سلاح شهرزاد المرئي: “ألف ليلة وليلة” في السينما والتليفزيون

Print Friendly, PDF & Email

في عام 2013 صدر كتاب الدكتور صالح الصحن “ألف ليلة وليلة في السينما والتلفزيون عند الغرب” عن دار ضفاف للنشر في بغداد/ الشارقة.

يحضرني بعد قراءة هذا الكتاب النادر قول المستشرق الدانمركي ج. أوستروب: “فيما عدا الكتاب المقدس لا توجد سوى كتب قليلة(…) طافت العالم بأرجائه مثل كتاب “ألف ليلة وليلة”. ويبدو لي أن الدكتور صالح الصحن أخذ على عاتقه أن يطوف بدوره كسندباد في بلاد العالم ليكتشف كيف تمت معالجة حكايات الليالي وتأثيرها من الناحية السردية الجمالية في كل مجالات الفنون والآداب الأوروبية، وليس فقط في السينما والتلفزيون كما يشير عنوان الكتاب.

إنه يوضح في الفصل الثالث كيف بدأ كتاب الليالي، زحفه المظفر منذ القرن الثامن عشر، وأخذ تأثيره يستمر في شتى صنوف الأدب والفن في الغرب، كما بدأ أيضاً زحفه في مجال السينما والتلفزيون. والبرهان الذي يضعه أمامنا المؤلف هو كشفه عن أعمال تقدر بحوالي اثنين وثلاثين عملا سمعيا –  بصريا اقتبست قصصها مباشرة أو غير مباشرة، حكاية ما من حكايا الليالي، بدءا من فيلم “الليالي العربية” لجورج ميلييه عام 1900 انتهاءا بفيلم “ازنوكود” لباتريك براودي عام 2005 . وهو يبحث في كل هذه الاعمال بشكل مفصل في الكيفيات التي تم بموجبها تحويل حكايات الليالي الى نصوص فيلمية من كافة الأنواع والأشكال، بما فيها أفلام الرسوم المتحركة،و يكشف المعالجات الفنية والجمالية، ويعرف بأشكال التناول والأسلوب السينمائي ومستويات المعالجة: الشخصية، الحكاية- الإطار، السمة العجائبية، موضوع الجنس، الأجواء الشرقية.

يعرف الصحن في الفصل الأول بالكيفية التي تناول فيها كتاب الليالي الحكايات وكيف اتصفت السرديات العربية القديمة بأنها لا توجد الا بحضور جلي لراو ومروي ومروي له، وهو ما يشكل اليوم عماد النظام السردي، ويصنع الحكي ويتطرق الى اساس طريقة السرد أي الحكاية- الاطار، وعجائبية الحكايات المتداخلة وتعدد وجهات نظر من يحكيها، ويؤجل في الوقت نفسه قرار الموت الذي يواجهه خصوصا وأن شهرزاد لم تكن وحدها تروي، بل كان كلما ظهر شخص جديد في عالم الحكاية يروي حكاية جديدة تأخذ مكانها داخل الحكاية الأصلية، ليظهر السرد في النهاية، كشكل خاص من أشكال الفعل المؤثر. فشهرزاد وزملاؤها في السرد يجدون، في الحكايات المتداخلة، فقط هذه الوسيلة، لمنع الظلم، ولفت النظر إلى الأمر القويم، وبالتالي إعادة الضالين، أكانوا من الجن أم من الإنس، إلى جادة الصواب وليس السلطان هو الأخير في قائمة المهتدين الطويلة.

ويتمكن  من تناول كل هذا الانتاج البصري الذي يحمل نوعية التباين الواضح في معالجته الفكرية والجمالية سواء اكانت متعاطفة في امانتها للاجواء العربية والشرقية او واقفة بالضد منها. ويقف عند بعض الاعمال ويقدم وصفا لتنوعاتها وأسلوب معالجتها ويضع كشفا كاملا بالاعمال السينمائية والتلفزيوني وافلام الكارتون المتحركة. كما يضع أخيرا قائمة بالمصادر وتقارب 258 مصدرا مؤلفا ومترجما منها مصدر واحد في اللغة الانكليزية واستند إليها كلها في الفصول الثلاثة.

لكن ياتي جهد المؤلف الشخصي في الفصل الرابع الذي يخصصه لتناول ثلاثة نماذج سمعية بصرية يحللها كل نوع منها وفق منهج بنيوي في  حوالي اكثر من تسعين صفحة، ويهدف في تناوله إلى مساءلة بنية نص كل نموذج من خلال عناصره الشكلية التي يفككها أولا ثم يحاول الكشف عن الخصائص التي تميز كل نوع منا عن غيره:

•فيلم “الليالي العربية” 1974 لبيير باولو بازوليني

•فيلم تلفزيوني “شهرزاد”  1990 لفيليب دي بروكا

•مسلسل تلفزيوني “الليالي العربية” 2000 لستيف بارون.

فيلم الليالي العربية

يقول بازوليني عن فيلمه: “انا لم ارد نقل حكاية وأساطير الف ليلة وليلة بل صورت أسطورتي”.

يتناول المؤلف البناء السردي في الفيلم وتحديد وجهه النظر السردية المختلفة ورؤية الكاميرا كسارد، ورؤية السارد الخارجية، ورؤية السرد من الخلف ورؤية السرد الداخلية، وأسلوب تناول كل هذه العناصر السردية والحكاية- الإطار، ويتعرض الى تكوين صورة الفيلم وايقاعه وحتى الالوان التي استخدمها بازوليني، ويشرح كيف ان استعمال اللون أنجز في الفيلم على أساس اقتران الدلالة بما ينتج عنها من معان عديدة.

لقطة من فيلم “الليالي العربية” لباوزليني

 إن ألوان مكونات مشاهد السوق مثلا كانت ألوانها طبيعية، بينما ظهرت ألوان مشاهد البيوت الطينية الفقيرة بلون الارض وكيف ينعكس اللون نفسه على الوجوه البشرية مما يساعد على تجانس لوني يحمل صبغة ترابية تبين الصلة بين الارض ومن يسكنها من بشر.

اما في المشاهد الجنسية فتظهر بألوان براقة ناصعة اجواء الاثارة بينما يظهر في مشهد وصول الملك زمرد الى داخل الجامع لتسلم حكم سلطان المملكة الوان ملابس الحاضرين كل حسب وظيفته ودوره وتنوعت ملابس الحاضرين الى الوان مختلفة من الوان زرقاء مذهبة بخيوط صفراء الى ألوان اسلامية وتاريخية وشعبية إلى ملابس المهرة وعمال الطعام والورود. ولونت الجدران بألوان مزركشة بأبهى النقوش والرسوم الاسلامية والشرقية. على هذا  كانت الالوان المستعملة في الفيلم عنصر معبر عن البنية الشكلية البصرية ومستمدة من تناول ثقافة المجتمع في الحكاية وموروثه الحضاري التاريخي.   

ثنائيات

وفي محاولة استقراء تحليلي يجد المؤلف أن ثمة ثنائيات تتكرر في الفيلم، بهدف تحريك وإزاحة المعاني، يسردها المخرج لتتوافق مع رؤيته وفلسفته الخاصة جماليا وفكريا.

ويفسر بالتفصيل علامات هذه الثنائيات: كالخنجر والعملة والإصبع الواحد والإصبعان وعلامتا تدلي: قنديل في الخيمة وتدلي قطعة نقدية معلقة في السقفوقصران تحت وقوسا النشاب والشيخ والشاب في مشهد الرحيل….  ويفصل كيف تتحقق هذه الثنائيات المبتكرة ا في اشكال السرد وتنوع علاماته البصرية.

 الفيلم التلفزيوني “شهرزاد”

تجسدت في الفيلم معالجة الحكاية التي اقتبسها دي بروكا فكريا وجماليا في مكونات كاملة كالبنية السردية والشحصيات  الحكاية-الاطار التحولات العجائبية والجنس والاجواء الشرقية والتصوير والتكوين والاضاءة واللون والمونتاج والايقاع والصوت.

لقطة أخرى من فيلم “الليالي العربية” لباوزليني

وهو يفكك كل هذه المكونات ويتناولها بالشرح والتفسير. ويكشف كيف أن فكرة الفيلم قادت مخرجه الى ابتكار حكاية اطار جديدة: شهريار يبحث عن شهرزاد الهاربة من عقاب القتل  ليرتجل حكاية جديدة لشخصية شهرزاد تبدأ من مشهد منصة الاعدام وشهرزاد تنتظر تنفيذ قتلها الى المشهد الذي يُلقى القبض عليها ويعيدها شهريار بواسطة البساط الطائر.

يترك المخرج شهرزاد فوق منصة الإعدام وهي تروي حكاياتها: وبهذا تؤجل موتها. ولعل الجديد في هذا الفيلم التلفزيوني هي الكيفية التي يوظف فيها دي بروكا شاشة تلفزيون –  يستعيرها من المصباح السحري – في كل مشاهد الانتقالات والتحولات السردية المختلفة.

 مسلسل الليالي العربية

يتوقف الناقد عند مكونات نَّمُوذَجُ المسلسل ويتناول بالتحليل مكوناته الكاملة من بنيته السردية الى شكله الفني.  وتوقف في البنية السردية عند الأهم: سلاح شهرزاد وكيف نجحت بإصرارها على تأجيل الحكي ولم تأبه بالسيف الذي يضعه شهريار قريبا من يديه لكي يرغمها على مواصلة الحكي. لكنها لا تخضع للإكراه المميت.

والجديد في سرد المسلسل ان الراوية شهرزاد لا تكتفي بالقص المباشر في حضرة شهريار انما تلجأ متخفية الى حكواتي، تستعين به وتتعلم منه شؤون القص وتسمع منه النصيحة الأساس التي شكلت المدخل والمفتاح في الليالي: إن لم يكن من يسمعك مهتما قضيَّ عليك! ويضيف الحكواتي في مشهد آخر: نحن نتبارى في القص  من اجل المال، اما أنتِ فتتبارين من اجل الحفاظ عل حياتك. ابدئي أولا من البدء وادخلي بعدئذ في النهاية بعدئذ “توقفي” وكوني حريصة على ان لا يعرف احد ماذا سيحدث!

والطريف أن هنا أيضا نذكر أن الأميرة، حسب الدراسات الحالية كانت تستعمل تقنية التوقف التي تسمى اليوم(Cliff – Hanger)  أي مؤثر حبس الأنفاس. وهو يحصل حينما يعلق السرد – “يتوقف” كما في نصيحة الراوي –

يبقى ان نشير إلى أن الصحن في اختياره للنماذج الثلاثة يخضع كل نوع منها الى تحليل نقدي كما يصل اسلوبيا بنتائج تحليله انطلاقا من اصول عملية التحليل الفنية ويجعل منها نَّمُوذَجُا أكاديميا أكان في طريقة نمذجته أو في طريقة ممارسته.

Visited 114 times, 1 visit(s) today