالات بين الفترات الزمنية لا تعتمد فقط على القطع البصري (مونتاج)، بل تعتمد بشكل كبير على تدرج صوتي حيث يبدأ لحن من فترة زمنية بالظهور بينما لا يزال المشهد القديم مستمرا، ليتم الانتقال بعدها بسلاسة إلى المشهد الجديد. هذا الأسلوب يخلق إحساسًا بتداخل الزمن وتلاشي الحدود بين الماضي والحاضر.
أبرز مثال على دور الموسيقى في تجميل أو تضليل الذاكرة هو مشهد النهاية الأيقوني. بعد لقائه الأخير الغامض مع “ماكس”، يختتم نودلز رحلته في مخزن الأفيون، حيث يبتسم ابتسامة مريبة وغامضة بينما ينسدل ستار النهاية على الشاشة. يرافق هذا المشهد اللحن الرئيسي، معززا الشعور بأن كل ما رأيناه ربما لم يكن سوى حلم متعاطي مخدرات طويل ومؤلم، أو ربما آخر هلوسة يهرب بها نودلز من واقعه المُدمر. هنا، الموسيقى ليست خلفية، بل هي تفسير للفيلم، تشير إلى أن المعنى كله كامن في عالم الذاكرة المتلاعب بها.
تحليل العلاقة الجمالية بين ليوني وموريكوني

يعد التعاون بين سيرجيو ليوني وإنيو موريكوني من أكثر الثنائيات الفنية إنتاجا وتأثيرا في تاريخ السينما. ما ميز هذا التعاون هو أن موريكوني كان غالبا ما يؤلف الموسيقى قبل تصوير المشاهد، بناء على السيناريو ورؤية ليوني. هذا الأسلوب، الذي كان نادرا، سمح لليوني بأن يقوم بمونتاج فيلمه بالكامل وفقًا لإيقاع ونغمة الموسيقى، وليس العكس.
في حالة فيلم حدث ذات مرة في أمريكا، سمحت الموسيقى المعدة مسبقا لليوني بأن يطيل المشاهد الصامتة، معتمدا على الموسيقى وحدها لنقل المشاعر والتوتر، مثل مشاهد الصمت الطويل المتبوع بظهور لحن مزمار الراعي المفاجئ. هذا التزاوج سمح بظهور إيقاع سينمائي بطيء وتأملي، حيث تأخذ اللحظات وقتها لترسخ نفسها عاطفيا، متجنبة الإيقاع السريع المعتاد لأفلام العصابات. يمكن القول إن الموسيقى هي التي أمنت المساحة لليوني ليحول فيلمه من قصة جريمة بسيطة إلى ملحمة شعرية عن الزمن الضائع.
تقنية الكورس والأصوات البشرية
في العديد من مقطوعات فيلم حدث ذات مرة في أمريكا، لا سيما في لحن ديبورا أو الألحان التي تعبر عن الشوق والجمال، يستخدم موريكوني ببراعة تقنية الكورس الصوتي (Choir) أو الغناء المنفرد الخفيف (Vocalise). هذا الاستخدام للأصوات البشرية يعطي الموسيقى جودة شبه دينية أو روحانية، مشيرا إلى أن المشاعر التي يمر بها نودلز تفوق مجرد المشاعر الدنيوية، وأن هناك قدرا أكبر يتحكم في مصائره.
الغناء الخفيف، غالبًا ما يكون بدون كلمات (A cappella)، يعمل كصوت للذاكرة نفسها، أو صوت للماضي الذي ينادي نودلز باستمرار. هذه الأصوات تعزز بشكل خاص الشعور بالجمال المأساوي، مُشيرة إلى أن الأشياء الجميلة (مثل الحب أو الصداقة الحقيقية) لا يمكن أن تدوم في عالم الجريمة والفساد الذي اختاره نودلز وماكس. يمنح هذا الاستخدام للموسيقى التصويرية طابعًا أوبراليا أو ملحميا، مرسخا مكانة الفيلم كتحفة فنية كبرى.
تأثير الموسيقى على الشعور بالحنين والخسارة
إنّ الشعور المهيمن على فيلم حدث ذات مرة في أمريكا هو الحنين (Nostalgia)، ولكنه ليس حنينا سعيدا، بل هو حنين مثقل بالخسارة والندم. الموسيقى التصويرية لموريكوني هي الأداة الرئيسية التي تشعل هذا الشعور وتبقيه متوهجا طوال فترة عرض الفيلم الطويلة.
لحن مزمار الراعي، بلحنِه البسيط والمتكرر، يعمل كبندول يرقص بين الماضي والحاضر. إنه يذكرنا بما كان يمكن أن يكون مقابل ما آل إليه الوضع بالفعل. عندما يستمع المشاهد إلى هذا اللحن، فإنه لا يسمع فقط الموسيقى، بل يسمع الزمن يمر، ويسمع الفرص الضائعة، ويسمع الأصدقاء الذين خانوا بعضهم. الموسيقى هنا ليست مُجرد انعكاس للمشاعر، بل هي محفز لهذه المشاعر، تجبر المشاهد على التعاطف مع ثقل الذاكرة على كاهل نودلز.
تبقى موسيقى حدث ذات مرة في أمريكا (Once Upon a Time in America) واحدة من أكثر الموسيقى التصويرية تأثيرا في تاريخ السينما، ليس لجمال ألحانها فحسب، بل لقدرتها الخارقة على أن تكون جزءا لا يتجزأ من السرد، وصوتا لثيمة الذاكرة المعقدة في الفيلم.
- سيناريست.. دراسات عليا في الدراما والنقد
