عندما تكون الدراما أكثر ثراء من الواقع

لقطة من فيلم "القاهرة 30" لقطة من فيلم "القاهرة 30"
Print Friendly, PDF & Email

حينما أعود الى ملاحظات كتبتها عن بعض الشخصيات الدرامية التى قدمتها الأفلام المصرية، أكتشف أننى أتعامل معها كشخوص واقعية، بل إنها فى الحقيقة، أكثر حياة وعمقاً من الشخصيات الواقعية، لقد أصبحت نماذج إنسانية مستقلة، بعضها يحمل معان رمزية، وبعضها صار عنواناً على عصر وجيل وزمن، وكثير منها أصبح موضوعاً لدراسى علماء النفس والإجتماع.

يخلق الفن نماذجه اقتباساً من الحياة، ولكنها، ومنذ اللحظة التى تتحرك فيها داخل فيلم أو رواية، تنفصل تماماً عن أصلها الواقعى، تمتلك حياتها المستقلة، يبدأ الكاتب فى تشكيل ملامحها، ثم تفرض نفسها عليه، تتحرك بمنطقها، وتنطق بصوتها، تقود كاتبها ومؤلفها رغم أنه خالقها، ثم تخضع لتفسيرات كل من شاهد أو قرأ، الفن بهذا المعنى يتجاوز فكرة المحاكاة، إنه يخلق حقيقة ومعان موازية، لا أقل أبداً من ذلك.

يطمح العمل الفنى الناضج الى ما هو أكثر من الإدانة الأخلاقية أو الإجتماعية أو السياسية، همّهُ الأكبرهو السؤال وليس الإجابة، عدوّه الأول البساطة والسطحية والمباشرة، بينما تحفل الحياة  ويمتلئ الواقع بكل ذلك، يريدك الفن، وتحلم الدراما بأن ترى الإنسان بصورة أعمق من النظرة الطائرة، تنظر الى نفسك فى مرآة غيرك، وعبر ظروف أكثر اختلافاً، الدراما لا تقوم بالتطهير فقط، ولكنها تثبت فى كل مرة، اننا أكثر تركيباً وتعقيداً، تضع يدها على لحظة الصراع بين المتناقضات داخل هذا الكون المغلق، الذى يحمل اسم “الإنسان”، الدراما فى رأيى “معرفة ممتعة” لأنها تحوّل الأفكار الى تجارب، تجعلك تكتشف نفسك من خلال مئات الأقنعة الملونة.

اختار الراحل الكبير يوسف وهبى أن تحمل مذكراته الجريئة الشهيرة عنواناً رائعاً هو “عشتُ ألف عام”، أظنه كان يقصد حياته الثرية، لحظات الصعود وأوقات الهبوط والفشل، ولكنه كان يقصد أيضاً، تلك الشخصيات التى لعبها، الفنان يستمتع كذلك بالإكتشاف، يكتشف مع المتفرج فى كل دور نفسه والعالم، كان الراحل أحمد زكى يقول إنه مثل ورقة مليئة بالخطوط المتشابكة، شخبطة مثل خيوط معقدة، لا يصبح لها معنى إلا عندما يقف أمام الكاميرا لأداء دور سينمائى، بعد أن ينتهى الفيلم يعود الى معاناته المستمرة: ورقة عليها خطوط متشابكة.

أردت أن أنقل لكم هنا بعضاً مما كتبت، رؤى مختلفة عن شخصيات درامية، أعيد اكتشافها كلما شاهدتها، وأحسبها أكثر حياة من الحياة:

(1)

يظل محجوب عبد الدايم النموذج الدرامى الأشهر فى الإنتهازية والتسلق، ولكن السؤال الذى خضع لمناقشة طويلة بين صلاح أبو سيف وتلاميذه أثناء إعداد الفيلم هو: هل محجوب وضيع وانتهازى بالفطرة أم أن ظروفه هى التى خلقت منه هذه الشخصية الكريهة؟ هل هو مجرم أم ضحية أم الاثنان معا؟ عندما سأل حمدى أحمد نجيب محفوظ رفض الروائى الكبير الإجابة عن السؤال،تركه حائراً باحثاً عن خيط يمسك به أهم شخصيات الفيلم والرواية.

الحقيقة أن الرواية أكثر وضوحا من الفيلم فى تحليل هذه المشكلة، لأن محجوب لم يعتنق فلسفة “طظ” إلا للتخفف من العبء النفسى للإنتهاكات التى حدثت ضده فى طفولته، كان أمامه أن يعترف بالمأساة الأخلاقية التى عاشها، أو أن يفلسفها، هذا التفسير الهام غير موجود فى الفيلم، يضاف الى ذلك أن محجوب نفسه فشل فى تطبيق نظريته لأنه أحبّ إحسان شحاتة فعلاً، أى أن داخله مقاومة فطرية يحاول قمعها، كما أن إزاحة محجوب فى النهاية تتم عن طريق سالم الإخشيدى الأكثر منه وضاعة، ومثله الأعلى، أى أن محجوب ذهب، وبقيت مأساة “طظ” القادمة أيضا من نفس طبقة محجوب ، تبدو المشكلة إذن فى الطبقة والظرف، مع التأكيد على ضعف محفوظ، واستعداده للسقوط مثل إحسان، لو كان هناك من هو أقرب للسقوط فهو والد محفوظ الأكثر بؤساً والأقل معرفة، ومع ذلك فهو يمثل ضميره حتى النهاية، الفقر إذن لا يبرر السقوط، وإن كان يفسره أحياناً.

عندما نشاهد الفيلم اليوم، نرى أن صلاح ابو سيف وحمدى أحمد انتصرا للرأى الذى يجعل محجوب ضحية ومجرما فى نفس الوقت، ولذلك يثير التعاطف فى مرحلته الأولى حيث لا طعام ولا شراب، ويثير التقزز والغضب عندما يقبل صفقة الزواج من إحسان شحاتة، وقد عاد سؤال الضحية أم المجرم من جديد مع يوسف شعبان عندما لعب دور سرحان البحيرى فى ميرامار، حيث اختار أيضا أن يكون سرحان انتهازيا وضحية معا . فهْم الشخصية وتحليلها هو الخطوة الأولى فى طريقة أدائها .

(2)

ونيس فى فيلم “المومياء” هو هاملت المصرى.. كلاهما تعذب عندما عرف، وكلاهما اصر على استكمال الطريق رغم الألم، المسودة الأولى لسيناريو المومياء كانت مونولجا طويلا لونيس بقى منه بعض الأجزاء فى المسودات التالية، فى القصة الحقيقية، أدى اختلاف أبناء أسرة عبد الرسول فى القرنة بالأقصر الى إبلاغ أحدهم الشرطة نكاية فى أخوته، عائلة احترفت التجارة بالإجداد، وسرقة المقابر، أما دراما شادى الهائلة فقد جعلت إبلاغ ونيس عن سر الخبيئة وسيلته الوحيدة للتطهر، والميلاد الجديد، نقل شادى الصراع الى داخل الشخصية.

من فيلم “المومياء”

فيلم “المومياء” موضوعه البعث بمعناه الرمزى والواقعى، وهذه الفكرة هى قلب الحضارة المصرية القديمة، البعث هنا مزدوج: بعث ونيس، وبعث أجداده، عبقرية المعالجة فى أن “لموتى” الخارجين بالتوابيت هم الذين سيبعثون حفيدهم” الحىّ” ونيس من غيبوبته، وهذا هو معنى الفيلم كله، بل هو جوهر مشروع شادى عبد السلام الإنسانى والثقافى: قدرة الماضى على بعث الحاضر، لاشئ يموت ابداً، كل المشكلة هى أننا لا نفهم ما حدث بالأمس، فنعانى اليوم من التخبط، ونفتقد تماماً المستقبل، لا مفر من استخدام كشافات الماضى لكى نفهم اليوم.كانت البداية سؤالا على طريقة هاملت:“هل هذا عيشنا؟”، وعندما يُنادى كل تابوت باسم صاحبه أثناء خروجه، يحدث البعث المزدوج، “لقد نوديت باسمك.. لقد بُعثت”. من حادثة بسيطة، صنع شادى مجازاً سينمائياً هائلاً، جعل المعرفة ناراً ونوراً، وأعاد تعريف الموت والحياة، وقال بأبلغ صورة إن الماضى والحاضر والمستقبل سلسلة واحدة متصلة، وأن التيه يبدأ عندما نعتقد أن التوابيت صامتة.

(3)

الشيخ حسنى بطل فيلم “الكيت كات”هوعنوان المحاولة والحلم فى مدينة العجز، هكذا قدمه الفيلم الشهير. فى رواية “مالك الحزين التى كتبها إبراهيم أصلان،كان  الشيخ حسنى مجرد شخصية وسط كثيرين يتحركون ويحلمون فى الحى الكبير، دفع به داوود عبد السيد الى الأمام، جعله وتد الخيمة، وترجمان الخيبة الإنسانية، انطلق بإمكانيات الشخصية الكوميدية الى حدودهاالقصوى، نحن نضحك عليه ومعه لأن طموحه يصطدم بإمكانياته المحدودة، هو فى الحقيقة الشخصية الوحيدة العاجزة لأنه مكفوف البصر، ولكن الفيلم لا يضع العجز فى مواجهة القدرة، إنه يطلب منك فقط أن تحاول، أن تحتفظ بالحلم رغم كل شئ، وهذا ما فعله الشيخ حسنى، فحقّ له أن يحمل الفيلم على كتفيه، وأن يسير به مصحوباً بموسيقى راجح داوود، تأتلف نغمات آلة الأرغن العملاقة (التى توجد فى الكنائس) ، مع صوت العود الشجى، أحلام عظيمة فى مواجهة قدرات محدودة، مهما كانت موجودة أو غائبة.

من فيلم “الكيت كات”

الشيخ حسنى، بمعنى من المعانى، هو الإنسان الحائر بين ما يريد، وبين ما يحققه، بين الواقع والدخان، مأساة العجز والقدرة تحولت الى مهزلة، فضحكنا على أنفسنا، وعلى الشيخ حسنى.

(4)

يحى أبو دبّورة هو بطل فيلم “أرض الخوف”، أحد أفضل أدوار أحمد زكى، وربما يكون الأفضل فى رأيى من حيث تكنيك فن التشخيص ، مشكلة يحى أنه وافق على مهمة صعبة، تنوء من حملها الجبال، نزل الى الأرض، دخلها ضابطا، وتحوّل تدريجيا الى تاجر مخدرات، نزل ليكون رسولاً يحارب الشرّ، ويهزم الرذيلة، بعد فترة، يكتشف أن من كلّفه بالمهمة لم يعد موجودا، وأن رسائله لم تصل أبداً، مصدر وبرهان براءته لم يعد هناك، الآن عليه أن يختار وحيداً، إلا من امرأة يحبها، عليه أن يضع ظهره الى الحائط، ممسكاً بمسدسه، يواجه مصيره بدون ذلك الذى أرسله.


أحد أفضل أفلام السينما المصرية عبر تاريخها، وهو أيضا من أكثرها ثراء بالدلالات الفلسفية، ومع ذلك فهو عمل مشوق جدا فى مستواه الحواديتى، شاهدته فى سينما مترو، رأيت كيف استقبله الجمهور بحفاوة كبيرة كفيلم عن تجارة المخدرات، ماذا لو اكتشفوا مغزاه الوجودى الخطير ؟! رغم أن يحى يبدو ناقماً لأنه تورط فى مهمة أكبر منه، ورغم حنقه وغضبه لأنه خُدع وتخلّى عنه من أرسله، إلا أن هذا المأزق الوجودى، لا ينفى رغبة يحى الجارفة فى أن يظهر من جديد ذلك الموجود الوحيد الذى يستطيع أن يعيده الى هويته الأولى، لذلك فإن هناك مسحة صوفية، إذا جاز هذا التعبير، فى الفيلم، رغم هذا التمرد الوجودى الجارف، هناك غربة ووحدة وشخص أصبح محكوماً عليه بالحرية، ولكنه لا يريد فقط حائطاً يرتكن إليه، يريد بالأساس أن ينتسب الى مهمة عظيمة.

ألم أقل لكم إن الشخصيات الدرامية أكثر ثراءً من الواقع نفسه ؟!

Visited 28 times, 1 visit(s) today