“جزيرة الذرة” تحفة من تحف السينما الخالصة
أمير العمري
حسنا فعل مهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي عندما نجح في الحصول على حق عرض الفيلم الفائز بالجائزة الكبرى الذهبية في مهرجان كارلو فيفاري الأخير، وهو فيلم “جزيرة الذرة” The Corn Island. هذا فيلم من أفلام السينما الخالصة التي تعتمد أساسا، على تكثيف حالة، وعلى الوصف السينمائي بالصورة وبحركة الكاميرا، واستخلاص كل ما يمكن من إمكانيات المكان، بذلك الانتقال المحسوب بدقة بين اللقطات، بالمزج بين الصورة والصوت والموسيقى في تناغم بديع، بالصمت، وبالتعبير بالنظرات، بجعل الطبيعة جزءا اساسيا من الفيلم نفسه، من مادته ومن جمالياته، مع استخدام أقل ما يمكن من جمل الحوار.
“جزيرة الذرة” من إخراج المخرج الجورجي جورج أوفاشفيلي Ovashvili في ثاني أفلامه الروائية الطويلة. وفي الفيلم شخصيتان رئيسيتان فقط هما الجد العجوز الذي يذكرنا صمته وعلاقته الوثيقة مع الطبيعة ببطل “درسو أوزالا”، فيلم كيروساوا الشهير، والشخصة الثانية هي حفيدته الفتاة الصغيرة التي تصحبه وتطيعه في كل هدوء ودعة وبساطة. الإثنان إنتقلا الى تلك البقعة الصغيرة من الأرض، تقع في وسط نهر أنجوري Inguriالذي يفصل بين جورجيا وأبخازيا في منطقة شائكة تشهد الكثير من القلاقل والاضطرابات والدوريات العسكرية الجورجية والروسية.
الجد وهو أبخازي- لا نعرف له إسما وكذلك حفيدته- يحط رحاله بقارب صغير على هذه البقعة الصغيرة- الجزيرة، يحفر بيده في أرضها، يتشمم التربة، يجدها مناسبة لبدء حياة جديدة تماما كما كان الإنسان يفعل منذ بداية التاريخ.. يريد أن يبذر فيها حبوب القمح التي أتى بها من مكان قريب، تساعده بإخلاص حفيدته، يحفر لها طريقا لسقيها بالماء، يتعرض من حين لآخر، لدوريات عسكرية تتشكك في وجوده بتلك المنطقة. وذات يوم يعثر على شاب جريح من الواضح انه ينتمي الى الانفصاليين الجورجيين، وبفطرة الانسان الطيبة النقية، يسحب مع حفيدته الشابة التي لم تبلغ بعد، جسد الشاب الى الكوخ الحشبي الذي أقامه بنفسه في تلك الجزيرة الصغيرة، يعالجه ويقدم له الحساء الساخن، الى أن يسترد قوته ويقيم الشاب معهما، يختفي عن الأنظار وقت الضرورة حتى لا يقع في أيدي العسكريين الذين يبحثون عنه. والعجوز ينكر وجوده تماما، لكنه في الوقت نفسه يخشى على حفيدته منه، فيرسلها بعيدا.. لا نعرف إلى أين بالضبط، ولا نعرف ما الذي جرى لوالديها اللذين يتطرق الحديث مرة واحدة في الفيلم بين الجد والفتاة عنهما.
الوقت ربما يكون في العطلة الصيفية. وقد أنهت الفتاة كما تقول الدراسة بالمدرسة. وهي تتعرض من حين لآخر، لمعاكسات من جانب الجنود الجورجيين الذين يقيمون على الجانب الآخر من النهر. وهي تسأل جدها: إلى من تنتمي هذه الأرض التي هناك فيجيبها: إلى جورجيا. فتعود لتسأله مشيرة إلى الجزيرة التي استقرا فوقها: وهذه الأرض إلى من تنتمي؟ فيجيبها: تنتمي إلى خالقها!
يختفي الشاب ذات يوم بعد أن شعر بأنه عبء على الرجل، الذي لن يمكنه اخفاء أمره أكثر من ذلك، وخصوصا أن الضابط الجورجي الشرس الذي يتردد مع جنوده من وقت لآخر على الجزيرة، يشك في وجود هذا الشاب المسلح المنشق على تلك الأرض المعزولة بل ويشعر أيضا بنوع من الحقد على نجاح الرجل (الذي يناديه هو الآخر بالجد) في خلق حياة جديدة بسيطة، نقية، في تلك البقعة الساحرة وسط النهر وفي أحضان الطبيعة، لكنه يحذره ذات مرة بقوله: لقد اخترت منطقة خطرة!
ثورة الطبيعة
تعود الفتاة، يمارس الإثنان صيد الأسماك التي يشوون بعضها، ويحفظون الباقي بالطريقة التقليدية، أي بتعليقها تجف في الشمس.. الطبيعة القاسية تكاد تفتك بما زرعه الرجل من قمح، يقوم بجمع كميات كبيرة من الأعشاب والحشائش واستخدامها مع أخشاب الأشجار في عمل نوع من السياج حول تلك الجنة المعزولة، لكن الطبيعة لا تعرف سدودا ولا حدودا، ففي غضبة أخرى من غضبتها العارمة، تثور عاصفة، ويفيض النهر، وتقضي السيول على المحصول وتهدد بطوفان يغرق الجزيرة الصغيرة. يبعد الجد الفتاة في القارب بما تبقى من محصول الذرة.. تطغى المياه على الجزيرة.. يتهاوى الكوخ فوق رأسه فيقضي عليه، تسحب مياه النهر أخشاب الكوخ، فلا تتبقى سوى قطعة صغيرة من التربة العائمة وسط النهر. يهبط رجل في قارب صغير.. يتحسس التربة، يحفر بيديه فيها، يستخرج الدمية التي كانت الفتاة قد أحضرتها معها وعلقتها داخل الكوخ وكبرت بفعل التجربة على أن توليها اهتماما. ويقرر الرجل البقاء لكي يبدأ دورة أخرى من دورات تلك الحياة التي يصارع فيها الإنسان الطبيعة ويصر على تطويعها، لإنتاج خبزه وطعامه وإقامة مأواه والصمود في وجه أعاصير الحياة!
لاشك أنه رغم الحالة المجردة التي يصورها الفيلم (رجل وفتاة على جزيرة وسط نهر) إلا أن الفيلم محمل بالكثير من الاسقاطات السياسية، إشارات على كيف تعكر السياسة والصراعات المسلحة صفو الحياة البسيطة، وكيف يجد الإنسان الذي يرغب في أن ينأى بنفسه تماما عن العلاقة مع المدينة وما فيها من متاعب واضطرابات، نفسه مجددا وسط مخاطر تأتى بهشها تسعى إلى شاطئه، تفسد عليه عزلته الاختياريه، وتقتحم “وطنه” الخاص الذي حاول تأسيسه بأقل الأشياء المتاحة: أخشاب الغابة، مسحوق لعله الدقيق، يستخدمه في تغطية الأسماك قبل وضعها في النار، ملابس بسيطة، قفص مخروطي الشكل يستخدمه في صيد السمك من النهر، وبعد أن ينمو القمح ويثمر، ويستثمر الرجل المحصول فيرسله بالقارب مع حفيدته الصبية ذات الوجه البريء، لكي تبادله في بلدة على الشاطئ القريب، ببعض السلع الضرورية.
يعتمد الفيلم على الأداء المؤثر العبقري من جانب الممثل التركي إلياس سالمان (وهو أيضا كاتب سيناريو ومؤلف موسيقي ومخرج) يعبر بإشارات بسيطة من يده، أو بنظرات عينيه التي يتبادل من خلالها الحديث مع حفيدته الصغيرة التي نرى كيف تصل مرحلة البلوغ مع نزول أول قطرة من دماء الدورة الشهرية. وفي مشهد آخر بديع، تجاهد الفتاة وهي تجمع ثمار القمح فتجرح يدها فتنزف، تلعق الجرح، تتطلع إلى الفضاء أمامها وإلى صفحة النهر، تتأمل السكون.. تنخرط في البكاء. الجد يراقبها عن مقربة من الجانب الآخر دون أن تراه. يبدو على ملامح وجهه أنه يفهم سر حزنها. هل هي تلك الوحدة التي تعيشها؟ هل تفتقد ذلك الآخر.. أي الشاب الذي كانت قد بدأت في العبث معه في براءة وتلقائية رغم عدم فهمها لغته الجورجية؟
الصورة والحركة والمكان
يراعي المخرج بدقة في كل لقطة كل عناصر الميزانسين، ويستخدم حركة الكاميرا برصانة ويموج بين اللقطات البعيدة والقريبة، في نعومة وسلاسة، في إيقاع متهادي، ينسجم مع موسيقى الناي التي نسمعها على شريط الصوت من وقت لآخر قبل أن تمتزج قرب النهاية بالكمان والتشيللو، في مزج رائع بين الكلاسيكية والشعبية بفضل براعة الموسيقار الجورجي الشهير إسبو باردانشفيلي. الكاميرا تتخذ زوايا منخفضة، تبدو كما لو كانت كامنة ترقب، أو تتخذ وجهة نظر الجد أو الفتاة. يستغل مديرالتصوير المجري الكبير إلمير راجالاي (96 فيلما) المكان أبلغ استخدام، ويستخرج منه لقطات ناعمة، ضبابية أحيانا، لاضفاء الشاعرية والبساطة على الجو العام للفيلم، مع السيطرة المدهشة على الصورة بتفاصيلها والنجاح في تحقيق أقصى درجات الواقعية خصوصا في مشاهد الأعاصير والأمطار الغزيرة. ولاشك أن الأمر كان بحاجة الى نوع من التحايل لتحقيق النجاح في تصوير تلك المشاهد المعقدة التي تذكرنا بالأفلام التسجيلية الشهيرة (رجل من آران مثلا) ولكن باستخدام جيد للألوان: الأزرق والذهبي والأخضر، مع الاستفادة القصوى من كل امكانيات المكان رغم محدوديته من حيث المساحة.
العلاقة بين المكان، الطبيعة وبين الممثلين جزء أساسي من مكونات الصورة والفيلم عموما، بل يمكن القول إن الطبيعة هي البطل الأول في هذا الفيلم، فهي التي تهيمن على كل لقطة من لقطاته، وتفرض نفسها كقوة طاغية، سواء في جمالها وسحرها وقدرتها على أن تدفعنا للتأمل فيما صوره الخالق، أو في قسوتها وضرواتها وعبثها بمصائر الأفراد.
المعلومات المتاحة عن الفيلم تقول إن المخرج أوفاشفيلي وفريقه قاموا بعمل جزيرة صغيرة وسط بحيرة اصطناعية وجزيرة أخرى وسط النهر الحقيقي لتصوير المناظر العامة والبعيدة.
“جزيرة الذرة”- في النهاية- تحفة حقيقية واحتفال كبير بالسينما الخالصة، التي تعبر ببلاغة عن فلسفة وجود الإنسان ورغبته الدائمة في السيطرة على الطبيعة وتطويعها.