“دانجال”.. عندما يتغلب الواقع الهندي على الخيال الشعبي

Print Friendly, PDF & Email

د. ماهر عبد المحسن

لجأت السينما الهندية كثيرا إلى الواقعية غير السحرية عندما اخترعت قصصاً خرافية لا تمت للواقع بصلة، واعتمدت على حبكات ضعيفة وسيناريوهات ملفقة، ومشاهد غير معقولة تتحدى قوانين الزمان والمكان دون رسالة واضحة أو قضية محددة. ويكفي أن كلمة “هندي” أصبحت تطلق على كل ما هو ضد العقل وضد المنطق.

كانت الصبغة الميلودرامية الاستعراضية هي أهم ما كان يميز تلك السينما الخرافية، إلا أن السينما الهندية المعاصرة حاولت أن توظف هذه السمات في قصص أكثر واقعية تعتمد على أحداث حقيقية. وفي هذا السياق، يعتبر فيلم “دانجال” (المصارعة) Dangal الذي أخرجه نيتيش تيواري عام ٢٠١٦م، وقام ببطولته عامر خان وساكشي تانوار وفاطمة سنا شيخ وسانيا مالهوترا، واحداً من هذه الأفلام.

الفيلم يستند إلى قصة حقيقية بطلُها مصارع هندي سابق، في أوائل الثمانينيات، يدعى مهافير سينج فوجات، كان يشعر بخيبة الأمل لعدم قدرته على الفوز في المسابقات الدولية بسبب ضعف الإمكانيات ونقص الدعم من بلاده، فتحول حلم الفوز وحصد الذهب من البطولات العالمية إلى أولاده الذين ظن أن بمقدورهم تحقيق الحلم الذي عجز هو عن تحقيقه، غير أن زوجته لم تنجب سوى أربع بنات، ما كان من شأنه أن يقضي على حلمه الكبير، لكن الصدفة أحيت الأمل في نفسه عندما علم أن اثنتين من بناته (جيتا وبابيتا) ضربتا اثنين من الأولاد، فقرر أن يجعل منهما مصارعتين يشارك بهما في المسابقات الدولية!

حول هذه الفكرة الغريبة تدور أحداث الفيلم. ووجه الغرابة أن مهافير كان يعيش في قرية فقيرة لا تقيم وزناً للنساء، فالمرأة فيها لم تُخلق إلا للزواج والإنجاب، ولا مكان في حياتها للعلم أو العمل، فضلا عن أن تمارس رياضة عنيفة كالمصارعة التي عرفت بأنها تخص الرجال.

وفيلم “دانجال، بهذا المعنى، يحاول أن يتجاوز الصورة النمطية للمرأة في السينما الهندية التي انحصرت في عدة مشاهد أيقونية تصورها كأم مضحية تمنح البركة للأبناء وتعمل على لم شمل الأسرة المفككة وانتشالها من الضياع، أو كموضوع لجريمة اغتصاب يمهد بها السيناريو لظهور البطل الذي ينجح في إنقاذها وسط تصفيق المشاهدين.

والصورة الجديدة التي يقدمها “دانجال” للمرأة الهندية، هي صورة رمزية يكون فيها فعل الاغتصاب معنويا بحيث يغتال إنسانية المرأة أكثر مما ينال من أنوثتها، كما أن فعل الإنقاذ يأتي على يدي المرأة نفسها وليس الرجل، الذي كان يقيم بطولته على أساس من ضعف المرأة وقلة حيلتها. ليس هذا فحسب، بل يمكننا القول إن المرأة في “دانجال”، بجانب إنقاذها للمرأة الضعيفة بفعل التقاليد المتخلفة، فإنها تحقق حلم الرجل (الأب) الذي فشل في تحقيقه بنفسه.

والصراع بين الرجل والمرأة ليس هو الأساس، ولكن الصراع بين التقاليد القديمة والتقاليد الجديدة. وبهذا المعنى، تكون المصارعة رمزا لصراع أكبر يتجاوز المعني الفردي للداخلين فيها.

يتبدى هذا المعنى في المشهد الذي يصور أول لقاء بين جيتا ومدربها الجديد في الأكاديمية الدولية (برامود كادام) عندما طلب منها أن تنسى كل ما تعلمته من مدربها القديم (الأب) وأن تبدأ معه من جديد. كما يتبدى أكثر في المشهد المعبّر الذي يصور مباراة المصارعة التي بين الأب وابنته، التي تلقت تدريبات علمية حديثة تتجاوز تعليماته البدائية التي عفا عليها الزمن، واستطاعت أن تهزمه، أو بمعنى أصح، أن تهزم التقاليد البالية في شخصه البدائي الذي لم يتطور، وظل في مكانه وكأن الزمن قد توقف عنده، في إشارة إلى البون الشاسع الذي بين الهند القديمة والهند الجديدة أو قل بين السينما الهندية التقليدية والسينما الهندية المعاصرة.

والمفارقة أن المشاهد لا يستطيع أن يمنع نفسه من التعاطف مع الأب الذي خسر مباراته أمام الابنة بنفس الدرجة التي لا يستطيع معها أن يمنع نفسه من التعاطف مع الهند القديمة بكل سحرها وأساطيرها الغامضة التي كانت ومازالت، مصدرا للدراما الهندية التي تخاطب خيال المشاهد ووجدانه.

إن فيلم “دانجال” لا يتخلى عن الخيال الشعبي الذي يجتذب المشاهد العادي، الذي يرغب في متعة المشاهدة أكثر مما يبحث عن رسالة وعظيه أو معني أعمق للفن وللحياة، لكنه لا يصنع أسطورته من الخرافة المنبتة الصلة بالواقع، وإنما من التفاصيل المدهشة لتجربة حقيقية عاشتها شخصيات حقيقية داخل عالم الرياضة والسباق المحموم الذي سمته النضال والمنافسة.

لهذه الأسباب تعتمد جماليات الفيلم على تجسيد رحلة تحقيق الحلم الذي راود مهافير طوال حياته وامتد إلى حياة الأبناء، من خلال مشاهد خارجية بديعة لساحة التدريب البدائية التي أعدها لابنتيه في الخلاء، لمواصلة التمرين في الصباح الباكر، في المراحل الأولى من حياتهما، ثم مشاهد التدريب المتقدمة في الأكاديمية الدولية في سن الشباب، وفي حلبات المصارعة الدولية التي تصور رحلة صعود جيتا إلى منصة التتويج كأول هندية تفوز ببطولة دولية، خاصة في مشهد النهاية الذي يحبس الأنفاس عندما انتزعت البطولة في الثانية الأخيرة من المباراة، ومن خلال حبكات درامية مثيرة صيغت بمهارة لتعكس روح التحدي والإصرار الذي جعل الفتاتين تدخلان في صراع مع الفتيان، بعد أن تخليتا عن مظاهر الأنوثة ومارستا حياتهما كالفتيان!

وبالرغم من الاختلاف الجذري بين الأساليب التقليدية في التدريب وبين الأساليب الحديثة فإن السيناريو يصل بذروة الصراع إلى المنعطف الذي يجعل من القديم والجديد عنصرين متكاملين لا متنافرين، عندما يجعل جيتا تفقد العديد من النقاط أمام منافستها الأسترالية، في البطولة الدولية، عندما تتبع تعاليم مدربها الجديد فقط، ولا تنجح في تعويض النقاط واستعادة روح الانتصار إلا عندما تستدعي تعاليم الأب (مدربها القديم).

فانتصار جيتا كان حلم الأب وحلم المدرب في الوقت نفسه، غير أن حلم الأول كان بمثابة حلم الأمة كلها، لكن حلم الأخير كان يخصه وحده، وإن كانت راية الهند سترتفع في الحالتين، إلا أنها لن تكون معبرة عن الهند الحقيقية إلا إذا كان النصر وليد رغبة متأصلة في نفوس أبنائها الذين لم يتخلوا عنها، وإن تخلت هي عنهم.

يؤكد هذا المعني انحياز السيناريو الواضح لجانب مهافير، الذي يمثل قيم الأصالة، في مقابل المدرب الجديد، الذي يمثل قيم المعاصرة، عندما يجعل من هذا الأخير شخصا شريرا، يدبر مكيدة لمنع الأب من حضور المباراة النهائية حتى لا يفسد عليه خطة اللعب التي رسمها لجيتا، غير أن فرحة النصر التي علت وجوه الجميع تجعلك تشعر أن ثمة معني أكبر من الصراعات الشخصية، قد يكون رفع راية الوطن، وقد يكون لذة النجاح في ذاتها التي لا يشعر بها إلا من قبل التحدي وثابر من أجل تحقيق الحلم حتى النهاية.

وربما في هذه الفرحة يكمن السر في القدرة على التواصل بين الأجيال، فعندما يتحول الحلم الفردي إلى حلم جمعي ثم إلى حلم قومي تذوب الخلافات في الطريق، وعندما يتحقق النصر يكون الفخر هو الشارة التي يعلقها الجميع فوق صدورهم.

فيلم “دانجال” ملحمة إنسانية مليئة بالمعاني التي تستحق التأمل، كما أن طاقم العمل يستحق التقدير، وعلى رأسهم النجم عامر خان الذي تخلى عن وسامته من أجل لعب دور الأب ومدرب المصارعة في آن، كما أجادت زيرا وسيم وسوهاني باتناجر، الفتاتان اللتان لعبتا دوري جيتا وبابيتا في الصغر، وتفوقت فاطمة سنا شيخ وسانيا مالهوترا في لعب الدورين في الكبر، خاصة فاطمة التي نجحت في تجسيد دور البطلة المصارعة رغم احتفاظها بأنوثتها، وهي مسألة ذات دلالة، لأنها في هذه السن تحقق النصر كامرأة، وليست كفتاة تؤدي دور الولد كما كان الحال في الصغر!

حقق فيلم “دانجال” أعلى الإيرادات، وحصد العديد من الجوائز، ما يعني أننا أمام انتصار للون جديد من السينما الهندية يحاول أن يكون أكثر مصداقية في ظل سينما سائدة مازالت تخلص لتقاليد الفيلم الهندي القديم التي تجافي العقل والمنطق وتعلّي من سقف الخرافة!

Visited 1 times, 1 visit(s) today