ذكريات عن دور السينما في الاسكندرية

قبل نحو خمسة عشر عاما شاهدت برنامجا تلفزيونيا للمخرجة السينمائية أسماء البكرى تحدثت فيه عن ذكريات طفولتها فى حى الابراهيمية بالاسكندرية وذكرت دار سينما واحدة، هي دار سينما ريفيرا.

اننى استعيد نفس الذكرى رغم اننى لست من جيل المخرجة اسماء، فهي تكبرني، ولذلك فان ذكرياتى عن هذه الدار السينمائية تختلف تماما عما جاء فى شهادتها التليفزيونية، فقد ذكرت سيادتها ان هذه الدار كانت فخيمة ومهيبة، وربما كان ذلك قبل دخول التليفزيون فى مصر، اما انا فانا اذكرها وقد فقدت فخامتها ومهابتها بعد دخول التليفزيون الذى نافس دور العرض السينمائى فانصرف جمهورها، ولم تتدخل الدولة لحماية دور العرض السينمائى فشهدت اهمالا واضطرت بعض هذه السينمات الى الاغلاق نتيجة لتراكم الضرائب، وهذا هو الزمن الذى وعيت عليه، فقد عاصرت نهايات العصر الذهبى لدور العرض السينمائى، لكننى تذوقت برغم ذلك روعة هذا الزمن.

لقد اكتشفت سينما ريفيرا بنفسى عندما كان عمرى ثماني سنوات تقريبا، ولم تكن السينما الوحيدة، فالابراهيمية كان بها اربع سينمات، فسينما ريفيرا كانت فى جنوب الابراهيمية فى شارع يتفرع من شارع ابى قير (طريق الحرية)، بينما كانت سينما لاجيتيه فى منتصف الابراهيمية، ثم سينما سبورتنج شمال شرق الابراهيمية على شريط الترام، واخيرا سينما اوديون شمال غرب الابراهيمية على شريط الترام أيضا.

هذه السينمات الاربع كانت تحيط بى مثل القدر، لقد وعيت على هذه السينمات منذ طفولتى المبكرة، كما وعيت ايضا على بقايا عصر المكتبات التى كانت تنتشر فى الشوارع ويبيع اصحابها الكتب المستعملة بقروش قليلة كما يتيحون استبدال الكتاب بكتاب آخر بفارق سعر قليل جدا.

دعونى اولا اقول انى استقررت بصفة نهائية فى الاسكندرية عندما كان عمرى 18 عاما، اما قبل ذلك فقد كنت نصف سكندرى، فوالدتى سكندرية تزوجت من والدى فى مدينة المحمودية التى تبدأ منها قنال المحمودية وتنتهى فى الاسكندرية لتربط النيل بالبحر المتوسط، وفى هذه المدينة وُلدت وتعلمت حتى الثانوية العامة، لكن اجازات نصف العام واجازات نهاية العام كنت اقضيها فى الاسكندرية مع جدتى.

كانت جدتى تسكن اولا فى منطقة اللبان على شريط الترام، ومازالت احتفظ بذكرياتى عن هذا المنزل والبلكونة التى تطل على الترام، وكنت اتخذ هذه البلكونة مكانا لالعابى، وكنت اظللها بملاءة سرير لكى استطيع التطلع الى صخب الشارع واتابع الترام الذى يأتى والذى يروح.

لكننى عندما كنت فى الخامسة من عمرى، وجدت نفسى فى بيت جديد فى الابراهيمية، كان الشارع اسمه ادفو، وكنت اسكن فى منتصف هذا الشارع الذى يتفرع من شارع سينما لاجيتيه.

سينما لاجيتيه

لم ادخل سينما لاجيتيه مع احد، لكننى اتذكر ان اول سينما دخلتها كانت سينما الهمبرا فى محطة الرمل عندما كنت فى نحو الخامسة او السادسة من العمر، فقد اصطحبنى خالى فى يوم عيد مع معظم العائلة، وفى سينما الهمبرا خلت نفسى اننى فى الجنه، فمهابة السينما، ثم الشاشة الكبيرة والكراسى الكثيرة والزحام الشديد، ثم انطفاء الأضواء وظهور الفيلم وانطلاق الصوت ، شكلوا فى ذاكرتى صورة للجنة، فظل بداخلى حنين الى السينمات حتى الآن.

اننى لا اتذكر هذا الفيلم ولا تحفظ ذاكرتى شيئا عن اسمه، لكن لقطة مازالت عالقة فى ذاكرتى لبطل الفيلم وقد احتجزه اعداؤه مُقيدا فى سرداب اسفل قصر فدفع بيديه سقف القصر حتى انهار هذا القصر.

اما سينما لاجيتيه فقد تعرفت عليها بنفسى، فقد كانت على مسافة 90 مترا من منزل جدتى وبالتحديد على (قمة) الشارع، وكنت اذهب الى القمة لكى اشترى مثلجات من محل حلوانى ليونانى كان يبيع نوعا من المثلجات بقرش كان يُسميه ألاسكا وكانت السينما مجاورة لهذا المحل. لقد اقتربت من السينما وتوقفت امام اللوحات الزجاجية التى تعرض صور الأفلام، ثم قرأت أسعار التذاكر وكان من بينها سعر ثلاثة قروش ونصف قرش، وتلصصت على الناس وكيف يقطعون التذاكر ثم يختفون فى السينما بعد ذلك.

لقد ترددت كثيرا على نفس المكان وكررت نفس الأشياء حتى صارت السينما حميمة من الخارج، والآن جاء دور اقتحامها، وكنت متشجعا جدا ولست خائفا، واشتريت تذكرة ودخلت الى السينما خلف العامل الذى ارشدنى على مقعد ببطاريته ثم مشى.

كان هذا الفيلم من بطولة جان بول بلموندو وعمر الشريف، لا اتذكر اسمه الآن ولكننى استطيع من خلال الانترنت ان استعيد اسمه، ما يهمنى ان بعض مشاهد هذا الفيلم مازالت عالقة فى ذاكرتى مثل سيارة القمامة القلاب التى ترفع قلابها فيسقط منه جان بول بلموندو، او مشهد غرق عمر الشريف فى صومعة حبوب حيث تغطيه حبوب القمح المتساقط عليه.

ثم انتهى الفيلم ولاحظت ان الجمهور ينهض ويُغادر فتبعتهم وخرجت، وذهبت الى البيت منتشيا بجرأتى وقدرتى على هذه المغامرة التى سأظل أكررها الى الأبد.

وعندما ذهبت فى اليوم التالى شاهدت نفس الفيلم، لكننى لاحظت أن الجمهور عندما كان ينصرف كان عامل السينما يُعطيهم ورقة واخذت انا ايضا ورقة، وعندما خرجت الى الشارع راقبت الجمهور ولاحظت انهم يعودون مرة اخرى ويٌقدمون الورقة لعامل السينما ويدخلون وتبعتهم، وظللت ألوم نفسى كثيرا اننى ضيعت على نفسى بالامس أن أشاهد الفيلم التالى، فقد كانت سينما لاجيتيه تعرض فيلمين اجنبيين.

وعرفت أن الافلام تتغير كل يوم اثنين، فأصبح يوم الاثنين يوم خلاصى الذى اترقبه ساعة بساعة ولحظة بلحظة، لكى اكون واقفا صبيحة يوم الاثنين على باب السينما انتظر العمال أن يفتحوا أبوابها ويبدأون فى ادخال الجمهور وكان الجمهور صغيرا جدا لا يتعدى خمسة اشخاص أو اقل، لقد شاهدت افلاما كثيرة لبد سبنسر وترانس هيل فى هذه السينما كما شاهدت عشرات أفلام الكاوبوى الامريكية والاسباجيتى بنجوم الستينيات مثل صوفيا لورين وكلوديا كاردينالى، لكن سينما لاجيتية لم تكن تعرض أفلاما عربية الا نادرا، فقد شاهدت فيلم الكاراتية المصرى الابطال من بطولة أحمد رمزى، لكن الافلام العربية كانت نادرة فى سينما لاجيتية.

ان سينما لاجيتيه كانت مملوكة لمؤسسها ومالكها اليونانى الذى لا اعرف اسمه، وظلت هذه السينما تكافح من اجل البقاء حتى نهاية السبعينيات، لكن صاحبها اضطر الى اغلاقها وبناء جدار من الطوب على مدخلها، الى ان تم هدم السينما تماما وبناء مول تجارى مكانها، فرواد السينما من اليونانيين قد قل عددهم او تمصروا او رحلوا الى اليونان، لكننى اذكرهم فى طفولتى فقد كان شارع ادفو وقتها يتكون من فيلات ليونانيين تعبق برائحة الياسمين، وثمة عمارات قليلة كانت شقة جدتى فى احداها.

إن هذه الفيلات ظلت تختفى تدريجا من شارع إدفو حتى تحول الشارع تقريبا الى عمارات فى ثمانينيات القرن الماضى.

لكن ذكرى جيرانى اليونانيين مازالت ماثلة فى ذاكرتى، فقد كان الاستاذ كناكى يسكن فيلا من طابق ارضى مقابلة لشقة جدتى، وكنت ألمحه من بلكونة جدتى فى الدور الاول علوى وهو يتطلع من نافذة حجرته الارضية الى الشارع، وعندما كانت تلتقى نظرته بى كان يُحيينى، لقد كان كناكى استاذا فى مدرسة للجالية اليونانية وكان تلاميذ هذه المدرسة يملأون الشارع عصرا امام البيت حتى يسمح لهم كناكى بالدخول ليحضروا دروسه الخصوصية، وكان كناكى اعزبا فى نحو الخمسين من العمر، لذلك فقد كانت تحضر عاملة المدرسة اليونانية لكى ترعاه وتُنظف له البيت، هذه العاملة كان اسمها ماريكا، وكان اطفال الشارع يُعابثونها فكانت (ترطن) لهم فى وصلة ردح بأعلى صوت بكلمات يونانية ومصرية فيضح الاطفال الاشقياء بالضحك؟

ان اعتيادى على السينما الأوربية، كان بسبب هذه الطفولة، لكننى كنت أشتاق للأفلام المصرية، لذلك فقد كانت مُفاجأة لى ان اقرأ اعلانا على لوح اعلانات لسينما ريفيرا كان مُعلقا على احد الجدران بشارع بيلوز (لاجيتيه)، وكان الإعلان يتكون من ثلاثة بوسترات لثلاثة افلام أحدهم فيلما مصريا لفؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولى.

فبدأت أبحث عن هذه السينما ودلنى الناس على مكانها فى شارع أبى قير، فسرت اليها حتى عرفت مكانها ودخلتها، وكان هذا الفيلم المصرى الكوميدى هو اول فيلم اشاهده للسينما المصرية.

نيكسون أمام سينما ريفيرا

كان عمرى نحو الثانية عشرة عندما وقفت مع جموع السكندريين فى انتظار موكب الرئيس انور السادات والرئيس الأمريكى نيكسون وهما يعبران شارع أبى قير فى سيارة مكشوفة يُلوحان للشعب المصطب على جانبى الطريق، وكنت من بين هذه الجموع ، وكنت اقف فى مواجهة شارع سينما ريفيرا – انها الشهادة الوحيدة حتى الأن التى تُثبت ان الرئيس الامريكى نيكسون مر من امام  سينما ريفيرا بالابراهيمية السكندرية.

لقد كنت اطل على الموكب وكانت كاميرات التصوير مُصوبة نحوى ضمن هذه الجموع، وعندما انتهى الموكب عدت جريا مسافة 700 مترا تقريبا الى شقة جدتى مُنتشيا بهذه الحادثة وكونى سوف اظهر فى التيفزيون، وانتظرت الليل حتى ارى نفسى فى نشرة الاخبار وبالفعل لقد اعادت النشرة المشاهد المُصورة من الموكب، لكننى لم اظهر كما كنت آمل، فقد كانت الكاميرا تلتقط الجموع فى لقطات عامة، وصورتنى اللقطة فعلا لكن تفاصيل شكلى غابت وسط الجموع الكثيرة، لكننى رأيت نفس الموضع الذى كنت فيه اثناء الموكب.

إن زيارة نيكسون كانت قبل توقيع معاهدة السلام، تللك المعاهدة التى شهد توقيعها الرئيس الامريكى كارتر، لذلك فاننى اعتقد ان زيارة نيكسون كانت فى حدود عام 1975، ولم يكن الشعب السكندرى يدرى نية السادات فى توقيع معاهدة استسلام مع اسرائيل، فلو كان يعرف، ما كان حضر هذا الموكب وما كان يجرؤ السادات حتى ان يسير فى سيارة مكشوفة، لانه كان سيقُذف بالطماطم ان لم يكن بالرصاص.

كانت سينما ريفيرا تتبع نظاما ملتويا لكى تنجو من شبح الاغلاق، فقد كنت عندما اشترى تذكرة الدخول من شباك التذاكر، فقد كان العامل على مدخل السينما يأخذها منى ولا يُعطينى (كعب) التذكرة كما هم متبع، ان هذا الاجراء يسمح للسينما ان تُعيد تداول نفس التذكرة بهدف الالتفاف على الضرائب لكن هذا الاحتيال لم يحل من انتهاء سينما ريفيرا تماما، فقد تحولت الى قاعة لحفلات الزفاف بعد ان فشلت تماما كدار سينما انصرف الجمهور عنها وعن جميع دور العرض فى زمن بدأت مصر تدخل فيه الى ثقافة متطرفة تعادى الفن والسينما، هذه المرحلة شهدت تحالفا غير مُعلن بين الرأسمالية الطفيلية والجماعات الدينية المتطرفة فضاعت مظاهر مدنية الدولة وكانت دور العرض السينمائى اولى هذه الضحايا.

سينما سبورتنج

كانت سينما سبورتنج تواجه نادى سبورتنج الشهير على الجانب الآخر من شريط الترام فى محطة سبورتنج الكبرى، وكنت اذهب الى هذه السينما مشيا على الاقدام من منزل جدتى، فقد كانت قريبة، انها ايضا كانت تعرض فيلمين فى نفس البرنامج، وهى افلام العرض الثانى وكانت اسعار التذاكر رخيصة مثل باقى سينمات الابراهيمية .

محطة سبورتنج بالاسكندرية

هذه السينما تعرضت للبيع حيث اشتراها المنتج السينمائى المصرى جمال التابعى فى محاولة منه لتأسيس دور عرض سينمائى خاصة به وبطموحه فى الانتاج السينمائى، ثم انفق على تجديدها لكى تتحول الى سينما درجة اولى، لكنه على ما يبدو قد فقد ثروة كبيرة، فقد ظل جمهور هذه السينما قليل فى عصر انصرف فيه الجمهور عن سينمات إحياء الاسكندرية.

سينما اوديون

تقع سينما اوديون على شريط الترام فى محطة كامب شيزار، وكنت اسير اليها مشيا على الاقدام ، لقد شاهدت فيها افلاما حديثة بعض الشئ ، واذكر اننى شاهدت فيها فيلم انياب للمخرج الراحل محمد شبل فى أحد الاعياد (كنت حينها اكبر سنا)، لقد كان الفيلم من بطولة أحمد عدوية، وانا لم اكن احبه، لكننى دخلت الفيلم لأننى قرأت على الافيش اسم يوسف شاهين كمنتج للفيلم، لقد دخلت الفيلم خصيصا من أجل يوسف شاهين، فقد كنت حديث عهد فى السن وقد تعرفت على يوسف شاهين من احد البرامج التليفزيونية فاستقطبنى هذا الفنان باسلوبه الساخر فى الحديث وثقافته، لكننى بعد ان شاهدت فيلم “انياب” ادركت اننى خُدعت فهذا الفيلم لا ينتمى الى يوسف شاهين على الاطلاق، وهذا ليس مقام تجريح المخرج الراحل محمد شبل، فله شخصية واعتبار فى الوسط السينمائى ، كما اننى التقيت به مرتين احدهما اثناء دراستى فى المعهد العالى للسينما والثانية فى مهرجان اسكندرية السينمائى، لكننى على أي حال لا احب فيلمه “انياب”.

لقد تحولت سينما اوديون الى قاعة لحفلات الزفاف ولنفس الاسباب رغم انها شهدت عمليه تطوير الا ان جمهورها الصغير جدا حقق لصاحبها خسائر كبيرة .

باقى سينمات الاسكندرية

قبل ان اتم عمر الثانية عشر كنت قد ادركت اننى اعرف جميع سينمات الاسكندرية بالمعنى الحرفى للكلمة، فقد كانت تسليتى تتلخص فى ثلاثة اهتمامات فى هذا السن الصغير وهم قراءة كتب الالغاز والذهاب الى شاطى البحر بالمايوه من منزل جدتى الى شاطئ الابراهيمية او الشواطئ القريبة منها، ثم هوسى بالسينمات ، فقد كنت ابحث عن السينمات مهما كانت بعيدة وابذل كل جهد حتى اصل الى هذه السينما سواء كانت سينما جيدة او رديئة وسواء ذهبت راجلا او راكبا.

ان بعض هذه السينمات موجودة فى اعماق الاحياء الشعبية مثل سينما الحضرة فى حى الحضرة، ونظرا الى انها فى الجانب الجنوبى الاقصى من الابراهيمية حيث لا توجد وسيلة مواصلات اليها من منزل جدتى، فقد كنت اسير مسافة خمسة كيلومترات تقريبا للوصول الى هذه السينما الرديئة واعود مشيا على الاقدام كل هذه المسافة، لقد زرت ايضا سينما باكوس الرديئة ايضا فى حى باكوس، كما سمعت عن سينما اسمها وداد وظللت ابحث عنها فى جميع احياء الاسكندرية لكننى لم اعثر عليها ابدا.

لم ينجو من سينمات الاسكندرية الا سينمات حى محطة الرمل مثل راديو وفريال وريالتو ومترو وامير وريو ورويال وبلازا، اما سينمات ريتس وستراند والهمبرا وركس فقد زالوا تماما.

لقد دخلت كل هذه السينمات قبل ان اتم سن الثانية عشر، كما تعرفت من خلال هذه الهواية على جميع احياء الاسكندرية، تلك المدينة الاسطورية التى تستحق ان تستقل ثقافيا، ولعل نظام الحكم بعد ثورة 25 يناير يكرس مبدأ اللامركزية حتى تستطيع المحافظات ان تضع الخطط الثقافية التنموية دون تبعية من موظفى القاهرة البيروقرطيين.

Visited 126 times, 1 visit(s) today