ذكريات 10 سنوات مع مهرجان”كان” السينمائي

Print Friendly, PDF & Email

منذ عام 2004 وأنا أتابع مهرجان “كان” ولن أبالغ أبدا إذا قلت إن هذا المهرجان غير حياتي حتى أنني أصبحت لا أتخيل أن أغيب عن أي دورة من دوراته. ولعل أهم ما تعلمه من معبد الصورة هذا، إضافة الى متعة الاكتشاف والمعرفة بالفن السابع،  هو النظر الى الأشياء بتجرد وتواضع. فعندما تقضي أسبوعين وانت تنام على كم من الصور يكاد يصيبك بالتخمة وانت القادم من عالم الجفاف والجوع الى الصورة، وتصحو على شغف اللقاء بالأعمال التي تعرض للمرة الأولى التي كنت ستنتظر أشهر أو سنين لتشاهدها إن لم تعثر عليها في مصب الزبالات الملأى بالاعمال المقرصنة ولكنك تظطر لاستهلاكها كسم يوذي عينيك ويدنس ذوقك لانه لاسبيل لك غيرها.

عندها تعلم بالحجة والبرهان أن العالم أكبر وأوسع مما كنت تظن. وعندما تفهم هذا فانك تفهم كم انت صغير دون خجل ولا عقد. حينها فقط تفتح عينيك وتتغذى بنهم من شعر العالم وتحلق بعيدا عن الرداءة. وأهم ما تتعلمه هو أن تنظر الى العالم وكأنك تقف على قمة جبل وهو أسفله.

 تنتابني هذه الخاطرة وأنا أحاول استعادة ذكرى أول مشاركة لي في هذا المهرجان كما لو أنها حدث تاريخي. وهي كذلك على المستوى الشخصي. يكفي أن أنظر الى الدورة الحالية في مقارنة سريعة لأن أدرك أن تحولا كبيرا حدث في كان وحدث في العالم بأسره ويمكن رصد هذا التحول من خلال ما يشاهد من صور وما يصاغ من خطابات. 

 أذكر انني تابعت حفل الافتتاح للدورة 57 سنة 2004 على شاشة كبيرة على الكروازايت ولم انتبه الى ما كان يحدث كما يمكننا الآن أن نراه بعامل الزمن وتراكم الصور.

تحضرني الآن لحظة ظهور المخرج الاسباني بيدرو المودوفار الذي افتتح الدورة 57 بفيلمه “التربية السيئة” Bad Education. قال المودوفار، ضمن ما قال، إنه يهدي فيلمه الى ضحايا الهجمات الإرهابية على مدريد. وأذكر أنه في نفس الدورة توج بالسعفة الذهبية فلم Faranheit 9/11 للمخرج الامريكي مايكل مورالذي ينقد فيه السياسة الأمريكية ودخول دولته الحرب في العراق.

عندما ألقي نظرة سريعة على برمجة “كان” أفهم أن هذا المهرجان يحرص على أن يكون له صدى لما يحدث في العالم، ففي هذا السياق كان لأحداث الحادي عشر من سيبتمبر 2001  وما تلاه من مهازل تراجم سينمائية كثيرة وثرية كان لها مهرجان “كان” بمثابة مسرح.  ففي هذا السياق أيضا برمج “كان” الكثير من الأفلام العربية على هامش الأقسام الرسمية منذ سنة 2011  إثر ما سمي بالربيع العربي. فبعد أفلام من تونس ومصر سنة 2011  التي لا تستحق حتى أن تذكر لرداءة مستواها وبعد مهزلة فيلم برنار هنري ليفي حول ليبيا سنة 2012، برمج مهرجان كان هذه السنة فلم عبدالرحمان سيساكو في المسابقة الرسمية. لعل هذا دليل على انه يمكن عمل افلام ذات جودة دون السقوط في المزايدة على دماء الشعوب. برمج المهرجان أيضا العمل الجديد للمخرج الشاعر السوري أسامة محمد الذي عبر بأسلوب نادر وذكي عن غضبه وثورته، ليس فقط ضد قدر شعبه الغاشم ولكن أيضا ضد العالم بأسره  لنفاقه وعدم احساسه بالماساة السورية.

من هذه الزاوية لا يفوتني ان أضع الدورتين وجها لوجه ليتجلى لي في وضوح القمر ليلة صيف لا سحابة تعكر صفوه. لقد ربح الغرب حربه ضد الارهاب لا بالقضاء عليه ولكن بتصديره الى عالم الجهل والتخلف الذي جاء منه. لقد تحولت ساحة المعارك من نيويورك ولندن ومدريد في السنوات الأولى للألفية الثالثة الى “تمبكتو” وميدان التحرير بالقاهرة وشارع الحبيب بورقيبة في تونس وصنعاء وحماه ووو…  وانطلت الحيلة واعتقد السذج أن الربيع قد حل وستزهر الديمقراطية في الأراضي القاحلة وستلد سنما جديدة في تناغم مع مد الحرية.

 غير أن هذه الحظة على الاقل لم تلد ولا ديمقراطية واحدة ولم نر فلما عربيا واحدا يحاكي المستوى العالمي. ولكن يبقى مهرجان كان المركز الذي يدور حوله العالم فهو يعرض أفلاما تشهد على الحراك الكوني الذي بمقتضاه تخلط الأوراق ويعاد تركيب العالم وفق توازنات جديدة لا يعيها الجاهل ولا المعتد بنفسه من فراغ ولكن يشتمها المخرج الشاعر والفيلسوف وصانع الصورة الذي يشهد على عصره ويساءل الانسانية كل لحظة عن معنى وجودها. ولكن هل لكل الأمم صناع صورة من هذا القبيل!؟

*  ناقد من تونس يقيم في أمستردام

Visited 14 times, 1 visit(s) today