جمهور الفيلم السينمائي المغربي بين الهجر والتهجير
في ظل الحصار الخانق الذي يجثم الآن على صدر ما بقي حيا من دور العرض السينمائي بالمغرب، وفي انتظار أن تعود عجلة التوزيع السينمائي إلى الدوران من جديد فتعيد بعضا من الحياة لهذه الدور، يبدو من الضروري أن نعيد مرة أخرى طرح إحدى أكبر المعضلات التي تعاني منها السينما المغربية ألا وهي اختلال العلاقة بين الجمهور المغربي وسينماه الوطنية، هذه المعضلة التي تزداد تفاقما يوما بعد آخر، ولا تظهر في الأفق أي مؤشرات تؤكد أنها في طريقها إلى الزوال.
مناسبة هذا الحديث أمران مترابطان: التآكل المهول لقاعات العرض السينمائي من جهة، والنسبة المتواضعة لتردد الجمهور على هذه القاعات من جهة أخرى. فمن أصل 251 دار عرض كانت متواجدة سنة 1980، لم يعد المغرب يتوفر لحد الساعة إلا على 28 قاعة عرض فقط. كما أن عدد المشاهدين الذين ارتادوا القاعات السينمائية كان قد وصل 45 مليون مشاهد سنة 1980، في حين لا يكاد يتخطى اليوم عتبة المليوني مشاهد.
ولكي تتضح الصورة بشكل أوضح عن واقع ارتياد الجمهور المغربي للقاعات السينمائية، ارتأينا أن نقدم بين يدي القراء دراسة إحصائية مقارنة تبين عدد المشاهدين الذين ارتادوا قاعات العرض السينمائي من أجل مشاهدة فيلم من الأفلام المغربية وذلك خلال الفترة التي سبقت الجائحة ببعض الوقت، وبالضبط بين سنة 2015 وسنة 2018.
وقد قسمنا هذه الأفلام إلى ثلاثة أقسام: أفلام تقليدية تحتفي بالحكاية وتستجيب لأفق انتظار المشاهد، وأفلام حداثية تنتهك المألوف والسائد وتنحو منحى فنيا تجريبيا، وأفلام توفيقية تسعى إلى تحقيق معادلة الإبداع والتلقي.
أفلام الاتجاه التقليدي
حينما أتيح لهذه الأفلام أن توزع داخل السوق السينمائي المغربي، تفاوت إقبال الجمهور عليها. لكن الملاحظ – سواء حسب ملاحظات المتتبعين للشأن السينمائي الوطني، أو حسب الإحصائيات الرسمية الصادرة عن المركز السينمائي المغربي، أن هذه الأفلام هي الأكثر نجاحا على مستوى شباك التذاكر.
ففيلم “البحث عن زوج امرأتي” مثلا، حقق رقما غير مسبوق حين نزوله إلى القاعات السينمائية بداية التسعينيات من القرن الماضي، فقد شاهده أكثر من 800 ألف متفرج، وفيلم “لحنش” شاهده سنة 2018 ما يفوق 200 ألف متفرج، وفيلم “دالاس” شاهده ما يزيد عن 110 آلاف متفرج سنة 2016، وفيلم “الفروج” شاهده ما يقرب من 100 ألف متفرج سنة 2015، وفيلم “في بلاد العجائب” شاهده ما يناهز 94 ألف متفرج سنة 2017 كما تحقق النجاح الجماهيري لمجموعة من الأفلام الأخرى كالحمالة الذي شاهده ما يقرب من 95 ألف متفرج سنة 2015، و”الحاجات” الذي شاهده ما يقرب من 68 ألف متفرج سنة 2017، و”كورصة” الذي شاهده ما يقرب من 77 ألف متفرج سنة 2018، وهي أفلام تنتمي في معظمها إلى جنس الكوميديا.
أما أفلام الدراما بأنواعها المختلفة فلم تحقق نجاحا يذكر على مستوى شباك التذاكر، ففيلم عايدة شاهده 12000 متفرج سنة 2015، وفيلم أفراح صغيرة شاهده 13000 متفرج سنة 2016، وفيلم غرام وانتقام شاهده 6000 متفرج خلال السنة نفسها، وفيلم فداء شاهده 4000 متفرج سنة 2016، وفيلم “نوح لا يعرف العوم” شاهده 8000 متفرج سنة 2018، والأمر ذاته يصدق على أفلام من قبيل الشعيبية و”خنيفيسة الرماد والقمر الأحمر” و”عيد الميلاد” و”جزيرة المعدنوس”. كما لم تشفع بعض الجرعات الزائدة من المشاهد الجنسية لبعض الأفلام في أن تكسب ود جمهور القاعات السينمائية، ففيلم حجاب الحب لم يتجاوز عدد مشاهديه ألفي مشاهد سنة 2018، وفيلم جناح الهوى لم يتعد عتبة الثلاثة آلاف مشاهد سنة 2016. وقل الأمر نفسه بالنسبة لفيلم حياة الآخرين الذي لم يشاهده سوى ثلاثمائة متفرج سنة 2017.
أفلام النزعة التجريبية
إن معظم هذه الأفلام قد فشل في تبرير غاياته الدرامية فجعل من الكفر بالتواصل مبدأ أثيرا لديه، لذلك ظل معزولا عن الناس، تفصل بينه وبين الجمهور مسافة كبيرة، ولم يحقق ولو اختراقا صغيرا في عالم السينما الرائجة، بل وحتى حين نال حظه من التوزيع داخل القاعات السينمائية سقط في شباك التذاكر، اللهم إلا بعض الاستثناءات القليلة كفيلم “قفطان الحب” لمومن السميحي الذي شهد بعضا من إقبال جمهور السينما عليه حينما تم توزيعه نهاية الثمانينيات من القرن الماضي في بعض القاعات السينمائية.
وهناك من هذه الأفلام من صادفه الحظ – ليس بالمفهوم السلبي للكلمة – فعرض في بعض الملتقيات السينمائية سواء داخل المغرب أو بخارجه، كـ”جوع كلبك” لهشام العسري و”حادة” لمحمد أبي الوقار، و”السراب” لأحمد البوعناني، و”أليام أليام” لأحمد المعنوني، و”أيام شهرزاد” الجميلة لمصطفى الدرقاوي، وهناك من مر على حين غفلة في التلفزيون المغربي كـ”القنفودي” لبيل لحلو، ناهيك عن الأفلام التي كانت توزعها الجامعة الوطنية للأندية السينمائية على روادها، إما في إطار أسابيع الفيلم المغربي، أو في إطار العروض الأسبوعية العادية.
وإذا كان بعض من هذه الأفلام قد نال إعجاب النقاد السينمائيين والنخبة المثقفة ورواد الأندية السينمائية، فإنه لم يظفر بالأمر نفسه مع جمهور المشاهدين الذين استثقلوا متابعته، نظرا لبنيته المفككة، وإفراطه في الغموض، وعرضه لعوالم غريبة، وتكسيره لقواعد الحكي المتعارف عليها، وتشييده لبلاغة سينمائية غير معتادة، فكانت النتيجة أن تعرض للقتل بسلاح الإهمال.
وهنا يطرح إشكال التلقي مرة أخرى بصدد هذه النوعية من الأفلام. ففي غياب تفكير استراتيجي يجعل من الصورة مكونا من مكونات الفعل التعليمي في جميع أطواره ومراحله، سيبقى المشاهد المغربي ضحية لنمط واحد من التلقي، رسخته الألفة في وجدانه، وكرسته العادة في مخيلته. ولعل إطلالة سريعة على شباك التذاكر الخاص بهذه الأفلام يقدم صورة واضحة عن كيفية استقبال جمهور القاعات السينمائية – على قلته – لهذه الأفلام. ففي سنة 2015 شاهد 2600 متفرج فيلم “موشومة”، 940 متفرجا فيلم “لعبة الحب”، و33 متفرجا فيلم “البحر من ورائكم”.
وفي 2016 شاهد 870 متفرجا فيلم “موشومة”، 560 متفرجا فيلم لعبة الحب، ومائة وستة وعشرون متفرجا فيلم براق، و19 متفرجا فيلم “البحر من ورائكم”. وفي سنة 2017 شاهد 140 متفرجا فيلم “براق”، و120 متفرجا فيلم “ضربة في الراس”، وفي سنة 2018 شاهد 3300 متفرج فيلم موشومة، و2400 متفرج فيلم “كلام الصحرا”، و1900 متفرج فيلم “ضربة في الراس”، و660 متفرجا فيلم “براق”. وهي أرقام ناطقة عن علاقة جمهور القاعات السينمائية بالأفلام التي تنتسب للنزعة التجريبية، مع العلم أن شباك التذاكر لا علاقة له بالمطلق بجودة الفيلم أو رداءته.
أفلام التيار الوسط
وقد استطاعت بعض من هذه الأفلام – حينما أتيحت إمكانية مشاهدتها سواء في القاعات السينمائية أو بواسطة التلفاز أو من خلال أجهزة الفيديو – أن تنال رضا النقاد والمشاهدين على حد سواء، ويعود ذلك إلى جملة عوامل من ضمنها، جرأة أصحابها في تقديم موضوعاتهم خصوصا تلك المتعلقة بالسلطة كما هو الحال في ألف شهر، أو المتعلقة بالمجتمع كما هو الحال في كازانيكرا، أو المتعلقة بالسياسة كما هو الحال في هم الكلاب. كما أن هذه الأفلام قد حازت الاستحسان بالنظر إلى طريقة تقديم موضوعاتها، من ذلك مثلا اعتماد الرمز كآلية تخترق جسد الفيلم من بدايته إلى نهايته كما في ألف شهر، واعتماد معجم ممعن في تكسير المحظور كما في كازانيكرا، وتوظيف تقنية الروبورتاج في عرض المشاهد كما في هم الكلاب.
إن مخرجي هذه الأفلام قد ولدوا من رحم التجريب، لكنهم طوعوه وقربوه وجعلوه في متناول الجمهور الذكي العام. فهم لم يتنازلوا عن جماهيرية الفيلم، كما لم يتنازلوا عن أحلامهم الجمالية. ويمكن القول اعتمادا على إحصائيات المركز السينمائي المغربي أن هذه النوعية من الأفلام تأتي مباشرة بعد الأفلام التقليدية من حيث الإقبال على مشاهدتها داخل القاعات السينمائية.
ففيلم غزية مثلا شاهده ما يقرب من خمسين ألف متفرج سنة 2018، وفيلم جوق العميين شاهده ما يناهز ثمانية وأربعين ألف متفرج سنة 2015، وفيلم بورن أوت شاهده ما يقرب من خمسة وأربعين ألف متفرج سنة 2017، و”وليلي” شاهده ما يناهز العشرين ألف متفرج سنة 2018. أما بقية الأفلام فإنها لم تتجاوز عتبة العشرين ألف مشاهد كنصف السماء الذي شاهده عشرة آلاف وأربعمائة متفرج سنة 2015، وملاك الذي شاهده ألف وستمائة متفرج سنة 2015، ومسافة ميل بحذائي الذي شاهده ثمانية عشر ألف متفرج سنة 2016، وعاشقة من الريف الذي شاهده سبعة آلاف وثمانمائة متفرج سنة 2016، وحياة الذي شاهده أربعة عشر ألف وأربعمائة متفرج سنة 2017، وملائكة الشيطان الذي شاهده سبعمائة وثمانون متفرجا سنة 2017، وصمت الفراشات الذي شاهده اثنا عشر ألف وثلاثمائة متفرج سنة 2018.
كما يمكن أن نشير إلى أن بعض الأفلام التوفيقية التي خرجت إلى الوجود خلال بداية العقد الأول من هذا القرن قد حققت نسبة مشاهدة محترمة، من ذلك مثلا فيلم وبعد لمحمد إسماعيل الذي تجاوز المائة وخمسين ألف متفرج خلال الأسابيع الأولى من عرضه. وكما لا حظنا ذلك في الأفلام التقليدية فإن الجرعات الزائدة من المشاهد الجنسية شبه الصريحة لم تشفع لبعض أفلام النزعة التوفيقية بأن تثير اهتمام المشاهد المغربي ففيلم ماروك وفيلم سميرة في الضيعة لم يستطيعا تجاوز ثلاثة آلاف تذكرة مجتمعين سنة 2016.
إن الأرقام السابقة لتؤكد بالملموس ما أشرنا إليه في البداية من أن العلاقة بين الجمهور المغربي وبين سينماه الوطنية مطبوعة بالتنافر والتباعد. فالسينما الوطنية تكاد تكون مقطوعة الصلة بجمهورها المحلي، فلا علاقة متينة ومنتظمة تجمع بينهما، اللهم بعض الاستثناءات النادرة التي تندرج في باب الشاذ الذي لا يعتد به. ولاشك أن وراء هذه الحالة عوامل متعددة، يرتبط البعض منها بالخلل العميق الذي تعاني منه بنيتا التوزيع والاستغلال، ويرتبط البعض الآخر بتدني إبداعية المنتج السينمائي وعجزه الذاتي عن إقامة علاقة طبيعية مع المتلقي، ويرتبط البعض الثالث بتحجر الذائقة الفينة للجمهور والتي لا تقبل إلا نمطا جماليا وحيدا هو النمط التقليدي.
ونعتقد أنه من بين الحلول المساعدة على تجسير الهوة بين الجمهور المغربي وسينماه الوطنية، أن تستمر الدولة في نهج سياسة دعم القاعات السينمائية ولكن بوثيرة أسرع، وأن يبذل المبدع بالموازاة مع ذلك قصارى جهده لتقديم بضاعة مغرية تثير فضول المستقبل وتشبع نهمه، وتستجيب لتطلعاته. وأن يستثمر المستغل كافة مؤهلاته التدبيرية ليجعل من قاعة العرض فضاء جذابا يغري المستقبل، وينشط قابليته للتوجه الطوعي نحو قاعة العرض. أما المستقبل الذي هو حلقة الوصل في هذه المنظومة المتكاملة فينبغي أن يجعل من الذهاب إلى قاعة السينما طقسا منتظما ينبغي احترامه، لتغدو السينما بذلك جزءا لا يتجزأ من البرنامج العام لحياته اليومية كما السفر والقراءة والرياضة.