تأملات انطباعية في أسباب تميز”الجوكر” كفيلم العام في هوليوود

Print Friendly, PDF & Email

لم يثر فيلم أمريكي من الأعمال الموجهة للجمهور العريض جدلا كبيرا في السنوات الأخيرة مثلما أثاره فيلم “الجوكر” في هذا العام: احتفاء نقدي كبير؛ أرقام قياسية في شباك التذاكر؛ جائزة رفيعة في مهرجان البندقية مع توقعات بأخرى في الغولدن غلوب والأوسكار، وفوق كل ذلك نقاش شعبي ومجتمعي محتدم حول الفيلم وتيمته حتى خارج أمريكا نفسها.

لاشك في أن فيلم تود فيليبسبات ظاهرة محيرة في التلقي، وأبرز بشكل ملموس قدرة هوليوود على الخروج من التكلس الذي تعيشه وتغيير جلدها بين الفينة والأخرى لتفاجأ عشاق الفن السابع بتلك السينما التي شكلت بها خيالهم عبر تاريخها الطويل، من هذا المنطلق تسعى هذه القراءة المتواضعة لكشف بعض أسباب نجاح هذا العمل معتمدة على طريقة تلقي كاتبها للفيلم التي قد تختلف عن الطرق التي تلقى بها غيره العمل، مما يشرعن منطلق العنوان من الانطباعات الأولية الناجمة عن المشاهدة المنفردة.

بطل هامشي

لعل أول مفاتيح نجاح العمل هي خروج مخرجه عن الصورة النمطية للبطل الهوليودي الذي يستند إما إلى قدرات غير عادية أو يقترب من الناس العاديين ليشكل نموذجا يتماهون معه، البطل هنا دون الناس العاديين، إذ يعاني من إعاقات اجتماعية وجسدية ونفسية.

يعمل آرثر فليك (جواكين فينيكس) في وكالة للمهرجين، يلبس عدة الشغل ويضع المساحيق على وجهه، لا يدري أين سيوجهه مشغله، مرة يرسله ليقف أمام محل حاملا لافتة للإعلان عن التخفيضات، ومرة يرسله إلى مستشفى أطفال للترفيه على نزلائه.

لا تحتاج مهنة المهرج إلى قدرات وحذق مهني، لذلك صورتها السينما في نمطية مشهودة على أنها مهنة للهامشين والمهمشين، في الوكالة ذاتها كل المهرجين زملاء آرثر من الهامشين؛ بدين وقزم وأسود، وحتى أولئك الشبان الطائشون في الفيلم لم يتعرضوا على طول الشارع وعرضه إلا للمهرج حين نزعوا منه لافتة “كل شيء للبيع” وحطموها قبل أن يشبعوه ضربا دون أن يلتفت أحد في الشارع لاستجداء إرجاع اللافتة لأن المستغيث مجرد مهرج.

حين اختار آرثر مهنة المهرج منذ صباه، أراد في براءة وبناء على نصيحة أمه أن يُدخل البهجة على هذا العالم المليء بالكآبة، لكنه لما كبر حلم بالترقي من مهرج هامشي إلى فكاهي محترم يقدم عروضه في النوادي الليلية واضعا نصب عينيه مثله الأعلى مواري فرانكلين ( روبرت دونيرو) الذي تحول إلى مقدم برنامج تلفزيوني ناجح.

يعيش آرثر عازيا مع أم مقعدة في شقة بائسة في عمارة مهترئة أيضا تصفها الجارة صوفي بأحط الأوصاف، يبدل جهدا كبيرا للاعتناء بأمه، حيث يٌحممها بنفسه ويحملها من غرفة النوم إلى الصالون حيث تمكث أمام التلفاز لساعات طوال قبل أن يعيدها إلى غرفتها في ميعاد النوم، هو إذا ابن بار، حتى حين تخيل تواجده ببلاتوه مباشر مع موراي فرانكلين، ويدعوه هذا الأخير للصعود إلى الخشبة، كان مما افتخر به عنايته بأمه التي تبقى رفيقه الوحيد في هذه الحياة الموحشة.

حين يكتشف صدفة من رسائل الاستجداء التي تبعث بها أمه إلى السياسي توماس واين (بريت كولين)، أنه قد يكون ثمرة علاقة جمعت بينهما، يذهب للبحث عن حضن الأب الذي افتقده، لكن يكون مصيره طرد من منزل السياسي ولكمة دامية على الفكين من هذا الأخير في مرحاض السينما بشبهة الابتزاز، مما يعمق لديه جرح الهوية.

يعاني آرثر من “الضحك المرضي” وهو اضطراب عصبي يتميز بحدوث نوبات غير مسيطر عليها من الضحك تستمر لدقائق، وهي عادة ما تكون ناتجة عن مؤثرات عاطفية بسيطة قد تأتي من الحبور وقد تأتي في غالب الحالات من الحزن أو الغضب، فتطلق في غير مواضع الضحك الشيء الذي يسبب لصاحبها مواقف محرجة مع الآخرين.

يقاسي آرثر فراغا عاطفيا ولا يلقى أي اهتمام أنثوي، وحتى حين يربط علاقة متوازنة مع جارته السمراء صوفي يكتشف المتفرج بأن هذه العلاقة مجرد نتاج خياله المريض، إذ بعد كل الاستلطاف الذي تطور مع الأحداث، تعامله صوفي كغريب حين دخل شقتها وتطلب منه المغادرة لأنه دخل الشقة الخطأ.

قدم السيناريو وفق ما تقدم شخصية المهرج آرثر في قالب إنساني مؤثر، لا يملك المتفرج إزاءها إلا التعبير عن أقصى مشاعر التعاطف، ما جعل البورتريه الذي رسمه الفيلم للشخصية بعيدا عن شخصية الجوكر في خلفيتها الشريرة المستمدة من مسلسلات الكوميكس الشهيرة.

عنف الفرد المضاد

قد يبدو للوهلة الأولى أن موضوع الفيلم مطروق؛ فكثيرة هي الأفلام الأمريكية التي تعرضت للعنف المضاد الذي يمارسه الفرد كرد فعل على عنف يمارس ضده أو ضد غيره، لكن الرسالة التي أراد الفيلم أن يوصلها للمشاهدين، هي أن الفرد مهما بلغ ضعفه وقلت حيلته وصغر شأنه، في داخله مارد كبير يمكن أن يستيقظ تحث وطأة الظلم، ليتفنن في أصناف العنف.

ليس صحيحا التشبيه الذي طرحه كثير من النقاد في كثير من بقاع العالم بين آرثر في فيلم “الجوكر” وأبطال آخرين في أفلام كثيرة، لسبب بسيط هو أن المهرج آرثر لم يكن بوعي أو دونه في أي وقت من الفيلم مُقيم عدالة خاصة يتدخل حين تفشل العدالة النظامية في الإنصاف، وإنما يبقى ما أتاه مجرد رد فعل داخلي فردي لشخص مهزوم يواجه صنوفا من العنف داخل المجتمع، وحتى حين يحوز إعجاب الآخرين ويعتبرونه رمزا لحراكهم في آخر الفيلم، فإنه لم يسع في قرارة نفسه للبطولة وإنما دارت الأمور لتجعل قضيته قضية كل الهامشيين.

حين يدقق المشاهد في جرائم آرثر، سيجد أنها جاءت كلها لمجابهة صنوف العنف الرئيسة التي يتعرض لها الفرد في المجتمع.

1-   العنف الجسدي في الشارع، تعرض آرثر لتعنيف من طرف الشبان الطائشين الذين انتزعوا اللوحة التي كان يرفعها دون أن يستطيع الدفاع عن نفسه لأنه كان عديم الحيلة حينها، حين يجد نفسه في مترو الأنفاق في عربة مع شابة يُعاكسها ثلاث سكارى من موظفي حي الأعمال، تنتابه موجه الضحك المرضي الناجمة عن الغضب؛ يساء فهمه لٌيفسر الضحك على أنه استهزاء، يقوم الثلاثة لركله بوحشية، يسقط المسدس الذي كان يخفيه في ملابسه فجأة، لتتحرك غريزة حب البقاء، يقتل اثنين من المعتدين ويلاحق الهارب الثلاث ليقتص منه على غرار زميليه.

  • 2- العنف الأسري، كانت علاقة آرثر بوالدته مثالية، لكن كل شيء سينقلب حين يدخل في البحث عن الأب، يلاقي الأب المفترض طوماس واين الذي ينفي أية علاقة بأمه التي يتهمها بالعته وبأنها تبنته حينما كانت تشتغل لديه، حين يعثر على الملف الطبي لأمه في مستشفى الأمراض النفسية يجده متوافقا مع رواية طوماس واين، لقد تبنته بيني فليك ثم أهملته وتركته تحث رحمة عنف عشيقها الذي سبب له إصابات عديدة في الرأس تُرجح إعاقته العصبية.

لم يحسم الفيلم ما إذا كانت بيني فليك أما طبيعية لآرثر أم أن دخولها مستشفى الأمراض النفسية ووجود ملف طبي يشير إلى واقعة تبنيها لطفل تمت بتدبير من الملياردير توماس واين حتى يبعد عنه أية علاقة بالطفل، لكن آرثر حسم الأمر بحدسه ليصدر حكم الإعدام على أمه التي كانت في المستشفى تتعافى من آثار نوبة دماغية، وعلى عكس القتل الأول الذي كان عنيفا، جاء قتل الأم رحيما باستعمال الحنق بالوسادة.

  • 3- العنف في محيط العمل، لا جدال في أن العنف موجود أيضا في العمل، ويتجلى في كل مظاهر الأذى التي قد تلحق  العامل من المشغل أو من زملائه، وهو ما حدث لآرثر في محيطه المهني من خلال زميله في العمل البدين رندال (كلين فيشر) الذي لايتوانى في الوشاية به لمشغله، وسيبلغ الأذى مبلغه حين يسقط مسدس رندال من آرثر في عرضه أمام الأطفال المرضى، ليتهمه رندال بأنه حاول أن يبيعه مسدسا مما تسبب له في فقدان عمله، حين يزوره رندال مع زميلهما القزم لمواساته في وفاة والدته، يستغل الفرصة ليقتل رندال بمقص حاد وبطريقة وحشية، لكنه لا يتعرض للقزم بأذى بل يتركه يغادر الشقة رغم أنه كان شاهدا على جرمه ، مما يعطي الدليل على أن جرائم آرثر محض دفاع ولم تكن قط فعل اعتداء، وهو ما يزكيه انتفاء أية محاولة من جانبه للتعرض لشرطيي المطاردة اللذين كان يقومان بواجبهما المهني.
  • 4- العنف اللفظي، كما في حالة والدته، ستنقلب مشاعره تجاه  موراي فرانكلين من الإعجاب إلى الكره، فقد استغل هذا الأخير عرض “الون مان شو” الذي قدمه آرثر في ناد ليلي ليبث فقرات منه في برنامجه التلفزيوني الناجح بغرض السخرية، وبسبب نجاح هذه الفقرة يدعوه لأن يحل ضيفا على البرنامج حتى يكمل التعريض به، يتنبه آرثر للمقلب، فيتنكر في صورة الجوكر ويطلب منه أن يقدمه للجمهور بهذا الاسم، وعلى البلاتوه مباشرة يكشف أخيرا هويته ويعترف بأنه قاتل مترو الأنفاق ثم يطلق النار على من كان مثله الأعلى مرددا ” لقد نلت ما تستحقه أيها الوغد “.

رغم كل الجرائم التي اقترفها آرثر، لا يستطيع المتفرج أن يكرهه كما يفعل عادة مع قتلة السينما، لكن مشاعر التعاطف تستمر مع آرثر حتى النهاية، وتلك هي الميزة التي منحت الفيلم سحره الخاص، فقد قدم الجوكرفي خلفية إنسانية مؤثرة مٌجردا من شخصية الكوميكس الشريرة.

قضايا أمريكا الحارقة

يعتبر فيلم “الجوكر” فيلما عميقا، فهو فيلم قضية إن لم نقل فيلم قضايا، إذ لامس كل القضايا الراهنة التي تشغل بال أمريكا اليوم.

يبدأ الفيلم في العام 1981 في مدينة مُتخيلة اسمها غوثام، يكتشف المتفرج لاحقا بأنها تحمل مجمل معالم مدينة نيويورك، هي تورية مقصودة لم تمنع مع ذلك من إبراز الفيلم لأمريكا بكل تناقضاتها، أمكن التوصل إلى هذا التاريخ الدقيق من خلال جزئية صغيرة تمثلت في أفيشات الأفلام التي ظهرت في واجهات صالات السينما وتعود كلها إلى العام 1981.

تاريخيا، تصادف بداية العام 1981 مع تسلم الرئيس رونالد ريغان مهامه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية، وقد أثار انتخابه حينها توجسا كبيرا في أمريكا يشابه ذات التوجس الذي رافق انتخاب الرئيس الحالي دونالد ترامب، والاثنان تجمعهما تقاطعات مشتركة أبرزها أنهما يمثلان اليمين الليبرالي المحافظ الذي ينتصر إلى القيم الرأسمالية المجردة من كل عمق اجتماعي، مما جعل الارتداد إلى عقدالثمانينات من القرن الماضي محاولة من المخرج – الذي شارك بالمناسبة في كتابة السيناريو- لإسقاط وقائع الماضي على معطيات الحاضر.

حتى قبل أن تبدأ عروضه الفعلية، أبدت شرطة نيويورك ولوس أنجلس ومكتب التحقيقات الفيدرالي والجيش الأمريكي مخاوفهم من وقوع أحداث إطلاق نار بسبب التأثر المحتمل بالفيلم، مما أعاد للنقاش معضلة حيازة الأسلحة النارية في أمريكا، هنا أيضا شهدت ولاية الرئيس الحالي حوادث إطلاق النار وقتل جماعي خلفت ضحايا كثر، لكن الرئيس ترامب، وهو من دعاة حمل السلاح – لم يخرج بأي وعد لمراجعة قوانين حمل السلاح، وإنما كان يحث على العناية بالصحة النفسية للأمريكيين عوض التفكير في تقنين حمل السلاح، فهل هي مصادفة أن يضع سيناريو الفيلم السلاح الناري في يد مضطرب نفسي؟ وهل يصح القول بأن الفيلم انتصر لدعاة حمل السلاح على لسان آرثر الذي قال عقب تصفيته للمعتدين في مترو الأنفاق بأنه يشعر بالحياة لأول مرة في وجوده؟

في آخر تردد لآرثر على مشرفة المساعدة الاجتماعية، تخبره بأنه لم يعد بإمكانه الاستفادة من المتابعة النفسية والحصول على حصته المجانية من الأدوية بسبب قطع البلدية للدعم عن مؤسستها، مما جعل الفيلم يفتح ملفا حارقا آخر هو ملف التغطية الصحية للفئات الهشة في أمريكا، ومن مفارقات التاريخ العجيبة أن ريجان ألغى في العام 1981 قانون الصحة العقلية التي سبق لسلفه جيمي كارتر أن أصدره مما أخرج الآلاف من أمثال آرثر من التغطية الصحية المجانية وقذف بهم إلى الشارع، تماما كما أعاد التاريخ نفسه مع ترامب حين ألغى في 2017 المساعدات الصحية التي أقرها سلفه أوباما للفئات الهشة في إطار القانون المعروف ب Obamacare، ليتأكد مرة أخرى نهج الفيلم في المقابلة بين ريجان وترامب.

عرض الفيلم أيضا للفوارق الاجتماعية بين البيض والسود، فكل السود الذين ظهروا في الفيلم من الهامشين أو من دوي المهن الأقل شأنا في المجتمع؛ المهرج الأسود في الوكالة؛ صوفي الأم العازبة وجارة أرثر في العمارة؛ المساعدة الاجتماعية؛ السيدة التي يداعب آرثر ابنها في الحافلة؛ عامل الأرشيف في مستشفى الأمراض النفسية والمرأة المحققة في المشهد الأخير، بالمقابل يقدم مشهد السينما مجتمعا أبيضا  راقيا  لكنه مغلق؛ رجال ونساء بيض لا يظهر بينهم أسود أو ملون في قمة الأناقة يبدو للوهلة الأولى أنهم في عرض أوبرا، لكن سرعان ما يزول اللبس حين يدخلون في ضحك هستيري، ليكتشف المشاهد أنهم بعد كل هذه العقود مازالوا يضحكون على العامل البروليتاري البسيط شارلو في صراعه مع الآلة في فيلم “الأزمنة الحديثة “.

يقدم الفيلم هجاء حادا للسياسة والسياسيين، فمدينة غوثام تعيش تحث وطأة الفساد والبطالة وانسداد الآفاق وشوارعها غارقة في أكوام من القمامة، هنا يقدم الملياردير توماس واين والأب المفترض لآرثر نفسه بديلا عندما يترشح لمنصب العمدة، في سعيه لتسلق هرم السلطة يثير حفيظة الفقراء بتصريحاته المستفزة، لكنه ظل يتقدم بخطى ثابتة للهيمنة على المدينة لولا أن سقط برصاص أحد المتنكرين الغاضبين، ليضيع دمه بين القبائل بتعبير المثل العربي.

نادرا ما خاضت هوليوود في الصراع الطبقي الذي ظل موضوعا ذا حساسية منذ ملاحقات السيناتور ماك كارثي، يُرجع الملياردير توماس واين حادثة مترو الأنفاق إلى حقد الفقراء على الأغنياء ويتهمهم بالتنكر في لباس المهرجين لتنفيذ جرائمهم، مما يقود إلى أن يصبح القاتل الغامض بزيّ المهرج بطلاً شعبياً للفقراء، والذين يرتدون أقنعة المهرِّج، ويحملون لافتاتٍ تقول: “جميعنا مهرجون” ليتحول آرثر إلى رمز للحراك مما يجعله يحس أخيرا بتقدير الآخرين.

لا يكشف الفيلم عن الهويات الإثنية للفقراء الغاضبين، فكلهم يتوارون خلف أقنعتهم، مرة واحدة فقط كشف شرطي المطادرة في مترو الأنفاق قناعا، ليكتشف المشاهد مواطنا أمريكيا من أصول لاتينية، اختيار واع أريد به تغليف حراك الفقراء، حتى قاتل الملياردير توماس واين كان يلبس قناعا ولم يتملك المشاهد الفضول لكشف قناع مثل قناع هذا القاتل، وإن كان كاتب هذه الكلمات يرجح أن يكون أبيض السحنة لنحافته وطول قامته.

في الأخير يرفع المتظاهرون بطلهم فوق سيارة الشرطة المعطوبة، وفي لحظة انتشاء يقوم بجمع الدم الذي ينزف من فمه، ليصنع به مكياجا لشفتيه، حينئذ فقط يتحول آرثر إلى جوكر الكوميكس بلحمه وشحمه، وليؤكد رسالة الفيلم بأن الشر لا يمكنه إلا أن يولد شرا.

عظمة الممثل

لا يمكن لأحد أن ينكر على فيلم “الجوكر” تماسكه على جميع مستويات الإنجاز الفني، مع تميز خاص للسرد بسلاسته واعتماده على توليفة عجيبة تعتمد التداخل بين واقع المهرج آرثر وخياله الجامح، مما يفتح الفيلم أمام تأويلات متعددة تحسم فيها بعض التفاصيل الصغيرة.

على أن الجانب الذي تميز في الفيلم أكثر من غيره، يبقى التشخيص المبدع الذي يبعث رسائل للممثلين قبل المشاهد نفسه، فلكي يصل إلى قمة الأداء الذي عاينناه، بدل جواكين فينيكس تضحيات كبيرة وقام باشتغال كبير على الشخصية وتفاصيلها، فقد روي بأنه أعتمد على حمية قاسية أفقدته 23 كيلوغراما من وزنه ليجسد شخصية المهرج الهزيل ذي الشعر الذهني كما رسمتها سلسلات الكوميكس.

شاهد أيضا مئات الفيديوهات عن مرضى الضحك العاطفي حتى يصل إلى ذلك التقليد الرائع للضحك حد الشهيق الذي يخفي ورائه مشاعر الألم والمعاناة، وفي درس لمن يستسهلون التمثيل حظي بمرافقة مدرب رقص في أداء الحركات الكيروغرافية المدروسة التي ظهرت في مجموعة من مشاهد الفيلم.

شكل حضور الكبير روبرت دو نيرو قيمة مضافة للعمل، ساهمت دون شك في الدعاية للفيلم وفي تسويقه، حضور ساهم أيضا في ربط العمل بفيلمين آخرين لدونيرو هما “سائق التاكسي” 1976 و” ملك الكوميديا ” 1983، فانبرى كثيرون في البحث عن التقاطعات بين فيلم “الجوكر” وبين فيلمي مارتن سكورسيزي، لكن الذي تغير في الأعمال الثلاثة أن دونيرو وعى فعل الزمان في الممثل، فانتقل من الدور الأول إلى دور ثانوي بمساحة صغيرة في العمل مكرسا مقولة قسطنطين ستانسلافسكي” ليس هناك دور صغير وآخر كبير بل هناك ممثل صغير وآخر كبير”، موقف يقودنا إلى طرح تساؤل مشروع مؤداه؛ هل يمكن لعادل إمام وغيره من نجوم الصف الأول في السينما العربية المغامرة – مهما كانت قيمة الكاشيه-  بالظهور في أفلام الشباب في أدوار ثانوية بمساحة صغيرة؟ سأجيب بالنفي لأن النجم العربي يرغب دوما أن يبقى شمسا وباقي الممثلين كواكب، ما جعلنا نقول إن فيلم “الجوكر” احتفى فعلا بعظمة الممثل لا في أدائه فقط ولكن بتضحياته واشتغاله وقبل كل ذلك بتواضعه.

Visited 165 times, 1 visit(s) today