” تقرير الأقلية” ومفاجأة المستقبل بغية تغيره

Print Friendly, PDF & Email

سعيد رمضان علي – مصر

منذ ” ماكبث” المطارد مستقبلة، ما زال حلم مفاجأة الغد بغية تغيره يتجسد في بعض الأعمال الأدبية والفنية، وفيلم ” تقرير الأقلية ” Minority Report 2002 للمخرج ستيفن سبيلبرغ، عن قصه الكاتب فيليب كيندرد ديك، يطارد المستقبل بهدف القضاء على الجريمة نهائيا، وليس المقصود هنا سقوط دوافع الجريمة، ومحو الشر القابع أبدا في الإنسان، بل احتواء المجرمين قبل ارتكاب جرائمهم، وإيداعهم السجن.

تعتمد الأحداث على عرافة وتوأمين – نفس عدد عرافات ماكبث- يمتلكون القدرة علي “المعرفة المسبقة” تترجم رؤيتهم على أجهزة الكمبيوتر التي تعرض الجريمة بتفاصيلها ووقت ومكان ارتكابها، فتنطلق وحدات الشرطة بسرعة فتصل المكان قبل وقوع الجريمة، فتمنعها وتقبض على من كان سيقوم بها وتعاقبه بالسجن، داخل ما يشبه المجمد.

في واشنطن وبالتحديد في مقاطعة كولومبيا يقوم المحقق جون أندرتون (توم كروز) بقيادة الفريق المختص بمنع الجريمة.. وهنا فقط يشعر جون بأن هناك شيئا يفعله في الحياة، فمنذ اختفاء ابنه شون، وانفصاله عن زوجته لارا وهو يشعر بوحده قاتلة، فيغرق في المخدرات، لكن يحدث البرنامج تنبؤاً جديداً، يصور المحقق الرئيسي في المشروع “جون أندرتون” أثناء قتله لشخص يدعي  ليو كرو بطلق ناري.. وفورا ينتابه الشك في رؤية العرافين وبالتالي مصداقية المشروع بأكمله، وفيما يتحول أندرتون إلى طريدة، يقوم داني ويتوير (كولين فاريل) وكيل وزارة العدل الأمريكية بمراجعة البرنامج، يكتشف تلاعبا في مقتل ليفلي، المدمنة على المخدرات والتي باعت ابنتها أغاثا إلى وحدة ما قبل الجريمة، ثم حاولت استعادتها. يعرض  داني لقطات التلاعب  على  المدير لامار بورجيس “ماكس فون سيدو”  لكن لامار يقتله منعا من كشف التلاعب فالمدير لم يستطع السماح لـ ليفلي باستعادة ابنتها أغاثا دون التأثير على وحدة ما قبل الجريمة.. فالبرنامج كله يعتمد على وجود أغاثا كعرافة.

 بينما يستمر أندرتون في الهرب، رافضا تسليم نفسه للعدالة، فقد تزعزع يقينه بها، متجها إلى مقر العالِم الذي ابتكر البرنامج وتقاعد، بحثا عن الإجابة لأسئلته.

إن شك  أندرتون يقود إلى آفاق فلسفيّة، فالسعي لاكتشاف الحقيقة يبدأ من الشك، وقد علمنا ديكارت أنّ الفلسفة الحقيقيّة تبدأ من الشك في الأصل، وعليه فشك أندرتون  يجعله يسعى للفحص النقدي لكل البرنامج من البداية، لذلك اتجه الى المصدر الأصلي الذي صمم البرنامج الدكتورة إيريس هينيمان (لويس سميث) والمفاجأة التي فجرتها  أن أعمال القتل التي تظهر في لمحات ليست حتمية، والعرافون الثلاث لديهم أحيانا رؤية مختلفة، وهناك «تقرير الأقلية» عن مستقبل بديل محتمل؛ تم الاحتفاظ به بسرية لأنه سيزعزع مصداقية النظام، لوجود شك ولو بسيط مما دفع أندرتون لأن يسأل: ” أتعنين أنني وضعت الهالة لأشخاص أبرياء؟”

يقرر جون الاطلاع على تقرير الأقلية الخاص به لإثبات براءته، يذهب إلى طبيب، وفي مشهد مرعب يتخلى أندرتون عن عينيه ليجد الحقيقة، مثل الإله الإسكندنافي أودين إله الحرب والموت والحكمة والسحر، وتقول الأسطورة إن أودين كان عليه أن يمزق عينه اليمنى ويشرب من ميمير لاكتساب الحكمة.. فعل أندرتون هذا حتى ينظر حرفيا من خلال عيون شخص آخر ليمكنه تجاوز الأنظمة لفهم الحقيقة من خلال خطف العرافة أغاثا “سامانثا مورتن” التي تخزن في ذهنها صورة كاملة للوقائع، وأثناء الهروب تتمكن العرافة في بعض المشاهد من تحذير أندرتون من الأماكن التي سيظهر فيها بعد لحظات أفراد الشرطة التي تطارده، فيتجنبها، وهذه المشاهد اقتبسها فيلم (Next 2007) لنيكولاس كيدج مع بعض التعديلات للهروب من المطاردين بصالة القمار، وكذلك من وكلاء مكتب التحقيقات الفيدرالية.

يقتفي أندرتون أثر ليو كرو إلى غرفة في فندق وهو مصمم  على عدم القتل، ومعرفة السبب الذي سيدفعه لقتل رجل لا يعرفه، ومع اقتراب انتهاء الوقت الذي استغرق 36 ساعة، يجد أندرتون في غرفة الفندق العديد من الصور للأطفال، بما في ذلك ابنه شون (تايلر باتريك جونز)… وبعد ضغط عصبي رهيب يرفض أندرتون ارتكاب الجريمة لكن كرو يتوسله لقتله، بعد أن أستأجره شخصا مجهولا  لتزييف الصور والتظاهر بقتل ابنه وذلك مقابل  العناية بأسرته، يدرك أندرتون بوجود مؤامرة دبرت ضده، وأثر مشادة ينطلق الرصاص ليقتل الرجل الذى رفض قتله، ثم يهرب إلى منزل زوجته السابقة لارا “كاثرين سوزان” وهناك يدرك  أندرتون أنه مستهدف لأنه سبق البحث عن حقيقة آن لايفلي وعلاقتها بأغاثا، وتسجيل بياناتها من الجهاز على قرص حمله معه،  لكن زوجته تتصل بالمدير بورغيس وتطلعه على وجود أندرتون معها، فيتم القبض عليه ويسجن، وبناء على زلة لسان من المدير تكتشف لارا الحقيقة وتعمل على إطلاق سراح أندرتون والكشف عن حقيقة المدير وقتله آن لايفلي.

وبالعودة لمشاهد النبوءة والأحداث في الفيلم نجد اختلافات كثيرة: ففي نبوءة العرَّافين يُطلِق أندرتون الرصاص على ليو كرو من بُعد، بينما أثناء وقوع الجريمة يُطلِق النار على كرو دون قصد وهو متلاصق معه، في النبوءة يتحدد زمن القتل بينما تم تجاوز هذا الزمن في الحدث الفعلي، وفي الحدث الفعلي يدور نقاش لم يحدث في الرؤية.

غير ذلك فأن الفيلم يقع في خطأ غريب… فالعرافون يشاهدن عملية القتل، وفيما بعد تقوم الشرطة بمنع وقوع الجريمة، فكيف يمكنهم رؤيتها ما دامت الجرائم قد مُنعت؟ والمفترض في العرافين تبعا لهذا أن يشاهدن عملية منع الجريمة لا وقوعها، لكن ذلك لم يحدث!

يشير الفيلم من خلال أندرتون وتصرفاته إلى مشكلة فلسفية فبمجرد اكتشاف الناس عن وجود مستقبل بديل يصبحون قادرين على تغيره، والمعنى أنهم يملكون القدرة على الاختيار، فهي حرية الإرادة المناقضة للقدر المحتوم، لقد وجد أندرتون نفسه أمام سبيلين للاختيار بينهما أما القتل أو عدم القتل، لكن الأمر ليس سهلا، والحبكة تتطلب صراعا، وقد دخل أندرتون في صراع رهيب مع نفسه، لتحديد الطريق الذي سيختاره، هذا الصراع وحده يؤكد على حرية الاختيار وممارسة الإرادة الحرة، ودون هذه الإرادة كان أندرتون سيتحرك ويقتل وهو مستسلم لحكم القدر دون صراع، لكنه لم يفعل.  وسؤال أندرتون السابق:” أتعنين أنني وضعت الهالة لأشخاص أبرياء؟” قد أجاب عليه بنفسه بنعم من خلال الاختيار الحر.

يتميز الفيلم بالحركة والسرعة، وجماليات التقنيات المستقبلية المبتكرة، والشخصيات التي تجسد بوضوح صراعاتها ومعاناتها، وتتعاظم التركيبات العاطفية للمشاهد من خلال

استدعاء طيف ابن أندرتون في شريط معروض، يشاهده الوالد وحده ويحدثه كأنه حي أمامه

وليس مجرد طيف لطفل لا يعرف أحدا أهو حي أم ميت، كما يظهر تأثير المشهد العاطفي في تقلبات واهتزازات العرافة “أغاثا” التي توصل لنا قدر كبير من المشاعر عاكسة رعبها فيما تشاهده من رؤية.

وتصنع الظلال والأضواء الساطعة التي تلتقطها الكاميرا من زوايا مختلفة تدفقا من القلق،

ضمن سياق مشاهد الفيلم، حيث تنقلنا من حالة شعورية الى اخرى، وخصوصا في مشهد لقاء لارا زوجة أندرتون مع  المدير لامار بورجيس عندما يظهر ضوء ساطع من النافذة خلفهما كرمز لكشف حقيقة المدير وظهور الحقيقة.

لكن الميزة الأهم للفيلم إنه يثير جدلا أخلاقيا، فرغم منع الجريمة كما يذكر الفيلم، فقد تم تقرير العقاب على أشخاص أبرياء لم يرتكبوا شيئا! ولا يمكن عقاب شخص لمجرد النية، طالما نيته هذه ظلت في حيز عدم التنفيذ! وهذا يقودنا إلى عنوان الفيلم “تقرير الأقلية” وهو عنوان مزدوج، ففي الظاهر هو التقرير المحفوظ بأدمغة العرافين عن كل حدث خاص بالجريمة، لكنه يشير سياسيا إلى تحكم فئة صغيرة من المجتمع في الأغلبية بطريقة تنتهك الحقوق، وهو ما طرحه الفيلم عندما لم تظهر فيه أي محاكمات، لقد تم إيداع الأشخاص السجن فور القبض عليهم بواسطة السلطة الأمنية، فهل يحق انتهاك حقوق بعض الأبرياء من أجل منع جرم قد لا يقع مطلقا؟

يعكس فيلم  “تقرير الأقلية”  التركيز الإنساني  على فكرة الحقوق للمواطنين، والفجوة المتزايدة بين  تطبيق القانون وانتهاك الخصوصية، ويمكن النظر إلى صراع أندرتون من أجل البحث عن الحقيقة كتجسيد على نحوٍ درامي الإحساس بالذنب، لأنه قبض سابقا على أشخاص وساعد في إيداعهم السجن دون محاكمات وبناء على  رؤية غير محققة، دون ارتكاب جريمة، ومثلهم أصبح مطلوبا ومطاردا، إنه يبدأ كقائد صارم مدافع عن وحده  شرطة استباق الجريمة، وهارب مصمم  على  البحث عن الحقيقة، منتهيا بالقضاء على الوحدة، أما السجناء  فقد تم العفو عن الجميع دون شروط وأطلق سراحهم.

Visited 1 times, 1 visit(s) today