رقصة الموت: تأملات وجودية في “الختم السابع”

يعود فارس من أهوال الحروب الصليبية ليواجه كنيسة متجمدة، قاسية، لا تزال مفتوحة في قلب الطاعون الأسود، فيتوجه إليها عازمًا على الاعتراف، هناك، يلتقي بكائن غريب، يلبس غطاء رأس يُرى من خلال قضبان حديدية، فيفيض بقلبه قائلًا: “لقد حجزتني لامبالاتي عن الدخول، أعيش في عالم مسكون بالأشباح، سجين أوهامي، أبتغي من اللَّه أن يمد يده، أن يظهر وجهه، أن يتحدث إليَّ، أصرخ في ظلمات الوجود، ولكن لا أسمع سوى الصدى”. وعندما يلتفت ذلك الكائن المُغطى، يتبين أنه الموت ذاته، الذي رافق الفارس في مسيرته نحو وطنه.

إن مثل هذه الصور، التي لا تستدعي تأويلات ضحلة، باتت غريبة عن السينما المعاصرة التي تتسم بالاهتمام السطحي بعلم النفس والسلوك الواقعي، وفي هذا السياق نجد أن فيلم “الختم السابع” (1957) للمخرج إنجمار بيرجمان يشترك، في كثير من الأحيان، مع السينما الصامتة أكثر من الأفلام الحديثة التي تلتها، بما في ذلك أفلام بيرجمان ذاتها، وربما لذلك أصبح هذا الفيلم، رغم كونه من روائع السينما في فترة ما، مصدرًا للإحراج بالنسبة لبعض المشاهدين في الوقت الراهن، وذلك بسبب صوره الصارخة وموضوعه الذي لا يقبل المساومة، الذي يتراوح بين السؤال الحاد عن غياب اللَّه والقلق الوجودي الأبدي.

لقد صارت الأفلام في زمننا الراهن تهتم أكثر بثرثرة البشر وتفاصيلهم اليومية، بينما كان بيرجمان يطرح أسئلة وجودية يتعذر الإجابة عليها في زمن يعج بالسخرية واللامبالاة، ومع تطور مسيرته، اكتسب بيرجمان قدرة على طرح نفس الأسئلة ولكن بأسلوب أدق في أفلامه اللاحقة، بدءًا من “بيرسونا” (1967)، غير أن قوة “الختم السابع” تكمن في صراحته التي لا تقبل المساومة؛ فهو فيلم يطرح الخير والشر بنفس البساطة واليقين الذي يتمتع به بطل الفيلم.

في جميع أفلام بيرجمان المتأخرة، عدا عن الكوميديا، يتجسد الاستياء العميق من الطرق التي اختارها اللَّه للكشف عن ذاته، لكنه في “الختم السابع”، كان جريئًا بما يكفي ليعالج الموضوع بطريقة حرفية، من خلال صورة مدهشة تُجسد الفارس وهو يلعب الشطرنج مع الموت، تلك الصورة التي صمدت أمام العديد من المحاكاة الساخرة، ولعل أكبر دليل على إيمان بيرجمان في تقديم فكرته هو اختياره أن ينهي فيلمه بلقطة بدلاً من ذروة سردية أو بيان تفسيري، فيظهر الممثل الشاب، وهو يشير إلى الأفق، حيث يسير الموت مع ضحاياه في موكب كئيب، قائلاً: “يأمرهم الرب الصارم بالرقص”.

عندما أعدت مشاهدة “الختم السابع” بعد مرور سنوات منذ أول مرة في عام 2018، أدركت ثراء التفاصيل التي تقدم صورة دقيقة عن أوروبا في العصور الوسطى، حيث اجتاح الطاعون الأرض، وعاد الصليبيون من فلسطين، يشارك الفارس (ماكس فون سيدو) رحلته مع العديد من الشخصيات الأخرى، أبرزها مرافقه (جونار بيورنستراند)، الرجل الواقعي الذي يكن كراهية شديدة للنساء وتبنى علاقة ساخرة مع سيده، وبينما يسافر الاثنان معًا نحو قلعة الفارس، يتحدى الفارس الموت فيقول له: “لقد كنت إلى جانبك لفترة طويلة”، فيعرض عليه الموت صفقة: أن يلعبا الشطرنج على حياة الفارس، وتستمر اللعبة طوال الفيلم.

في أثناء الرحلة يلتقي الفارس ومرافقه بفرقة من المؤدين، بما في ذلك زوجان يدعيان جوزيف وماري لديهما طفل صغير، وفي إحدى المحطات يزوران مزرعة مهجورة يسيطر عليها صاحب القصر الذي يقبض على رجل يُدعى رافال يحاول سرقة سوار إحدى ضحايا الطاعون، ورافال هو نفسه اللاهوتي الذي أقنع الفارس بالانضمام إلى الحروب الصليبية.

لقد ألهم الطاعون في تلك الحقبة سلوكيات متطرفة، تمر مجموعة من الجلادين، بعضهم يحمل صلبانًا ثقيلة، وآخرون يجلدون أنفسهم ككفارة عن خطاياهم، كما يلتقي الفارس بحبلى محكوم عليها بالإعدام، إذ يُزعم أنها نامت مع الشيطان، وهو ما تسبب في إصابتها بالطاعون، تطرح الفتاة سؤالًا عن الشيطان وعن وجود اللَّه، لتجيب بشكل صارم: “انظري في عينيّ، كان بإمكان الكاهن رؤيته هناك، أما الجنود فلن يلمسوني”، وبذلك تعبر عن فخرها الذي لا يعترف بالخوف، يعلق الفارس: “لا أرى شيئًا سوى الرعب”، وعندما يتم تحضير الفتاة للحرق، يضيف الحارس: “انظري في عينيها، إنها لا ترى شيئًا سوى الفراغ”، فيؤكد الفارس بحسم : “لا يمكن أن يكون كذلك”.. ليتركنا بيرجمان حتى اللحظات الأخيرة مع هذا السؤال المُلِح: على الرغم من وجود الموت ككائن خارق للطبيعة، هل ثمة هيكل أعلى يلعب فيه اللَّه دورًا حقيقيًا؟

بيرجمان، كما بعض صناع الأفلام العظام، كان من صنع نفسه، وُلد في أوبسالا عام 1918، ابنًا لقس لوثري، وقد شهد تربية صارمة تتضمن العقوبات القاسية التي احتفظ بها في ذاكرته، وهو ما ينعكس في أفلامه، وكانت أفلامه الأولى بعد الحرب مزيجًا غير مريح من الواقعية الإيطالية الجديدة والدراما الاجتماعية الهوليوودية، حتى أن عناوينها مثل “تمطر على حبنا” و”الليل هو مستقبلي” تشير إلى سطحيتها، ولم يكن مرتاحًا في عالم الإيماءات الواقعية الصغيرة والسلوك اليومي، ولم يبدأ في اكتشاف عبقريته إلا عندما عاد إلى القضايا الأكثر عمقًا في أفلام مثل “إلى الفرح” (1949) و”نشارة الخشب والزينة” (1953)، وقد كان “الختم السابع” و”الفراولة البرية” في عام 1957 بداية نضوجه الفني، إذ كان كلا الفيلمين يتحدثان عن رجال في نهاية حياتهم في رحلة للبحث عن المعنى.

البحث الروحي لبيرجمان يشكل محور أفلامه، و”الختم السابع” هو بداية تلك الرحلة العميقة التي تسائل عن سبب غياب الله عن العالم، وفي أفلامه اللاحقة مثل “من خلال زجاج مظلم” (1962) و”ضوء الشتاء” (1962) و”بيرسونا” (1966)، استمر في طرح الأسئلة الوجودية بنفس الشدة، حتى وصلت أعماله المتأخرة مثل “صرخات وهمسات” (1973) إلى قمة من التأمل في المعاناة الإنسانية وتناقضات الحياة والموت.

إن القوس الذي رسمه بيرجمان في مسيرته هو قوس مهيب، حيث ينطلق الشاب الساخط للتفكير في القضايا الاجتماعية والسياسية، ثم يتساءل في منتصف عمره عن الوجود واللَّه، وفي شيخوخته يلجأ إلى ذكرياته بحثًا عن إجابات، وكثيرًا ما نجد مشاهد من المصالحة في أفلامه، مثل مشهد الفارس الذي، رغم اقتراب نهاية حياته ومجيء الطاعون، يجد لحظة من السلام مع عائلة يوسف ومريم في فيلم “الختم السابع”.