“سارقو المتاجر” عندما تغزل المعاناة نسيج الحكاية
ماذا فعلت بنا السينما؟ تلك الساحرة التي مستنا بلمستها الساحرة وحولتنا لمخلوقات هائمة في عوالم الخيال والعجائب والجمال، وكيف نصف ذلك الإحساس الذي يستلب الوجدان ويسكن القلب ويأثر الروح حين نشاهد الفن الممعن في الصدق،القادر رغم بساطته على حل ضفائر المشاعر واستحضار الشجن والفرح في دفقة واحدة.
يأتي فيلم “سارقو المتاجر” كنسمة باردة في جو خانق، فتشعر معه أن الحب ودفء المشاعر من أهم مقومات استمرار الإنسانية وخلاص هذا الكائن المكلوم بعذاباته، يقدم لنا المخرج الياباني هيروكازو كوريدا سينما اجتماعيه في إطارها العام إنسانية في جوهرها وعمق معانيها، تحمل بصيرة فنان مدقق يملك أدوات بسيطة التكوين شديدة التأثير ولغة سينمائية خاصة تستنطق الجمال الكامن في الواقع وتغمر المشاهد كموجة مد محملة بالمشاعر والانسانية.
وليس من الغريب على هيروكازو كوريدا الذي اعتادت أفلامه الحاصل على جائزة لجنة التحكيم بمهرجان كان 2013 عن فيلمه الجميل “الابن سر أبيه” أن يفوز فلمه “سارقو المتاجر” بجائزة السعفة الذهبية لأحسن فيلم بمهرجان كان في دورته الحادية والسبعين، ليسجل هيروكازو كوريدا اسمه بين كبار المخرجين في المشهد السينمائي العالمي.
يواصل كوريدا الخط الدرامي الذي بدأه في أفلامه السابقة حول الروابط التي تجمع البشر متخذاً الأسرة نموذجا يحاول من خلاله أن يفسر كيمياء الحب الذائبة في دماء البشر، ففي فيلمه “الابن سر أبيه” يكتشف أب وأم بعد أن بلغ ابنهما السادسة أنه ليس ابنهما، وأن ابنهما الحقيقي في مكان أخر ويعيش في كنف أسرة أخرى، والصبي الذي عاش معهما هو بدوره ابن تلك الأسرة؛ فبعد الولادة أختلط الرضيعان اللذان ولدا في نفس المشفى ، وذهبت كل أسرة بابن الأسرة الأخرى.
ويظل السؤال الذي تنطق به فلسفة الفيلم، هل الابن هو ابن الدم والجينات، أم ابن التربية والمحبة والألفة والارتباط الذي يكبر كل يوم مع هذا الابن حتى وإن كان غريب الدم؟
على نفس المنوال وبتنويعة أخرى يأتي “سارقو المتاجر” الذي يبدأ بأوسامو (ليلي فرانكي) يتسوق مع ابنه شوتا (جايو كايري) في متجر للمواد الغذائية وبشيء من الطرافة نجده يكون مع ابنه عصابه صغيرة لسرقة بعض الأغراض من المتاجر، لنجد أنفسنا نتعاطف معهما حين تكتشف أن جل ما أرادوا سرقته هو علبة “شامبو”.
ونستطيع أن نرصد كم المحبة والترابط الروحي بين هذا الأب وابنه أو بين هذين اللصين الظرفين. يرجعان في سعادة كأنهما عائدين من نزهة وليس من جولة سرقة، وفي طريقهما للبيت يعثران على طفله لم تتجاوز الخامسة ترتعد من البرد يشفق عليها أوسامو ويأخذها إلى بيته لنجد هناك عائلة كبيرة تسكن في بيت متواضع ومزدحم بأغراض بالية.
إنها أسرة فقيرة تكاد تكون معدمة لولا المعاش التقاعدي للجدة والذي لا يكاد يكفيهم. الزوجة الشابة تبيو” ساكورا أندو” تعمل في محل لكي الملابس وتسرق هي الأخرى ما ينسى في جيوب الملابس من أغراض، الأخت المراهقة فتاة جميلة تعمل في ملهى للعري رغم صفاء روحها ورقتها.
وفي مشهد العشاء يتجاوز الدفء في هذه العائلة سخونة الطعام، الذي يأكلونه بلذة الرضا وهناء اللمة. إذاً كيف تستوعب أسرة كهذه تتحايل على الواقع كي تستمر تلك الطفلة التي عذبت من أبويها حتى كست الندوب جسدها، بل أنها تجد عندهم ما فقدته منذ ولادتها من وحنان وعطف، يحاول هذا السيناريو العجيب دائما أن ينصب الشراك للمشاهد.
نجد الزوجة التي تتعامل بغلظة رافضة وجود هذه الطفلة خوفا من اتهامهم بالاختطاف هي أحن الناس عليها فيما بعد، والجدة التي تعي قيمة النقود هي من تشترى لها الملابس الجديدة والفتاة المراهقة هي من تقص شعرها كي تبدو أجمل وتحاول من خلالها أن تسمك بتلابيب ما فاتها من طفولة، والأب المطارد هو من يصر على بقاء الطفلة خوفا عليها من بطش أبويها، هل يسمح الفقر بكل هذا القدر من العطاء؟ وما سر تلك المساحات الشاسعة من الرحمة في قلوب البسطاء؟
يقدم لنا كوريدا مشاهد شديدة العذوبة كنبع ماء رائق يروي ما بنا من ظمأ للجمال. ويقود كاميرا استطاعت أن تخلق تكوينات مفعمة بالدلالة خاصة في مشاهد الممثلة ساكورا أندو “الزوجة” صاحبة الأداء القوي التي واجهت الكاميرا في لقطات مقربة رصدت ما بداخلها من وجع واستدعت دموعا مصدرها القلب وليس العين دون قطع من الكاميرا.
ونذكر ذلك المشهد حين تستحم مع الطفلة، وترى الطفلة يورى ندبة احتراق على ذراع تبيو وتخبرها بأنها لديها نفس الندبة وفي نفس المكان، وتصور الكاميرا الذراعين متجاورين فيتصل خط الاحتراق بين الذراعين في دلالة بصرية تشي بذلك التشابه المصيري الذي يربط الشخصيتين، أو في مشهد أخر حين تحتضنها بشدة وتبكي دون سبب كأنها ترى فيها ما مرت به من وجع ومعاناة. كان أداء الطفلة جوري مدهش ورائع بمجهود واضح من المخرج فقد أدت مشاهد الحرمان والألم وفقدان الحنان بتلقائية وروعة لا تقل عن مشاهد سعادتها لرؤيه البحر لأول مره أو تلك النظرة حين رأت نفسها بالمرأة بعد قص شعرها وقد ازدادت جمالاً.
تتأزم الأمور حين تموت الجدة فيضطروا لدفنها في أرضية الحجرة حتى لا ينقطع معاشها وهم لا يقدرون أيضا على مصاريف الجنازة. وتلك هنة درامية كنت أفضل أن يتجاوزها السيناريو أو يقدم لها حلولاً أخرى أقل قسوة تنسجم وإيقاع الفيلم.
واستمراراً لتعقد الأمور تطرد الزوجة من عملها ويزاد الواقع قسوة حتى يقرر الابن في أحد سرقاته في المتجر أن يكشف نفسه متعمداً استفزاز الحراس هنا تبدأ الخديعة التي اطمرها السيناريو في الظهور لنكتشف ما لا نتوقعه حول تلك الأسرة، أن هذا الابن ليس ابنهم وأن ما يربط هذا الرجل بهذه المرأة هو القلب والحب فقط وربما أيضا لم تعرف المرأة العجوز هؤلاء الناس إلا لكي لا تعيش وحيدة، أذا هم جميعا غرباء لا تربطهم الأرحام، فما الذي جمعهم غير المعاناة والرغبة في مجابهة الحياة معا. يقبض على الزوجة ويسجن الأب ويدخل الابن لدار رعاية وتعود يوري لأبويها القاسيين. فيفرق القانون من جمعهم الحب.
نجح كوريدا في زرع التعاطف في يقين المشاهد مع أناس لم يتوقع البعض وجود أمثالهم فيما يسمى بكوكب اليابان، الذي سبق العالم تقدما وتحضراً، لكن المفارقة هنا كيف قدم كوريدا هذا الواقع المرير والمعاناة المؤلمة وبأي رؤية استخلص ما في هذا الواقع من جمال.
ولو تعامل بعض المخرجين العرب الذين ينقلون فجاجة الواقع كما هي دون رؤية ومقياس للجمال لخرجت لنا ميلودراما أشبه بمجلات الحائط تماما كالتي نراها في بعض الافلام العربية وتلقى رواجا لا أعرف له سببا. لكن كوريدا أخرج الألم الداخلي وصبغ به الواقع كرسام يمرر فرشاه على ظهر لوحه فتلون كل شيء بلون المعاناة وصدقها، فليس بتصوير مياه المجاري والعشش وسكنة القبور تكون مصداقية التعبير عن البسطاء وواقعهم، لان السينما هي لغة الانسان منه وإليه تقدم رسائلها الناطقة بالجمال حتى في أشد أوقات الواقع قتامة.