رؤية فكرية جدلية لفيلم “الأصليين”: التغريب ومرآة ما بعد الحداثة

مقدمة

في الوقت الذي تتسم هواجسنا اليوم بالبحث عن حياة كريمة، أو على الأقل آمنة، يواجهنا فيلم “الأصليين” بواقع كونها أصبحت أيضا محكومة بضبابية الرؤية وضياع المعنى. اكثر من هذا يضعنا مخرج الفيلم مروان حامد وكاتب القصة والسيناريو احمد مراد، أمام تضاؤل قدرتنا على مقاومة هذا الواقع بسبب مفارقة اضمحلال قدرتنا على التعامل معه واستدلال مجرياته وتحليل المعلومات الغزيرة التي نرصدها عنه. ومع فقدان القدرة على التعامل التقييمي مع الواقع ومع المعلومات، نفقد أيضا شغفنا لتلمس معالم واقع مغاير وبديل لما نعيشه. وفِي هذا نفقد أيضا قدرتنا على الحلم وعلى الخيال.  فمروان حامد يرسم لنا ويواجهنا بلوحة نعاين من خلالها رؤى من جحيم وزيف ما بعد الحداثة، مستفزا ايانا بسرد قصصي مميز يقارب واقعنا )كمشاهدين( من خلال مواجهتنا بمرآة نرى من خلالها مدى القصور الذي نعاني منه نحن في التعامل مع القضايا الملحة التي تواجه عالمنا في هذه اللحظة الفائقة الخطورة من الألفية الثالثة. ومن الملح في اطار التعاطي مع فيلم بسيط التركيب شكلا وتسلسلا، وشديد التعقيد فكرا وأسلوبا كـ”الأصليين” أن نتكلم عن بعض الأطر التي ترفد القضايا الأساسية التي يتعامل معها وتشكل محورا لطروحاته الثيمية وأسلوبهالفني. 

ما بعد الحداثة

مع بداية التسعينات من القرن الماضي ومع الزلزال الذي ضرب العالم مع انهيار الدول الاشتراكية، والذي رافقه تصاعد جارف لافكار تتحدث عن نهاية التاريخ والسياسة والأيديولوجيات، وعن انعدام جدوى البحث عن بدائل لواقع الهيمنة الرأسمالية الشاملة، تمدد وازداد تأثير أفكار كانت بدأت تظهر ببطء وبغير تناسق في اواخر السبعينات من القرن الماضي. واطلق على هذه الاتجاهات الفكرية والثقافية في حينه بشكل عام وصف “ما بِعد الحداثة”. وتناغمت هذه الأفكار الى حد كبير وبأشكال مختلفة مع التطورات السياسية الآنفة الذكر، حيث أصبح التركيز على المنهجية النسبية المطلقة أساسا في رسم معالم التحليل المعرفي لأوجه عديدة من مواضيع البحث الثقافي والسياسي والاجتماعي. و ركزت معظم هذه التوجهات على فكرة نسبية الحقيقة، وعلى أن كل رأي يمثل حقيقة بحد ذاته، وبالتالي فانه يعكس وجهة نظر متساوية في قيمتها مع غيرها من وجهات النظر. ضمن هذا المنطق تنحسر أولوية التركيز على محاولة الوصول الى أجوبة وتصورات اكثر شمولية لأي واقع نعيش فيه. اذ يكفي تسليم هذا لذوي الخبرة للتعاطي معه بما يرونه مناسبا و”براجماتيا”. واتجه هذا النوع من التفكير الغارق في ابعاده الأيديولوجية الى رفض أية محاولة جدية لفهم او نقاش الديناميات الأشمل للأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المدمرة والغير مسبوقة التي يعاني منها العالم اليوم في مرحلة الهيمنة شبه المطلقة للرأسمالية. والمفارقة في هذا النوع من التوجهات الفكرية انها تستخف بأي محاولة لطرح بدائل جدية تعتمد منهجية دراسة الواقع بأطره الأوسع (أي عدم الاقتصار على درس ومحاولة حل نتائج الظاهرة، بل الغوص الى دراسة مسبباتها الأكثر عمقا)، ووصمها بالتفكير “الشمولي” والغير عملي.

أدت هيمنة هذا الإطار الأيديولوجي بامتياز في الثمانينات والتسعينات، والى درجة أقل منذ بدأ الالفية الثالثة، الى الهيمنة الجمعية لنوع من التفكير العدمي والعبثي في آن. فهذا الشكل من التفكير يحيل مجموع الآراء المتعددة حول أي موضوعة أو مشكلة مطروحة الى صنم “فتشي” بامتياز. وهذا الصنم في النهاية يتكون من تكريس الآراء والاختيارات المشرذمة والغير مترابطة وحتى المتناقضة من الرؤى والأفكار ووجهات النظر والممارسات بمجموعها وبجزئياتها الى نوع من “الحقيقة” او الحقائق البديلة، التي لا طائل من التمييز فيما بينها، او محاولة رسم معالم لمقاومة بعضها أو تبني بعضها الآخر، فكلها سواء: “كله زي بعض”! ضمن هذه الحالة من الغيبوبة الما بعد حداثية، تتساوى المفاهيم والرؤى كلها، وبحسب هذا المنطق يصبح من العبث ربط القضايا أو محاولة فهم علاقتها ببعضها البعض. بالنهاية، وفي هذا الإطار الفكري يغيب عنا تمييز آليات نظام الانتاج الرأسمالي والقائمة بالأساس على استخراج القيمة الزائدة للعمل كمصدر أساسي لبناء رأس المال- وتعلن هذه الاتجاهات عن وصولنا الى مجتمع جديد هو مجتمع “ما بعد الانتاج”، “ما بعد العمل”، “مابعد الأيديولوجيا”، و”ما بعد الرأسمالي”.

في كتابه المحوري “ما بعد الحداثة، أو، المنطق الثقافي للراسمالية المتأخرة”، يرصد الناقد الثقافي والفيلسوف الاميركي فريدريك جايمسون ما بعد الحداثة كظاهرة مرتبطة بتوجه أيديولوجي يقترن بمرحلة التطور الأخير للرأسمالية، والتي تتسم بحجب الرؤية الاكثر شمولية لواقعها كنظام قائم على علاقات الاستغلال الطبقي، حيث يهيمن شبق الاستهلاك واجترار هذا الشبق الى ما لا نهاية من قبل الشرائح الاجتماعية الأوسع من المجتمع، وخصوصا المستغلة منها، مما يحجب قدرة هذه الشرائح على تمييز الصورة الأكبر والأشمل للعلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية المهيمنة. هذا يجعل الرؤية الجمعية للإنسان المعاصر أكثر ضعفا وعرضة للخداع والتشويه الايديولوجي نظرا لاعتمادها المطلق على رؤية نماذج واجوبة وامثلة مجتزأة وغير متكاملة او مترابطة عن الواقع.

ويزيد من هذا الضياع طبيعة تطور تقنيات الاتصال والتي تجنح بطبيعتها الي تشجيع تجزئة الرؤية والاستيعاب وتحويلهما الى نظم من التجميع  المعلوماتي المعد للاستهلاك الوقتي، بدلا من الاستفادة من هذا التطور كمصدر بناء وتطوير لقدراتنا على الاستيعاب التحليلي للمعلومات والذي يقربنا من العلمية البحثية في رصد واقعنا ومكاننا في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية السائدة. كل هذا يعيق القدرة على تخيل أي بديل لواقع “التدجين الجماعي” كما يصف فيلمنا واقع تحولنا الى مراكز اجترار للاستهلاك الغير واعي. ويترافق مع هذا، اننا كمستهلكين نصبح اكثر انغماسا في ذاتية الأيديولوجية السائدة مع ترسيخ الأوهام التي ترافق استعمالنا للتكنولوجيات الحديثة للاتصال. حيث نتخيل اننا أصبحنا أكثر قدرة على التحكم في واقعنا، بينما نحن في الحقيقة لا نملك شيئا بالمقارنة مع القوى التي تملك وتتحكم في هذه التقنيات وفي استعمالها ومستعمليها.

من هنا يركز الفيلم على واقع كوننا مراقبين، بينما يكشف حينا ويلمح حينا آخرعن مظاهر الوهم الذي نعيشه بأننا (كشرائح اجتماعية غير مالكة لوسائل الانتاج) نملك القدرة على التحكم بمصائرنا بمجرد كوننا نملك وسائل الاتصال الرفيعة التقنية، او بمجرد حيازتنا الصورية على مكسب “التعبير الديمقراطي” عن وجهات نظرنا سواء عبر وسائل التواصل او في الجامعات وفي ابحاثنا، وربما عبر فولكلور “العمل السياسي الديمقراطي” البورجوازي السائد. ويخلص الفيلم للإشارة الى اننا طالما بقينا عاجزين عن استيعاب ذاتيتنا كنتاج ايديولوجي لهذا الواقع، فقدرنا أن نبقى أسرى له ولاستمرارية مشروعه الذي يتحكم في مصائرنا. فكيف يقدم الفيلم هذه الرؤية وباي أسلوب؟

السياق القصصي العام للفيلم

معظم الأفلام المتداولة تنحو الى سرد قصصي يقضي بالنهاية الى إشباع فضول المشاهد، والاجابة الواضحة (اوالغير مباشرة) على معظم الأسئلة الأساسية التي تطرح في الفيلم. هذا ليس بالضرورة ما تقوم به كل الأفلام، حيث يتفادي بعضها الاجابة عن بعض الأسئلة وربط الهوامش ويترك ذلك لمخيلة المشاهد.  وفِي بعض الحالات القليلة، يلجأ الفيلم عمدا الى ابقاء الأساس الأشمل للقصة دون توضيح، وبالتالي يترك الفيلم المشاهد ليس فقط من دون الحصول على بعض الاجابات، بل يستفزه باتجاه ان يشعر بالغربة شبه التامة عن الفيلم ككل. وقد يبقيه أيضا بمنأى عن التعاطف مع ابطال الفيلم الرئيسيين، بالاضافة الى حرمانه من اكتشاف المعطيات الأساسية “للحدوتة”. فيلم الأصليين يتبنى الحالة الاخيرة، لكن هل هذا يعني ان الفيلم لم يكن واضحا في سرده القصصي او في تركيبه للانسياب الزمني والمنطقي لهذا السرد؟

منذ بداية الفيلم الى نهايته، هناك وضوح جلي بالنسبة لتطورات القصة، كما فِي رسم معالم شخصياتها الرئيسيّة. فالحدوتة تبدأ بتعريفنا على موظف البنك سمير عليوة (ماجد الكدواني) و زوجته ماهيتاب (كنده علوش) وابنته وابنه المراهقين. وابن الطبقة الوسطى هذا يتمتع بوظيفة جيدة تسمح له بأسلوب حياة مريح والمكوث في شقة كبيرة والعيش في منطقة مميزة. بدون أي سابق إنذار يقرر البنك الاستغناء عن خدمات سمير ما يودي الى تخلخل كل أسس حياته واستقراره مع عائلته. سمير يخفي ما حدث عن عائلته محاولا قدر الإمكان التعامل مع الواقع الجديد بعيدا عن ضغوط زوجته وابنته وابنه وهم الذين نشأوا وتعودوا على نمط حياة معين لن يسهل عليهم أن يتخلّوا عنه. 

في خضم هذا التخبط الوجودي في حياته، يتم الاتصال بسمير من قبل شخص يطلق على نفسه اسم رشدي اباظة (خالد الصاوي)، وهو يمثل منظمة تدعى “الأصليين” وتوحي بأنها تعمل بروح الحفاظ والدفاع عن الوطن. رشدي يعرض وظيفة على سمير، ونكتشف بسرعة انها تتضمن التجسس على أشخاص معينين وفِي طليعتهم ثريا جلال (منة شلبي)، وهي باحثة وأكاديمية مهتمة بدراسة تاريخ و ثقافة المصريين القدماء. المنظمة تستعمل اجهزة مراقبة عالية التقنية قادرة على متابعة ورصد تفاصيل حياة هؤلاء الأشخاص طوال 24 ساعة. 

الشخصية الأساسيةالتي تقودنا في غياهب رحلة الفيلم هي بالطبع سمير الذي تتسم حياته قبل زلزال الإقالة من الوظيفة بالروتينية والتقليدية المملة، الى درجة ان تعامله مع ما يحيط به اضحى شبه مقتصرعلى احلام يقظة بالنجاح في ان يكون بطلا في احد برامج المواهب التي “يشاهدها” كل يوم غافيا على أريكته امام التلفزيون. بيد ان منظمة الأصليين، ولسبب لا يفصح عنه الفيلم، ترى ملاءمة في مواهب سمير للقيام بالمهام المطلوبة فتقوم بتوظيفه. والفيلم يجعلنا نشعر بان رغبة سمير بالوظيفة لم تكن فقط ناتجة عن الحاجة المادية، بل انها قد تكون أيضا ناجمة عن قناعته الذاتية بالدور”الوطني” الذي تمثله أو عن رغبته في الظهور بدور البطل امام عائلته وابنته بشكل خاص. 

الأحداث تتوالى، وإبان مراقبة سمير لثريا نلاحظ ان اهتمام سمير بها بدأ ينحو منحى شخصيا. هنا يبدأ “الصدام” مع المنظمة التي كانت حذرته من التقرب منها بأي شكل من الأشكال. فيما بعد يترك سمير عمله مع المنظمة ويلجأ الي العيش في عزلة، بعد أن تقرر زوجته وولداه تركه بعد اكتشافهم “تورطه” في عمل وعلاقات غير مفهومة. ونعلم فيما بعد أنه اقام في مدينة سياحية “صديقة للبيئة” في الصحراء. ونفهم من السياق العام لنهاية الفيلم ان سمير قد تخلى خلال تلك الفترة عن كل ما له علاقة بحياته السابقة وانه طلق زوجته وحافظ على علاقة جيدة معها ومع الأولاد. في آخر مشاهد الفيلم، يلتقي “بطلنا” صدفة في مطار بالمانيا مع ثريا، حيث يحاول من جديد التقرب منها ولكن هذه المرة بطريقة مباشرة، ومن خلال إظهار نفسه وكأنه مهتم بما تقوم به من دراسات وابحاث عن قدماء المصريين.

قد لا تكون القصة مشوقة للبعض، بمعنى ان أحداثها لا تتصاعد في نسبة تشويقها نحو أي ذروة في سياق الفيلم، وصولا الى نهاية تعطي بعض الرضى للمشاهد. لكن القصة موجودة وحاضرة في كافة معالمها، والسيناريو الذي يرفدها يمثل تجربة ابداعية مميزة قد تكون فريدة من نوعها لجهة التركيب الذي يرتكز على وضع المشاهد أمام مرآة قصور وتشتت رؤيته الما بعد حداثية نفسها كما سنرى لاحقا.

الفيلم كبحث في واقع ما بعد الحداثة

يبدأ الفيلم مع لقطة تتبع نرى فيها علب الدجاج المقطعة والمنسقة داخل الثلاجات والجاهزة للدخول في دورة الاستهلاك الكبيرة بينما نسمع صوت خالد الصاوي، والذي سنتعرف عليه في سياق الفيلم كرشدي اباظة وهو الممثل لمنظمة الاصليين، يتحدث عن الحيوانات المدجنة ومنها البشر. بالتوازي، يلي هذه اللقطة فورا لقطة تتبع طويلة أخرى وعن بعد داخل سوبر ماركت حديث وضخم، نرصد فيها شخصية الفيلم الرئيسية سميرعليوة دافعا أمامه عربة تسوق مليئة حتى التخمة بكافة انواع المنتجات. اللقطة متشابهة شكلا بلقطة من فيلم “كل شيء على ما يرام”  Tout va bienلجان ـ لوك غودار (1972) داخل سوبر ماركت فرنسي مشابه وتستمر لاكثر من عشرة دقائق. لكن هناك فرق جذري بين اللقطتين يعبر الى حد كبير عن التمايز الجذري بين لحظتين أساسيتين في تاريخ العالم المعاصر.

في لقطة فيلم غودار اللقطة الآتية من عصر ماـ قبل “بعد الحداثة” هناك تجسيد لعراك بين الطلاب المعادين للرأسمالية والأمن داخل المتجر الكبير، في حين تتسم اللقطة في فيلمنا هنا بخلوها التام من أي عنصر تمرد أو مقاومة. فكما رسم لنا غودار في فيلمه تعبيرا مجازيا عن واقع الحياة ضمن لحظة صراع عاشها العالم في ستينات القرن الماضي واتسمت بفهم شرائح شعبية واسعة لدور ومسؤولية القوى الطبقية المهيمنة في الأزمات التي تدمر العالم وضرورة مقاومة هذا الواقع، يشكل فيلم “الأصليين” في المقابل ومنذ بدايته لوحة رائعة للحظة “ما بعد حداثية” يميزها الهدوء الزائف الذي لا يقطعه الا المحادثة على الهاتف النقال بين عينتين من عينات “الحيوانات المؤدلجة” )الكدواني وزوجته(حيث يصبح الاستهلاك والحديث عن لعبة الاستهلاك الشغل الشاغل لمعظم شرائح المجتمع. اللقطة منسقة لتظهر وكأنها مأخوذة بطريقة تلصصية، تلميحا الى ما سنعلمه لاحقا عن كون الشخصية الرئيسية هي بالواقع تحت مجهر المراقبة، وهو ما سيمثل احد الأطر الثيمية الأساسية للفيلم.

سيناريو الفيلم وإخراجه يساهمان في إعادة تكوين حالة المشاهدة والتلقي الما- بعد حداثوية لدى المشاهد، والتي يعيشها ويمارسها بشكل او بآخر كل من يعيش في هذه المرحلة الرأسمالية المتأخرة. بمعنى ان الفيلم يقدم للمشاهد كل ما اعتاد على ان يصفه بالقصة “المتكاملة”، (رؤية جزيئات الأحداث، كبديل عن رؤية الصورة الأشمل لها وكبديل عن ربط تلك الجزئيات ببعضها البعض وتكوين رأي متكامل بشأنها). فالفيلم وعبر التمنع عن الإجابة عن بعض الأسئلة وعن شرح ابعاد مشوقة اخرى لمجرى القصة، يستفز المشاهد ليميز قصوره عن رؤية الصورة الأشمل حيث تكمن بالفعل القصة الحقيقية للفيلم. وهذه القصة بالذات هي التي سيصبح متوجبا على المشاهد ربط معالمها والوصول اليها بنفسه في عملية استدلال تتجاوز تجربة المشاهدة السطحية للفيلم، وربما تقوده الى البدء بالتحرر من القيود الأيديولوجية لمرحلة الرأسمالية الاستهلاكية والمتمثلة، فيما تتمثل، بالرؤية المجزئة والمجتزأة التي تطبع مرحلة ما بعد الحداثة. 

المخرج مروان حامد

في هذا الاطار يخلق الفيلم بشكله العام حالة “تغريب”(alienation)  بينه وبين المشاهد. فهو بالنهاية يضع امامنا عينة من واقع نعيشه واسلوب رؤية نحو العالم يماثل ما اضحينا جزءا منه. لكنه ولتحقيق ذلك يلجأ الفيلم الى سرد قصصي واضح في مضامينه المباشرة، أي فيما يتعلق بما يحدث لهذا او ذاك من الشخصيات، لكنه يبقى غير مكتمل في ابعاد قصته الأشمل والأوسع،  فهو يغيب الصورة الأشمل لمجريات القصة، وذلك بما يتناغم مع ويماثل الطريقة التي اصبحنا نتعامل فيها مع حالة التناقض بين واقعنا ورغباتنا، كما في اسلوب رؤيتنا لما حولنا والذي اصبح اضعف في قدرته على سبر غور واقعنا كذاتيات تعيش ضمن مرحلة الرأسمالية الاستهلاكية . فنحن نعشق الاستهلاك لكن الواقع لا يسمح لنا بتغطية نفقات ما نحن بحاجة اليه بالفعل، ولا يضمن لنا أمان الوظيفة والسكن والصحة والتعليم والشيخوخة. ومن ناحية اخرى، فنحن نحتفي بقدرتنا على تصفح الإنترنت وجمع المعلومات والتواصل مع من نريد ورؤية كل ما نريد، لكننا نبقى عاجزين عن ربط جزئيات ما نتابعه ببعضه بسبب قصور قدراتنا الاستدلالية على معالجة وتحليل ما نرصده.

فالمغيب عن الوعي الجمعي داخل المجتمع الاستهلاكي يبقى مغيبا فيما ننغمس في الآنيات والمعالجات المباشرة والوقتية في حياتنا، ونلهث للحاق بغيرنا في صراع كي نبقى جزءا من الدورة الاستهلاكية التي لا نهاية لها. اما الأطر السياسية الأوسع والأشمل لـ”الأصليين” الذين يهيمنون على عالمنا (وغض النظر عن هويتهم التفصيلية) فتبقى بمنأى عن رؤيتنا، وعن إدراكنا لأبعاد حركتها. ومن الواضح ان الفيلم غير معني بشرح هذه الحيثية، لكنه يستفزنا بأسلوبه الخاص لمحاولة الاستنباط والتوسع بدراسة هذه الحيثية بأنفسنا. وسواء فشل الفيلم في دفعنا نحو هذا الاتجاه أم لا، فهو يزرع بذورا كثيرة في مخيلتنا لتمييز بعض مظاهره، وبعض القوى الفاعلة ضمن الكابوس الوجودي الذي تعيشه البشرية في العقد الثاني من الألفية الثالثة من تاريخها.  

بين الأصليين والأصالة

لقب “الأصليين” الذي تتخذه المنظمة رمزا مستوحى (زيفا) من فرضية ارتباطها بما هو “أصيل” في مصر (أي حضارة مصر القديمة)، فهو في الواقع عكس ذلك تماما. بل إن أحد أهداف هذه المنظمة هو في الواقع محاربة واحدة من الباحثين في الحضارة المصرية القديمة والتي تسبر غورها من خلال ربط خيوط إبداعها الجمالي واستمراريتها، بمشروعها المعرفي والسياسي والإبداعي القائم على المساهمة الجماعية والتعاونية لمجتمعها وفي إطار تناغم كامل مع البيئة الطبيعية. ولقب الأصليين هو مثله في هذا السياق مثل اسم رشدي اباظة، والذي اتخذه مندوب المنظمة لقبا له يتناسب، على الأقل كما تأمل منظمته، مع كونه يرمز الى نوع آخر من “الأصالة” المصرية، تلك المحببة الى أوساط واسعة من أولئك الذين يشاهدون من حين الى آخر وبنوستالجيا حميمة بعض الأفلام المصرية القديمة.

بالتالي فان استعمال اسم “الأصليين” من قبل المنظمة هو نتاج طبيعي آخر لواقع ما بعد الحداثة حيث الرموز اللغوية تفقد اكثر فاكثر أي محتوى جدي وثابت لها، وتصبح جزءا من عملية تدوير للمعنى و للإشارات اللغوية. فكم من مرة رأينا الصورة التي ترمز الى تشي غيفارا تستعمل من قبل بعض مؤيدي الاخوان المسلمين او منظمات ليبرالية يمينية؟ وكم من مرة رأينا اسقاطات لأقوال شهيرة لرجل ناضل من أجل الحقوق المدنية للأميركيين من أصول افريقية كمارتن لوثر كينج مثل: “لدي حلم”، تتحول الى مادة اعلانية للتشجيع على الادخار في احدى المؤسسات المالية العابرة للقارات والتي بنت امبراطوريتها المالية على نهب دول العالم “الثالثُ” وشعوبها بما فيها شعوب افريقيا؟ فالمنظمة تدرك جيدا حالة الغيبوبة المعرفية الناجمة عن التضارب والتشبع (saturation) المعلوماتي السائد الذي تعاني منه أوساط واسعة من المجتمع، والذي يؤدي الى ضعف القدرة على الفرز والتمييز المنهجي والتحليلي. فنحن اليوم نرى الأشياء ونحتفي بها دون ان نكون لأنفسنا الإطار المعرفي الواضح لاستيعابها. بل بالعكس، فنحن نلجأ الى استخدام المعلومة أو الإشارة اليها كعنصر آخر للاستهلاك الوقتي الفتشي (consumer fetishism). وبالنهاية فالاسم والمعلومة لا قيمة معرفية وحقيقية لهما الا بمقدار استخدامهما التضليلي والخادم للذات من قبل القوى المهيمنة فعليا على علاقات الانتاج الاقتصادية والأكثرية المجتمعية. 

مروان حامد والمؤلف أحمد مراد وطاقم التصوير

ومقابل هذا الضعف الاستيعابي العام، يطرح الفيلم ما يرى فيه مثلا على حالة بديلة. فحضارة مصر القديمة على سبيل المثال استمدت قوتها وبالتالي استمرار الاهتمام بها عبر التاريخ كما تثبت آثارها (traces)، من قدرتها على التفاعل مع مشروع حضاري عبر ذات يوم عن مصالح شرائح واسعة من المجتمع، وليس فقط عن مصالح الجزء المتحكم في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية فيه. وهذا أتاح بالمجال لتكوين رؤى لدى اكثرية شرائح المجتمع المصري القديم اتسمت بالشمولية وبالقدرة على ربط الجزئيات ببعضها من ضمن مشاركتهم ضمن مشروع متكامل الاوجه والاهداف ومتناغم المفاصل والمحتوى.  

أحد شعارات هذا البديل هو العين و زهرة اللوتس )كرمز للخيال والقدرة على الحلم(. وهذه المرة العين تصبح اداة التواصل للمشروع الجماعي للإنسان الذي تواجد على ارض مصر خلال حقبات ما قبل الميلاد، وليست اداة لتحكم شريحة قليلة بالشرائح العظمى الاخرى في المجتمع. والعين هنا ترمز الى القدرة على رصد الأشمل والأوسع. وهذا في صلب قدرتها على التركيز على التخطيط والعمل والبناء من ضمن منظومة جماعية وتعاونية. وهي أيضا منظومة تنظر الى نفسها كجزء من بيئتها الطبيعية الاوسع على الارض والتى هي جزء منها، وقدرتها على الازدهار والاستمرار كانت دوما مرهونة بتناغمها )اي هذه المنظومة(مع تلك البيئة ونيلها واحترامها لهما. 

وبسبب تركيزه على مراقبة أوجه اكثر من حياة “ثريا” من خلال وظيفته الجديدة مع الاصليين، يتوسع افق رؤية سمير الى حد ما، ويصبح اكثر انفتاحا على رؤيتها كانسان مركب وجدلي المعالم وليس دمجا(amalgamation)  لمجموعة من الجزئيات الغير متصلة. فمنذ المنولوج الشعري الذي تتلوه ثريا من كتاب مذكراتها والذي يتمحور حول فكرة التناقض في الوحدة كأصل وهدف وتعبير عن واقع الحياة والانسان )“انا الحياة وانا الموت، انا الحب وانا الكراهية، انا الطفل وانا الكهل، انا الطاهرة وأنا العاهرة…”(، يبدأ سمير في التعرف على شكل ووجه آخر لرؤية ما حوله لم يعتد عليه من قبل. ومن ناحية اخرى، فان متابعة سمير لبعض معالم الأبحاث التي تضطلع بها ثريا (وهي في أساس توجس الأصليين منها والتي يحاول رشدى اباظة باستمرار التمويه على اهتمامه بها باعتبارها “موضوع اهتمام للخواجات”)، هو ما يجعل سمير اكثر قدرة على البدء بربط بعض الجزئيات ببعضها.

بيد أن سمير، وعلى الرغم من صدق اعجابه واهتمامه بثريا، يبقى أسيرا لهويته الما بعد حداثية وهو غير قادر بعد على تخطيها حتى لو أراد. فهو لم يتمكن بعد من تجاوز السطح في استيعاب وفك طلاسم علاقته مع الأصليين، فما بالك ربط مضامين ما تعيشه ثريا وما تعيش من أجله، أي ربط جزئيات شخصيتها مع المشروع البحثي الذي جعلت منه هدفا لحياتها: وهو مشروع البحث عن التكامل بين شخصها، واستلهامها لمشروع مصر القديمة وحيثياته، وأخيرا ما تضمره لواقع الحاضر ومستلزمات تخطي الهزيمة التي مني بها هذا المشروع ابتداء من الغزو الروماني المدمر. 

ففِي اثناء المحاضرة الثانية من محاضرات ثريا لا يملك سمير القدرة ولا الرغبة في طرح سؤال جدي يساعده على فهم الإطار الاوسع لمغزى ما تناقشه ثريا جلال. اذ يختزل “سؤاله” الذي يرسله مكتوبا الى ثريا بمعلومة يأمل أن يستفيد منها شخصيا وتتعلق بإبلاغها بان صديقها يخونها مع امرأة اخرى. فعلى الرغم من تزايد اعجابه بثريا فان سمير لا يوحي بأي اهتمام جدي بالتعرف على مكامن هامة وأساسية في تفكير الشخص الذي يميل اليه أو يسهم في تكوين شخصيته ككل.  بل على العكس، فهو يجد في الانتهازية والاستفادة من المعلومات التي بحوزته أساسا لرسم استراتيجية للوصول الى قلب ثريا. في المشهد الأخير من الفيلم نرى سمير يعاود استعمال نفس الاسلوب، حيث يلجأ الى استغلال جزئيات ما يعرفه عن ثريا كأساس للتواصل والتقارب معها، فنراه يختلق حكاية شغفه بالتاريخ “الفرعوني” امام ثريا كوسيلة ليستجدي اعجابها. وهو في هذا يذكرنا بالواقع الذي نعيشه اليوم، اي حالة تهافت حالتنا الانسانية في ظل الرأسمالية الاستهلاكية حيث كل شيء جائز في اللعبة طالما انه لا يقود الى تقييم تحليلي جدي يرينا حقائق “شمولية”، وطالما اقتصر تعاطينا مع المعلومات والمعطيات التي نجمعها على “اللعب” بها و”اعادة تدويرها” (re-circulate) او استهلاكها بعبثية اوبانتهازية نبررها لنفسنا ولغيرنا )كذبة بيضاء(، كما نبررها، وهذا الاخطر،  لاولئك الذين في موقع الهيمنة الفعلية في مجتمعنا وفي العالم.

وضع المشاهد في مجابهة مع قصوره الما بعد حداثي

أكثر من هذا، يعول الفيلم على التلاعب مع محدودية قدرة المشاهد نفسها على ربط الأشياء ببعضها البعض، وهي قدرة يدرك الفيلم، كما اسهبنا سابقا، انها تبقى محدودة بشكل عام وبطبيعة الحالة الما بعد حداثية التي نعيشها. فكما شخصيات الفيلم، يرى المشاهد في واقعه الما بعد حداثي مكمن قوة وتفوق (“أنا قادر على استجلاب اية معلومة”)، ولكنه من خلال متابعته لمسار الفيلم يدرك ان هذا التفوق هو تفوق شكلي ومزيف، لأنه يقتصر على التجميع ويفتقر القدرة على المعالجة (processing) والاستيعاب. فكما لا يمكن لسمير فهم موقعه في خضم مجريات الأحداث او رؤية دوره ضمن المعادلة الأكبر، بما فيها دوره ضمن عمليات المراقبة التي يقوم بها )يرفض رشدي اباظة استعمال كلمة تجسس(!، نبقى نحن كمشاهدين ايضا قاصرين عن رؤية الاشمل في المعادلات التي تحيط بقصة الفيلم وترسم معالمها وحدودها ومخارجها. ويقوم المخرج و كاتب السيناريو في هذا السياق في اللعب على شكل تقديم بعض الجزئيات الهامة للسرد القصصي.

في حوالي منتصف الفيلم تبدأ حالة تباعد فيما بين سمير عليوة ورشدي اباظة. ويرتبط هذا مباشرة بذهاب سمير الى المحاضرة الأولى لثريا. واهمية هذه النقطة في الفيلم تكمن في كونها تمثل نقطة انعطاف افتراضية للتطور الدرامي. وأقول افتراضية، لان الفيلم يقدمها من دون بهرجة، ويسوقها كواحدة من نقاط تطوره وليس كنقطة يفترض ان تتغير عندها وبشكل جذري توقعات وهواجس المشاهد. وسأحاول سبرغور أهمية هذه النقطة على التوجه العام للفيلم ومساهمتها في جعله يأخذ شكل تجسيد لحالة فكرية وليس فقط كحدوتة.

فريق الفيلم مع خالد الصاوي

فمنذ أن يفاجئ رشدي سمير داخل قاعة المحاضرات، نبدأ كمشاهدين بملاحظة بعض التغير في اُسلوب تعاطي رشدي مع سمير، ولو ان رشدي لا يبوح لسمير بهذا الامر، بل يتركه لسياق الأحداث اللاحقة. ويبدأ رشدي من هذه النقطة قدما في ممارسة سياسة التنبيه المباشر والغير مباشر مع سمير، محذرا إياه تكرارا من الخيانة ومن الوقوع في هوى الشخص الذي يراقبه (في هذه الحال، ثريا). ويحدث هذا مرتين: الأولى حين يرافقه في منتصف الليل الى المكان الذي تقطن فيه النداهة، والمرة الثانية عندما يرافقه الى المولد، حين يفاجئه ويجبره على “حفر” وشم بهية على كتفه. وفِي الحالتين، فان تحذير رشدي لسمير يصبح أساسا لتزايد توجسات الأخير من الاصليين وخوفه منهم، مما يدفعه في النهاية الى “تركهم” والتوجه الى الصحراء وإقامة مشروعه السياحي الصديق للبيءة في الواحات.

والاهم في هذا كله أن الانفصال بين سمير ورشدي يبدأ في التزايد ابتداء من نقطة ذهاب الأول الى محاضرة ثريا الأولى. ضمن هذه النقطة ينتقل محرك السرد القصصي من جدلية وغرابة الأحداث في حياة سمير (وبدون “ضجة” في السرد)، الى مسار نشاط ومحاضرات ثريا التي نبدأ هنا في فهم بعض مكامن خطورتها بالنسبة للأصليين. ففِي خضم محاضرتها الاولى تشرح ثريا وبوضوح بصري باهر الخلفية الاقتصادية لما يعيشه العالم اليوم من فوضى وانهيار على كافة الاصعدة، خصوصا في انفجار حروب أهلية وغزوات استعمارية جديدة وتعديات غير مسبوقة على البيئة. وتربط ثريا هذا الواقع مباشرة الى بداية أزمة انهيار البورصة الرأسمالية العالمية عام 2008، وهي الأزمة التي تقترح ثريا (وبشكل غير فج) انها قد وضعت هؤلاء الذين يهيمنون على مقدرات العالم في عنق الزجاجة.

والواقع ان في إشارات ثريا البصرية اتجاه واضح لربط مظاهر الفوضى القائمة حاليا بواقع اقتصادي وسياسي محدد لا ريب في تمييز طبيعة افقه الطبقي. فجدلية الشريط القصير (والشديد الأهمية) الذي تعرضه ثريا يقترح ويلمح الى الكثير لناحية اتجاه الطغم المالية المهيمنة على النظام الراسمالي العالمي اليوم على توسل كافة الطرق والأسلحة للحفاظ على هيمنتها في ظل الأزمة التي تعاني منها، والتي أصبحت في الواقع تفقدها بعضا من قوتها وجاذبيتها الاجتماعية والأيديولوجية والتي كانت قد تصاعدت بشكل غير مسبوق مع انهيار المعسكر الاشتراكي في اوائل التسعينات من القرن الماضي. فالدول الإمبريالية اليوم لم تعد تخفي مشاريعها الهادفة الى محاولة استعادة سيطرتها وهيمنتها على العالم والتي تتم اليوم (وكما نرى عن قرب في منطقتنا العربية)، عبر استعمال ابشع وسائل الابتزاز واستعمال الاٍرهاب المحلي والعالمي والقتل وتشجيع الانقسامات، و كذلك من ضمن خلق حالات من الفوضى المنظمة باتجاه إعادة تقسيم العالم بما يضمن استمرار هيمنتها المضطربة. كل هذا يدفع الى حالة الضياع التي نعيشها اليوم، وهذا ما يعبر عنه الفيلم (ومن غير جلبة) في العرض البصري الذي تقدمه ثريا ويشارك فيه سمير، ولكنه يمرعليه مرور الكرام )كما معظم النقاد الذين تعاطوا مع الفيلم حتى الان!( الا ان “مرور الكرام” الذي يحدث مع سمير، هو بدوره نقطة فاصلة في تطور السياق السردي للفيلم.

فعلى الرغم من ان ان رشدي لم يستحب، بل انه توجس خيفة من وجود سمير في المحاضرة وبدأ في سوق تحذيراته له فيما بعد حول “الخيانة”، فان رشدي لم يصل الى درجة القطيعة مع سمير. فابان الرحلة الليلية الى حيث تعيش “النداهة”، يطمئن رشدي الى ان اهتمام سمير بثريا لا يتجاوز مرحلة “الوله” (infatuation)، وبالتالي فانه لا داعي للخوف من ان يكون قد وقع في “مصيدة” أفكارها. ويتأكد رشدي من هذا عندما يسأل سمير عن اهم ما لفت نظره خلال مراقبته لثريا، فيجيب سمير: ان صديقها يخونها. وعلى الرغم من ان رشدي يوافق ويهنيء سمير (وان بخبث) على صحة تركيز اهتمامه على هواجس ثريا العاطفية ويستفيض في الكلام عن كيف ان هذه الهواجس عادة قد تقود الى ما هو اخطر بكثير، فانه يرفع أيضا من ضمن هذه التهنئة نوعا من التحذير المبطن له. فرشدي هنا يذكر سمير بضرورة توقي الحذر من تجاوز الحدود في تماهيات الانسان العاطفية الى الدرجة التي يصبح فيها الحب أساسا لتفجير طاقات “سلبية” اخرى.. ويشرح رشدي لسمير هنا بأسلوب موارب كيف ان حالة الكآبة والحزن التي قد تعاني منها ثريا مثلا في حال علمها بموضوع خيانة صديقها قد تقودها “لا سمح الله”، الى التوجه الى العمل السياسي! 

وهذا هو بيت القصيد بالطبع بالنسبة لموضوع مراقبة ثريا بأكمله: الخوف من إمكانية “تسييس” شطحاتها الأكاديمية وتحول هذه “الشطحات” الى جزء من عملية تحريض سياسي. اذ طالما بقي مشروع ثريا في إطاره الأكاديمي، وبقيت مناقشته مقتصرة على محاضرات وعروض لا يأتي اليها سوى أعداد محدودة من المهتمين والفضوليين، فهذا لا يقلق الأصليين بشئ، وبغض النظر عن خطورة وجدية ما تطرحه. ما يقلقهم بالمقابل هو إمكانية تحول اُسلوب ثريا ليتخذ طابعا تحريضيا يطال شرائح أوسع من المتضررين مباشرة والذين يعانون بالفعل من واقع ازمة تزايد وحشية النظام الراسمالي المهيمن. 

فهنا يكمن الخطر، وهنا تكمن الحبكة الدرامية الأخرى لمسار الفيلم، )بالاضافة لنقطة بدء التباعد بين سمير ورشدي(. بيد أن الأسلوب “المخادع” (underhanded) والفصيح (subtle) هو ما يجعل هذه التطورات الدرامية تلامس المشاهد من غير أن تبهره أو تلفت نظره الى درجة دفعه لتغيير توجهاته أو نظرته نحو المجريات السردية العامة للقصة أو الوصول الى استنتاجات واضحة بشأنها. فالمشاهد، يمر مرور الكرام على معظم أحداث الفيلم، وذلك بالرغم من غزارة معطياتها وتنوعها. ان هذا جزء من اسلوب السرد الذي يتبعه الفيلم ويحاول من خلاله اعادة تجسيد الحالة الما بعد حداثوية نفسها، والتي تتسم بطبيعتها بالميل لعدم لفت النظر الا الى جزئيات المواضيع، مما لايشجع على التعاطي معها كموضوع جدير بالاهتمام او الربط بمكونات اخرى محيطة بها. 

تدخل قصة بهية وياسين الى معادلة الفيلم كعنصر موازٍ يسهم في لفت نظرنا الى أن ما نشعره من ضياع وتشتت في قدراتنا المعرفية والاستدلالية له أسسه فيما هو في الظاهر غزارة توفر المعلومات وتوافر مصادرها مما يسهل رصد وتجميع هذه المعلومات، وافتراضا الاستفادة منها. بيد أن ما يحدث في الواقع هو ازدياد في ضياع قدرتنا على استيعاب و معالجة المعلومات واستعمالها بشكل يفضي الى فهم نفسنا وتاريخنا بشكل أقرب الى الموضوعية العلمية. فما هي قصة بهية وياسين الحقيقية؟ فاذا كانت كل الحقائق نسبية كما تعودنا أن نفاخر في مرحلة بعد الحداثة، فما الضير من أن نعتبرهما مجرمين كما أرادت صحف النظام الاقطاعي أن تصور للشعب في حينه. اليست هذه أيضا وجهة نظر؟  وحيث أن صحف الدولة القديمة قد وصمتهما باللصوصية والعهر، وبينما يكرر رشدي اباظة، الذي أضحى مكروها من سمير ومنا، التأكيد على كونهما بطلين قوميين، فمن نصدق هنا؟ طبعا الفيلم لا يجيبنا على أي من هذه الأسئلة، بل يتلاعب مرة أخرى بحالة “ضياعنا” كمحللين للمعلومات واعتمادنا الكلي على رؤى غير آبهة بالمتابعة او الوصول الى نتائج جدية. ويتناغم هذا بالضبط مع اسلوب تعامل سمير، وبالتالي الفيلم، مع هذه التساؤلات حيث يسقط الفيلم متابعة موضوع بهية وياسين نهائيا من ما تبقى من بقية قصته. 

إذن الفيلم يتعاطي وبحيز كبير من “حدوتته” مع ثيمة الرؤية المجتزأة والناقصة والغير متكاملة التي تطبع ثقافة شرائح اجتماعية واسعة في مرحلة ما بعد الحداثة. وفي هذا السياق، فان تركيز الفيلم هو على مواجهة المتفرج مع أسلوب تعامله (processing) وتعاطيه مع التجربة السينمائية والمعلومة في هذا المنعطف الما بعد حداثي. كيف لا، ونحن ندرك أن الأسلوب السلبي )بمعنى الانهزامي(الذي يطبع و يضبط حدود تعاملنا اليوم مع المعلومة في عصر “الثورة المعلوماتية”، أصبح يعيد نفسه كإطار لانهزامية وعدمية أفق المقاومة في تعاملنا مع القوى المهيمنة على العالم حولنا، وهذا بالظبط ما حولنا بالنهاية الى مجموعة مسيرة لا تجد خيارا لها الا في الرضوخ لما هو سائد وفي اعادة تدوير نفسها كآلة استهلاكية.

فالشخصية الرئيسيّة في الفيلم (protagonist) هي نفسها تبقى في الظلمة وان لم تكن واعية لهذا الواقع. و في هذا فانها تتناغم بشكل اساسي مع منظور و رؤية المشاهد الذي يُؤْمِن له الفيلم فرصة متابعة القصة باطارها العام من ضمن وجهة نظر هذه الشخصية. والتمايز الأهم (و ربما الوحيد) بين هاتين الرؤيتين يحدث فقط في نهاية الفيلم عندما يخصنا المشهد الاخير بلمحة لرشدي اباظة وهو مستمر في متابعة سمير وثريا، ساخرا هذه المرة وبوضوح من عدم قدرة “الفرخة” التي هي ضمن السور و تحت المراقبة والمعدة للذبح من ادراك الواقع الذي هي في وسطه. وبالرغم من هذا “الامتياز” المعلوماتي الذي يخصنا به الفيلم، فان المشاهد العادي يبقى غير مشبع من هذه النهاية التي لا تزيده الا ضيقا من عدم القدرة على ربط الخيوط الاوسع للمعضلات التي طرحها الفيلم.

فالمشاهد المعتاد على شكل عمل البنية الكلاسيكية للقصة السينمائية يفترض ان يصل مع نهاية الفيلم الى نوع من الاستنتاج المتكامل الذي يمكنه من ربط ليس فقط كل ما علق من ابعاد القصة ببعضه البعض، بل ايضا ان يخرج ببعض الاستنتاجات الواضحة لجهة الابعاد الثيمية لهذه القصة. ولكنه يكتشف انه ما زال فعليا في بداية طريق قد لا يكون هو حتى مهتما بالمتابعة فيه او استكشاف معالمه. فمن هم “الأصليون” فعلا؟ ماهي اهدافهم الكبرى، ومن يمثلون ومن هي القوى التي يمثلونها و يخدمونها بالفعل؟ هل هم فعلا ينتمون الى مصر، أم أنهم جزء من تركيبة عابرة للأمم والدول؟ هل هم مسيرون من قبل عصابة او شريحة خاصة، أم هم جزء من نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي سائد وأكثر تكاملا؟ الفيلم يفتح نفسه امام العديد من الاجوبة والاحتمالات وبالتالي يترك الموضوع للمشاهد ليكون رأيه. وتبقى هذه الأسئلة مع المشاهد وهو يترك صالة العرض. وقد  تحرض هذه الأسئلة البعض على فتح نقاش بهذا الشأن، و قد تفشل في ذلك.

فكما قلنا سابقا، القصة الأساسية للفيلم واضحة، ومجرياتها تسير الى الأمام من دون اي التباس. الا ان الفيلم يبقي غامضا في طبيعة وديناميات القوة المهيمنة والتي نعلم من خلال نهاية الفيلم انها لا تزال تُمارس هيمنتها ومراقبتها و”تلاعبها” manipulation)) بحيواتنا وواقعنا. هذا بغض النظر عن أوهام الحياة الحرة التى رتبها سمير واقنع نفسه بها عبر الاستقرار في منتجعه السياحي الصحراوي “المعزول” عن العالم، وبغض النظر كذلك عن استمرار ثريا في دراساتها وفي “تبشيرها” بمشروع بديل للواقع الما بعد حداثي الذي تعيشه ونعيشه.   

هل من بديل؟

من اللحظات القليلة التي يجري فيها نوع من التحدي لحلقة “الضياع” الثيمي الرئيسية في الفيلم هي التي نعيشها خلال المحاضرتين التي تلقيهما ثريا، حيث نتوق الى التناغم مع وضوح خطابها في شرح مكونات ومفاعيل المشروع الجماعي “الحداثي” الطابع للمصريين القدماء، ونامل ان نجد في هذا الخطاب بعض الاجوبة على الأسئلة والهواجس التي قد تؤرقنا مؤقتا لكن لا تستحوذ على اهتمامنا او تركيزنا ولا يتاح لنا طرحها او مناقشتها بشكل جدي، وذلك بالرغم من مركزيتها ومصيرية ابعادها. فهل كان الغزو الروماني لمصر نقطة البداية لنهاية المشروع الجماعي الحداثي الانساني في تركيبته و طموحه التغييري؟ وهل ما تبعه من محاولات لإعادة احياء هذا المشروع عبر بدائل اخرى وأشكال مختلفة في مصر وأماكن اخرى في العالم، كلها محكومة بالفشل والسقوط؟ الفيلم لا يعطي اجوبة في هذا السياق. ولكن العين المراقبة، كما يبدو من نهاية الفيلم لم تنقطع يوما عن القيام بدورها كي تكفل استمرار تهميش عمل ثريا البحثي وعدم الاستفادة منه، وبالتالي كي تكفل استمرار هيمنة اسلوب التفكير الاستهلاكي المجزأ والذي يضمن اعادة تدوير المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للطبقة الاجتماعية التي ما زالت تهيمن على عالمنا في أوائل الالفية الثالثة.

والفيلم لا يخفي أن ثريا لم يكن ليسمح لها أصلا، أن تستمر في لعب دورها لولا ورقة توت “الديمقراطية” التي يستعملها “الخواجات” من حين لآخر، كما يذكرنا رشدي اباظة في الفيلم، لتبرير وتمرير مشاريع استمرار هيمنتهم في العالم وبالتالي الحفاظ على “الهيمنة التوافقية” (hegemonic consensus) اللازمة لإعادة انتاج واستمرار نظام هيمنة رأس المال. وفِي هذا السياق، يبقي الفيلم على فكرة الحلم البديل في عمل ثريا البحثي حية في أذهاننا وإن كرهينة. اذ بالرغم من عدم قدرة ثريا على التواصل والتفاعل الا مع مجموعات ضيقة من المهتمين بعملها والذين لا يملؤون ربع قاعة محاضرات، فالفيلم يبقي على حلمها الذي يستلهم في اساسه شمولية وتكامل مشروع قدماء المصريين الحداثي، و لو من خلال “طمأنتنا” على ذلك من خلال المشهد الاخير للفيلم حين تؤكد “لنا” ثريا)عبر دردشتها مع سمير في المطار(استمرارها بعملها على هذا المشروع. والدليل الآخرعلى استمرار الحلم، نلمح معالمه مفارقة من خلال استمرار خوف “الأصليين” منه وإصرارهم على متابعة “مراقبتهم” لثريا كما نرى في اللقطة الاخيرة للفيلم مع رشدي اباظة وهو يعد العدة لمتابعة مهمته في مراقبة عدوته المزمنة لضمان عدم توسع نسبة المهتمين بعملها.

والمؤكد هو أن الفيلم بالنهاية، يستلهم ويعيد تجسيد صور ومشاعر أضحت جزءا “طبيعيا” من الواقع اليومي لأكثر شرائح مجتمعات العالم في هذا العصر، وخصوصا اولئك اللذين ينتمون للطبقات الوسطى، كما هي الحال مع “بطلنا” وعائلته. فنحن اسرى البطالة وعدم الاستقرار والخوف واضمحلال الخيال والأمل، الا ضمن اطار ما هو مسموح به ضمن لعبة الاستهلاك واعادة تدوير أنفسنا للمشاركة في هذه اللعبة. ضمن هذه الدينامية يضيق الفيلم علينا النفس، ويجعلنا نتمنى الخروج من سجن المراقبة البانوبتاكوني (بتعريف فوكو) الذي فرضه علينا. وهذه صورة قاتمة بالفعل لانها لا تبشر بكثير من الأمل. بأي حال، فان الفيلم يرسم لنا بابداع نصي وإخراجي وأدائي وفني متكامل فريد من نوعه في تاريخ السينما المصرية في العشر سنوات الماضية، لوحة عن عالم أسير بمحدودية الأفق والرؤية. هذا بالمفارقة مع كوننا نعيش في أوائل الألفية الثالثة وعلى عتبة أسرع وأهم حقب التطور العلمي والتقني في تاريخ البشرية. وللقصة تابع نأمل أن نتحول فيه الى ذاتيات مخيرة وغير مسيرة!

* أستاذ الفنون البصرية – الجامعة الأمريكية بالقاهرة

Visited 61 times, 1 visit(s) today