بين السينما والتشكيل: مائة ظل وظل

Print Friendly, PDF & Email

نور هشام السيف *

البداية.. سحر البطون المكشوفة

في حين أن شاشات السينما في دول العالم كانت بمثابة النوافذ شديدة الترف لكل ما هو شيق ومبهر، لم تكن هناك نافذة واحدة مشرعة لنا في السعودية، أو على الأقل في المرحلة التاريخية التي نشأت فيها وما تخللها من تشدد وتضييق سيطر على المناخ الاجتماعي، بينما كان جهاز الفيديو مع الأقنية المحلية (رغم سطوتها الرقابية ذات الطابع التوجيهي) هما بساط الريح الإفتراضي نحو عالم البصريات المتحركة للتنقل بين البلدان وأسرار أمكنتها وأبطالها.

هذا المكمل الغذائي المحتدم بالمشاعر نتناوله في منزلنا كما نتناول الملعقة الأولى من الإفطار، مستهلين النهار بالأفلام الدرامية والغنائية، ومنهيين إياه بالأفلام الهندية.

كانت سينما بوليوود هي قوس القزح بطيف الوانه البراق من رقص وغناء ومجاميع غفيرة تملأ الشاشة. جمال أسطوري للبطلات الباكيات بدموعٍ لؤلؤية تارة و الساطعات كالضوء أمام نشوة الفرح و فيض الحب تارةً أخرى .

بعد كل فيلم أمسك الكراسة الصغيرة وقلم الرصاص كي أنقل جمال وجوههن، وتفاصيل زينتهن المكثفة، ولا أغفل بالتأكيد (البطون المكشوفة) وأنا أتساءل في براءة: لماذا تسير السيدات، الفتيات، الجدات في الحقول والمنازل والضواحي كاشفات البطن؟ 

الفتيات الهنديات كن يتنزهن في صفحات دفتري ببطونهن العارية والمحاطة برباط من حرير مشدود أعلى الخصر حتى يتدلى الجلد الزائد من فوق الرداء وكأنه نداء استغاثة من ضغط الأقمشة بإحكام، الفتيات الهنديات يتنزهن بين زوايا الصفحة الداخلية بالحُلي المعقدة والمتشابكة من الرأس إلى الأنف حتى القدمين ، ببتلات الورد التي تلف أعناقهن وأجسادهن الطرية ، ثم أترك لهن ثلاث صفحات فارغات كمشهد صامت أو كفاصل إعلاني يفصل بين مشهدين، وأعود في الصفحة الرابعة أرسم المجاميع بتشريح بدائي مع تفاصيل ما يكشف من الأجساد الأنثوية في منطقة البطن وهي خارجة للتو من ملاحم العشق والمعارك . أرسم كل هذا حتى ينالني التعب، وكأنني صنعت فيلماً منسوخاً بالكامل من انتاجي الرديء.

استمرت مكونات السينما التجارية في الطفولة تزور أوراق كراستي وصفحاتها البيضاء، بعضها غير مكتمل والبعض الآخر مضاف إليه عناصر وأحداث لم توجد في قصة الفيلم.  إنها الخلطة السحرية بأسرار معلنة: مشوقة في افتتاحيتها وواضحة في تتمتها.

اللهجة مستودع اللغة

كان لوالدي مكتبة كبيرة تتكدس رفوفها بالأفلام التي تتوالى بشكل طازج كل فترة، ورغم عدم ميله لمشاهدة المنتج العربي بقدر اهتمامه واقتنائه لكل جديد يخص الإنتاجات الغربية، إلا أنه يستثني منها سينما يوسف شاهين ويشاهدها بمزاج خاص ، من تلك المفضلات  ،التي تتصدر المكتبة (حدوتة مصرية

من فيلم حدونة مصرية

 كان فيلم “حدوتة مصرية ” (1982) بمثابة الإسقاط النجمي الذي أيقظ الحواس وجنيات الشطح الفني لدي، أستطيع الجزم بأن (حدوتة مصرية) هو محطة ترانزيت سبقتها رحلات منوعة جزء كبير من عاملها المشترك هو الرواية من زاوية الطفل، أعني الطفل الجماهيري (اللهلوب) كصورة مكرسة في السينما المصرية.

فمع تعلقنا بأفلام فيروز الصغيرة و لبلبة مروراً بالطفلة إكرام عزو بطلة فيلم (عائلة زيزي) ثم تجربة الطفلة (ميرفت علي) في السبعينات لاستعادة مجد فيروز من خلال فيلم (بص شوف سكر بتعمل إيه)

ظهر أمامي من الـ”حدوتة مصرية” الطفل (أسامة ندير) والذي يقوم بدور (يحيى) الصغير داخل القفص الصدري لـ (يحيى ) الكبير، تلك اللحظة الغامضة الملتبسة، أهدتني أول قشعريرة وبطاقة صعود مجانية إلى عالم الفانتازيا وأحلام اليقظة.

لماذا انجذبت إلى يحيى وليس إلى أطفال فيلم ( الحفيد)؟

السر يكمن في اللهجة أولاً واللهجة مستودع اللغة .

(يحيى) الشخصية التي تتناول السيرة الذاتية لمخرج الفيلم ، يتحدث العامية وكأنه يلحم الأحرف إلى جانب بعضها كقطع فسيفساء فتخرج في النطق تارة متراصة وتارة مبعثرة !

قد لا تستهدف اللهجة في الفيلم لطفلة مثلي أية مآرب نفعية، لكنها مكنتني من السفر ذهنياً بمكونها الحساس في إشباع الخيال، وفي هذا السياق لا يتبقى لي سوى التأكد من أن ثمة عالماً ما خارج الحدود

هل يعلم المخرجون مدى جاذبية اللهجة السرية بين طفل حكاء وطفل يتلقى الحكي عبر الشاشة؟ لقد قررت بسذاجة مفرطة أن أتحدث مثل يحيى، أن أهندس الكلمة وأنطقها دون رتم موسيقي، أن أرمي السؤال بإيقاع مبتور لإعلان اكتفائي بالمقصد، لكن من قام بدور يحيى ليس بعربي! لقد اختير خصيصاً لهذا الدور كي يحاكي اللهجة (الشاهينية) وأنا لست أمريكية الأصل ولا شاهينية الأب ففشلت في افتعال ذلك، إلا أن تأثير اللهجة قد انتقل بطبيعة الحال إلى كراستي الصغيرة، فقسمت العالم بشكل معكوس تتصدره شخوص انطوائية لايفهمها أحد، والقطيع يتراشق حولها في السر لكنه يهابها في العلن.

سينما قاتمة اللون جنائزية المبسم

بعد أعوام قليلة.. وقعت عيناي على سينما المخرج السوري عبد “اللطيف عبد الحميد ” من جهة، وسينما المخرج المصري “يسري نصر الله” شاهينية الطابع من جهة أخرى.

كان ذلك في عمر الثامنة عندما تم عرض فيلم (ليالي ابن آوى) وهو حتماً غير جذاب “كصنعة بصرية.” بدا لي – وأنا المغرمة بأفلام سعاد حسني – أنه فيلم متواضع تقنياً ومغلف بالكآبة. لكنه كان بمثابة العين السحرية التي تلصصت من بابها على حيوات أخرى بمدرسة إخراجية جديدة. عرض الفيلم عام إنتاجه على شاشة تلفزيون البحرين، وأعيد عرضه بشكل مستمر. ومع كل عرض، كنت أعاود المشاهدة بلا ملل.  أول الأسباب بالطبع هي تلك اللهجة غير المألوفة، أدركت أن هذا العنصر هو مغناطيس الفرجة لدي، ففي مواضع كثيرة تضفي اللهجة على سكانها صفة الطرافة وإن كان قاطنيها غير ظرفاء، كانت لهجة الساحل السوري طريفة جداً، ووعرة جداً، عليك أن تتولى فيها مهمة تفكيك رموز المصطلحات رغم إدراك للمعنى العام سلفاً.

من فيلم رسائل شفهية

بطل (ليالي ابن آوى) هو رب العائلة “أسعد فضة”. يرتدي ملابس أشبه بالكاوبوي. شديد الغلظة والتسلط على أفراد عائلته، لكنه يقف عاجزاً عن الصفير لإسكات بنات آوى فيستعين بزوجته الخانعة والمغلوبة على أمرها. المشاهد بلا إضاءة. مشاهد مظلمة خالية من الموسيقى. غياب الموسيقى أشعرني بالريبة وأدخلني في فراغ كثير الضجيج، يحيط به السأم والقسوة وضياع الجهد. هجمة ليل موحشة وغالباً بالعدمية المطلقة.

في هذه الأفلام نلتقي بالعزلة، عزلة المدن والقرى الهامشية. بصورة قاتمة قادتني للتعرف على أقلام الفحم. والفحم متدرج في السواد، متباين في الكثافة. اخترت أكثر الدرجات حدة، وجعلت خلفية كل مخطوطة كالليل الداكن اطمس أسوده في الفراغات الصغيرة وأسد فوهتها من أي قُزحَة ضوء هاربة. كنت أبدأ بالخلفية قبل التكوين، وكأنه استعراض صريح وصارخ بأنني أرفع من رسمي على أساسات ثقيلة.

ثم تأتي التجربة الثانية لعبد اللطيف عبد الحميد: (رسائل شفهية) 1991.  انصرف فيها لتسليط الضوء كما في فيلمه السابق على مناطق مجهولة تجعل المشاهد يغوص مع الفيلم كما لو أنه يجرب العيش فيها، حيث هم، كانوا جميعاً. يبدأ الفيلم بأمر هدم بناء بيت يقطنه جد وجدة وحفيدتهما الشابة الوحيدة. رمزية للمناطق الريفية التي تذهب وتتلاشى في الذاكرة كونها فريسة استهتار بمدلول هذه الأمكنة العتيقة. المنازل العارية من الشبابيك، ملابس منثورة على صعيد بؤس قاطنيها، وأودية مذهلة الجمال. وجوهر القصة حب ثلاثي الأطراف! البطل العاشق صاحب أنف كبير، أنف كاريكاتوري. ولأول مرة أقرأ على التتر: تصميم الأنف! وأيضاً لا موسيقى، بل هواء ساكن لسماع الذات الداخلية.

في هذه السينما ذات المدرسة الروسية، لا تلمح أبداً تفاصيل مكرسة للمشهد التلفزيوني، بل هو شيء ما في المدى الرحب كما عامل المكان المفتوح والممتد. هذا الفيلم يوقظ الأذهان عن مساحة الكوميديا السوداء في السينما العربية، وأنك رغم شاعريتك ورهافتك تستطيع أن تمد لسانك خارجاً على أي واقع بليد. وكيف تعيد في العمل الفني الوصلة بين الواقع والخيال.

 أصبحت أرسم الوجوه بأنوف وأسقط منها الأعين. كنت أرسم سائر الجسد وأتفنن بزوايا الأنف في حين أن أفراد أسرتي يحسبون أن الرسم غير مكتمل.

تزامنت مرحلة أفلام عبد اللطيف عبد الحميد مع ظهور الفيلم المصري (سرقات صيفية) للمخرج يسري نصر الله 1988، وهو قصة مستوحاة من سيرته الذاتية. وكعادتي عندما أشاهد عملاً سينمائياً يروي صناعهُ الحكاية من وجهة نظر طفل آخر، فلا بد أن تنشأ علاقة أنيسة بيني وبين الفيلم. ليس بالضرورة أن يحدث ذلك دائماً، لكن كاريزما الطفل ودهاءه المحبب في (سرقات صيفية) نجح في أن يجعل المتلقي قريناً له. في البدء، نلحظ تلك اللهجة (عودة مرة أخرى لمغناطيس الفرجة) والتي تدور في دهاليز الوجاهة الاجتماعية لعائلة إقطاعية مسيحية، كما هي لهجة يسري نصر الله في الواقع: مزيج من الأنفة والرخاوة. نغمة حديث لا تشبه لهجة العائلات الأرستقراطية في سينما الأبيض والأسود. تسمع نغمة هذه اللهجة في بعض أبطال الفيلم مثل : تميم عبده، منحة البطراوي، وأسماء بكري.

 في (سرقات صيفية) لا تستطيع الفصل التام بين روح يوسف شاهين ويسري نصر الله. وكأنهما نمطان يتطابقان ينصهران في بورتريه واحد. إنما كثافة الشخوص في الفيلم وخفاياها تولد تدريجياً الأسئلة التي تُطرح دوماً على بساط البحث الوجودي.

سينما يسري تمنحك التوق الدائم بأن تشفي المحيط من فتنة الزمن، بتبعاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

من فيلم مرسيدس

في فيلم (مرسيدس) 1993، وهو الفيلم الروائي الثاني لنصر الله، كان يستعصي علي فهم ما يقال وما يدار، لكنه سيطر على مزاجي كلياً بالسحر والواقعية. تلك الواقعية التي تتسلل إلى الروح وتطبع أثارها لاحقاً أثناء ممارسة التصوير التشكيلي. لم أعِ حينها شيئاً سوى أن البطل نوبي (زكي فطين عبد الوهاب) شخصية مضطربة تسير نحو الهوامش وربما في اتجاهات أكثر خطورة. وفي الزقاق الطويل حيث تتنقل البطلة (عفيفة) برشاقة وخفة مرتدية بدلة الرقص بينما يتبعها (نوبي)، رأيت منجزاتي المستقبلية هناك وهي قيد الإنجاز..

وفي تلك الهوامش يكمن المعنى: انهيار الأنظمة الشيوعية، مرسيدس السيارة التي ترمز للزهو الاجتماعي، انهيار قيم الأخلاق والأسرة، عقدة الأم، مستشفى الأمراض العقلية. ولأن (نوبي) يسير بقلب ينبض للآخرين المنسيين فقد نجاه المخرج من خاتمة حزينة.  لقد تخصص نصر الله بتقديم شخصيات إشكالية عديدة تتحسس القضايا الاجتماعية والاقتصادية والمصيرية كونه يضعها كبذور نبتت في تربة خصبة ومشبعة بالمناخ السياسي. كان من اليسير عليه أن يطرزها برسائل خطابية كي تصل إلى مستقرها، لكنها لن تنجو من الرتابة.

امتداد البوصلة

في عام 1994 ظهر برنامج (أوراق سينمائية) للمخرج السوري الراحل نبيل المالح. حلقات غزيرة شرح خلالها بالتفصيل عن التكوين السينمائي الجيد وترتيب العناصر المرئية والمعنى داخل الكادر ودور الأنماط والأشكال من كتلة وتوازن.. إلى آخره. وظفت المخطوطات الصغيرة والكراسات المبعثرة على خلفية تلك الفلسفة، حتى أصبحت التجارب الشخصية عبارة عن مشاهد على الورق لا تخضع بالضرورة لبؤرة تركيز واحدة.

لقد تعلقت كثيراً بالخلطات السحرية والسيريالية التي تكمن في مضمون أفلام تلك المرحلة أبرزها : ثلاثية شريف عرفة مع ماهر عواد و فلسفة المخرج رأفت الميهي الساخرة في  إعادة الصياغة لعالم الرجال والنساء ، وقد تزامنت مع مشاهدة إنتاجات سينمائية غربية لها الريادة في هذا الفن بفضل أصالة الفكرة الاستثنائية والصنعة التقنية الجيدة ، لا يمكن أن أغفل التشاؤم الرومانتيكي الطابع في سلسلة أفلام وودي ألن  . و أعمال شاعرية تقتفي أثر الحنين  مثل  :

Cinema Paradiso  (1988)

The Ghost (1990) Pleasantville (1998)

من جانب آخر تأثرت بأعمال تتأرجح الفنتازيا فيها بين الدراما والكوميديا مثل :

, Groundhog day  ( 1993) , Being John Malkovich  (1999)

The Green Mile (1999)  Amelle (2001)

***

نسيت أن أكبر

لقد كبرت.. وتخصصت.. ومارست.. ثم احترفت، تجاوزت الكراسة والمونوكروم ، وبيدٍ صلبة تلقفت الأشياء لنسجها أمام بياض اللوحات الكبيرة ، مع ذلك لا زال مخزوني البصري السينمائي أعلى رصيداً من تراكمات الذاكرة الانفعالية الخاصة بمشاهدات الفنون المعاصرة،   يبدو أمراً غريباً أن نصور المتاهة البشرية من مرجعية سينمائية. لكنها تتأصل مع الوقت جنباً إلى جنب لترتبط بحالات اجتماعية محلية يمكن توثيقها بالترميز بين مفاتيح التشكيل وعرف السينما. فكنت أظن حتى مرحلة ما قبل الجائحة بأن السينما الفلسفية والمستقلة هي ما أثرت في أساليبي الفنية، لكني اكتشفت لاحقاً التعلق الطفولي في اللاوعي بأفلام الفانتازيا العائلية والتي تقوم على الفعل التركيبي الافتراضي

مثل :

 Beetlejuice (1988)،  Big(1988) ،Who Framed Roger Rabbit، (1989)، و Honey, I Shrunk the Kids (1989). وقد ظهر تأثير ذلك جلياً في المشاريع الفنية الأخيرة.

السينما الهمتني التجريب في بذور الأصل عبر السفر الى تلك المناطق المتاخمة للحدود، ناولتني العبث المدروس والفوضى المنظمة. وإن جنحت نحو تشبيهات مضخمة أستطيع القول أنها أشبه بمصل يتغذى به الوريد كلما تم بناء هياكل اللون لعالم موازٍ مختلف، بينما خلود ذاكرتها كان ولا زال الرداء الذي اتدثر به كدرع واقٍ من تقريرية الأشياء. فلا يعترض الحُراس محاولات فراري من الواقع بعد أن تمرنت في كنفها على عدم الإشارة نحو ماهية اللون الأسود واللون الأبيض، لقد شرعت نافذتها لتهمس لي أن هناك درجات عديدة للأسود وأكثر منها للأبيض وبينهما: مائة ظل وظل.

  • فنانة تشكيلية من السعودية
Visited 4 times, 1 visit(s) today