فيلم تاركوفسكي الأول.: طفولة نظرة ونظرية في السينما

Print Friendly, PDF & Email

الطفولة موضوع يحضر كثيرا في أعمال أندري تاركوفسكي وتتجسد فيه أبعاد رمزية عدة تتغير حسب السياق العام والأبجدية التواصلية الخاصة بكل فيلم.

عنوان هذا المقال يحصر موضوع الطفولة في بداية تاركوفسكي السينمائية، حيث شكلت التيمة الرئيسية لفيلمي “الكمان والمدحلة البخارية”، فيلم تخرجه الذي سنركز عليه في هذه المقاربة، وفيلم “طفولة إيفان”، وكلا الفيلمين تم إنتاجهما بتزكية لجنة فيلم الطفل بموسفيلم.

مثل كل أعمال شاعر السينما الأول، تحمل طفولات تاركوفسكي هي الأخرى عدة مستويات تأويلية، وتتحمّل كذلك تعسف الاستقراء التشفيري الذي قد يتجاوز واقعية الظرفية الإنتاجية والموضوع المؤطر لكلا الفيلمين.

الطفولة في بداية تاركوفسكي لا تقترن فقط بهوية البطل في الفيلم والشريحة العمرية التي ينتمي إليها بل قد تتجاوز هذا المستوى السطحي الظاهر إلى مستوى آخر رمزي يؤطره سياق إنتاج الفيلمين لتحمل معاني عنفوان البداية، أوالرغبة في التجدّد التي عرمت الجو العام الذي عرفته الثقافة السوفيتية في فترة ما بعد الحرب، وكان بمثابة بداية جديدة للسينما الروسية، بداية ترعرعت فيها نظرة ونظرية تجديدية للعمل السينمائي. إنها الظرفية التي تزامنت مع فترة تكوين وتخرج تاركوفسكي. ظرفية إنتاج فيلم “الكمان والمدحلة البخارية” (1960)  Katok I Skripka.

الطفولة كذلك هي طفولة تاركوفسكي السينمائية بما هي نمو على مستوى آخر يرتبط هذه المرة بالتأليف السينمائي الخاص بالمخرج، أي كتابته بالمعنى البارطي للكلمةEcriture .  ففي فيلم التخرج لشاعر السينما “الكمان والمدحلة البخارية” نجد طفولة كل العوالم التشكيلية بعناصرها الثقافية وطرق حياكاتها السينماتوغرافية، كما نجد فيه جنينية هذه الرؤية الاستشرافية التي ستسم سينماه فيما بعد.

الفيلم كذلك تعبير عن نضج سينمائي مبكر بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فيه نعاين بداية كلام تاركوفسكي عبر أبجدية الصوت والصورة، بلكنته ونبرته الخاصة في لغة الصورة المتحركة.

اقتران هذا الفيلم، كفيلم تخرج بتاركوفسكي، يحتم فعلا تجاوز موضوع الطفولة فيما يتعلق بشخصية البطل، الطفل ساشا، إلى أبعاد هذه المرحلة العمرية في رؤية المؤلف السينمائي والرمزية الوظيفية التي يتقمصها الطفل في أفلامه بداية بهذه النظرة الجديدة والمنعشة للعالم والاحياء والأشياء التي تسكنه، ونهاية بالرهان على فنية سينمائية تقترض من الطفولة أهم ما يميزها كطريقة إدراكية للوجود، أي حلم اليقضة والخيال وهذا الشرود الذي تضعنا فيه أفلام تاركوفسكي على المستوى البصري. فيلم “الكمان والمدحلة البخارية”، والذي أصبح رهن المشاهدة في فترة لا تتجاوز العامين، هو فعليا عتبة مشوار تاركوفسكي السينمائي وخميرة شاعريته البصرية معا.

تاركوفسكي بين الذاتي والموضوعي

عديدة هي العوامل التي تضافرت في صقل تجربة تاركوفسكي السينمائية. من هذه العوامل تكوينه الأكاديمي في الدراسات الشرقية بتخصص ولو لفترة مقتضبة في التصوف الإسلامي، إطلاعه الواسع على أدبه الإقليمي بإعجاب قد يصل لحد العبادة للكاتب دوستيوفسكي، وتطويره مبكرا لحساسية نحو الشعر والشاعرية ساهم فيها مناخه الأسري عبر شخصية الأب الشاعر أرسيني تاركوفسكي، الذي كان يحضر في حياة الطفل أندري كتابة أكثر منها فعليا وواقعيا.

أمام هذه الخاصيات الذاتية والتكوينية، تنضاف كذلك كخاصية موضوعية ظرفية الخمسينات وأوائل الستينات التي عرفت الإنفتاح الثقافي الذي كان نتيجة السياسة الإصلاحية التي بدأها خروتشوف ضد ديكتاتورية ستالين، وجسدت رغبة الحليف الجديد الذي هزم النازية في التنقح عبر الإحتكاك بتجربة الآخر الذي ليس له آنذاك من مرادف في القاموس المحلي غير الغرب الرأسمالي.  أندري تاركوفسكي كان من جيل الطلبة في التكوين السينمائي الذين تمرّسوا في فنون التركيب البنائي والمونتاج الجدلي، في الوقت الذي كان المجال مفتوحا لمشاهدة “لبالون الأحمر” لألبير لاموريس وأفلام دي سيكا وأنطونيوني وروبير بريسون.

في هذا الفضاء الرحب بين المشاهدة والتكوين والتشجيع المستمر لبعض الرواد خصوصا سيرغي لافروف الذي استغل ظرفية الإنفتاح وانخرط  كمدرس للإخراج وكسينمائي في حملة فك الحصار التوظيفي والتقنيني الذي فرضته مؤسسات موسفيلم أيام ستالين على السينما السوفيتية مجهضا ما كانت تحبل وتعد به جماليا ونظرة وممارسة. في هذه الأجواء الإنفتاحية وجد طلبة المعاهد السينمائية من شاكلة تاركوفسكي مجالا مثاليا للتعبير عن الطموح في تأسيس كتابة سينمائية جديدة تنسجم ورؤية نابعة عن الفرد تعبّر عن ذاتيته وتطلعاته سرعان ما ترجمت إلى أساليب إجرائية أكثر ما تتسم به هو طريقتها في دغدغة الطلائعية ومراوغة قوانين الأنموذج الصارمة لكوميسارات موسكو، والتي تتوانى مدرسة موسكو الوطنية للفيلم VGIKفي تلقينها والحرص على الالتزام بها تلميحا تارة وتصريحا أخرى.

مناخ التنويع والبحث عن نفس جديد، الذي سمحت به فترة الانفتاح، أظهر سينمات سوفييتية متنوعة ومتعددة المشارب والتجارب وإن تقاطعت في وجهين: من جهة، هناك درجة الترابط والانفصال مع الإرث السينمائي الأول، ومن جهة ثانية،  مصير المنفى والإقصاء والتهميش إن لم يكن العنف بكل أشكاله الذي لحق غالبية المخرجين من هذا الجيل، وسيعانيه أندري تاركوفسكي نفسه.

استطاع هذا الجيل الذي أصبح يعرف بجيل الموجة الجديدة في السينما السوفيتية، وإن بدرجات متفاوتة، أن يطلع بتصور جديد للابداع السينمائي يقوم على فكرة الذاتية في الرؤية والفردانية في الإجراء، وإن لم يقطع كليا، عكس ما يتصوره البعض، مع موروث سينما البناء الشكلاني التي أسسها جيل ليف كولوتشوف، بوريس بارنيت، ودزيغا فيرتوف، وبكل الإضافات والتعديلات على مستوى الرؤية والتطبيق التي وضعتها أيادي معلمين مثل سيرغي إيزنشتاين ودوفجينكو.  كان همُّ جيل الموجة الجديدة الجوهري هو إعادة النظر في علاقة الشكل بالمضمون، والتوصل إلى صيغة إجراء سينمائي يراعي للشكل مكانته ويحدُّ من سيطرة الخطاب المضاميني. على حد تعبير تاركوفسكي، ينطلق هذا الجيل من قناعة رئيسية ترى أن طاقة  السينمائي الفنية والتعبيرية  ليس لها من مجال للتحقق إلا في البناء الشكلي للفيلم بالدرجة الأولى. كان الخوض في إشكالية العلاقة بين الشكل والمضمون  بمثابة المشي في حقل ملغوم وقفز مستمر بين الخطوط الحمراء. طرح علاقة الشكل بالمضمون كنقاش ضروري وحاضر في كل تجربة فنية في كل مكان وزمان “لم يأخذ حقه الكافي في الطرح والمعالجة داخل السينما الروسية” هكذا يصرح تاركوفسكي في حواره مع غيديون باكمان (1962).

تقاطعت العوامل الذاتية والموضوعية في تكوين تاركوفسكي ليتشكل لديه تصور خاص للإبداع السينمائي جعل قطيعته مع السينما السوفيتية للجيل السابق تأخذ طابعا خاصا بها غير التي أخذته قطائع مخرجين من جيله كسيرغي بارادجانوف أو أوطار إيوسيلياني أو لاريسا شيبيتكو. قطيعة تاركوفسكي لم تكن  بالدرجة الأولى مع طريقة الإجراء السينمائي في التشكيل ومعالجة الفكرة الفيلمية التي أسسها دوفجينكو أو دزيغا فيرتوف أكثر مما كانت مع رؤية إبداعية، كرستها المؤسسة السياسية بعمالها السينمائيين، تضحي بالتعبيرية الفردية والفنية  في سبيل تصور جماعي لا يحضر فيه شخص المخرج إلا كمجرد عامل بالمعنى الحرفي والمجازي.

تيمة الطفولة

 قاسم آخر اشترك فيه جيل هذه الموجة هو توظيفه بشكل أو بآخر لتيمة الطفولة من داخل السجال الإشكالي للشكل والمضمون. عوالم الطفولة والشباب التي بزغ من خلالها نجم تاركوفسكي في السينما، لكي لا ينطفئ أبدا، كما شكّلت، بداية، هذه الأرضية الخصبة لتيمات سينمائية وتنويعات سردية تُسوَّغ من خلالها هذه  الحاجة الملحة لرؤية جديدة  في إعادة بناء مجتمع توّه طلع من تجربة حرب كبّدته خسائر فادحة نالت من بنياته التحتية و”الفوقية” معا، كانت كذلك بمثابة الستار الوقائي المناسب الذي يحتمي به المخرج في مجازفاته التعبيرية على المستوى الشكلي والتركيبي.

إن “الكمان والمدحلة البخارية” كما هو نموذج فيلمي لهذه المراوغة لعديد من الحواجز الموضوعية ذات الطابع السياسي هو كذلك نموذج لتبلور أسلوبية تأليفية سينمائية بناء على التكوين والتمرس والمشاهدة. في فيلم تخرجه أبان تاركوفسكي عن استفادته من فكرة روبير بريسون عن السينماتوغراف الذي تتكلم به السينما لغتها الخاصة بها فقط دون غيرها، ودرس أنطونيوني في التعبير عن الموضوعي انطلاقا من شاعرية الذاتي. فكرة السينما الذاتية التي أشار إليها تاركوفسكي لاحقا في أكثر من مناسبة كانت نتيجة رؤية سينمائية بالدرجة الأولى لا تقتنع بالنموذج الواحد ولا تقتصر في ترجمتها الإجرائية على مجرد المحاكاة فقط.  

من هنا تبرز قيمة فيلم التخرج “الكمان والمدحلة البخارية” الإبستيمولوجية والسينماطولوجية بكونه يعبر بوضوح عن طموح ورؤية فنية في بداية تكوينها وتبلورها الإجرائي، وفي كونه هذا الحامل النموذجي الذي نعاين فيه معاني هذه التنويعات الاصطلاحية التي شكلت الميتاخطاب لسينما تاركوفسكي كالشعرية والتجريدية والتركيبية والتشكيلية. وبغض النظر عما إذا كانت هذه الإصطلاحات تترادف في وصف إجراء تاركوفسكي السينمائي أو تتسلسل كأوصاف لمراحل تطبيقية فيلمية، متوالية أحيانا ومتقاطعة أخرى، فهي تجد أرضيتها في فيلم التخرج هذا الذي سيدخل تاريخ السينما كعتبة متفرّدة في تأسيس كتابة سينمائية تستنفد كل الطاقة التعبيرية للسينما وتتبلور من خلالها الرؤية الفلسفية والجمالية التي ميزت المخرج كمؤلف سينمائي.

في هذا الفيلم ظهرت التوقيعات التأليفية الخاصة التي بصمت مشوار تاركوفسكي السينمائي، إخراجا وتنظيرا، وفي كل الحيثيات التي تحيط بهما معا، أي ما أصبح لاحقا في ثقافة السينما والصورة بمثابة هذا السجل الغني في الجمالية والشاعرية البصرية الذي جعل السينما حاملا ووسيطا بشروط خاصة لتصور ورؤية فلسفية للعالم والإنسان. سجل سينمائي لن نتيه في العثور على أبجديته في فيلم التخرج. 

 بين الطموح والفكرة الثابتة

 مشاهدة الكمان والمدحلة البخارية، كما أشرنا أعلاه، تضعنا مباشرة في خضم تجربة لا مثيل لها لسينمائي مبتدئ، ملامحه التأليفية أخذت في التشكل مبكرا انطلاقا من وعيه الخاص بالسينما كمشروع ينبني على رؤية مرتبطة أكثر بذاتية المخرج وطريقة تكييفه للصورة الواقعية بما يخدم هذه الرؤية. أهمية هذا الفيلم في فيلموغرافيا تاركوفسكي التي تتألف من سبعة أفلام روائية والفيلم التسجيلي “رحلة في الزمن” الذي أخرجه شراكة مع المخرج الإيطالي أنطونيو طونينو غيرا، لا تكمن فقط في كونه موقّعا من مؤلف سينمائي له بصمة خاصة في السينما العالمية، وبالتالي أي عمل ينتج عنه ولو فيلم التخرج يصير محط اهتمام بالغ ودراسة دقيقة، وإنما في كونه، على عكس العديد من أعمال التخرج من عينته، يضعنا في مرحلة تكوين سينما تاركوفسكي من ناحية الإختيارات المضامنية والأسلوبية المتميزة في بنائها التوليفي والأليغوري.

ليس من الغريب أن تظهر مع هذا الفيلم ميزات ستظل لصيقة بتاركوفسكي على طول مشواره الفني كصفة الرعانة والطموح والعناد. كون “الكمان والمدحلة البخارية” فيلم تخرج لم يمنع الطالب من الإلحاح على تجنيد إسم كبير في السينما السوفيتية كمدير التصوير سيرغي أروسيفسكي الذي صور رائعة  ميخائيل كالاتوزوف  “طيران اللقلاق” (أو البجعة االطائرة) وإن لم تتحقق له هذه الرغبة لظروف لا علاقة لها بطبيعة الفيلم ولا المكانة الرمزية للمخرج. لكن عناد الطالب المخرج وإصراره مكّنه من توظيف أسماء لامعة في ميدان التمثيل قلما تشتغل في أعمال البدايات ناهيك عن أفلام التخرج مثل فلادمير زامانسكي الذي لعب دور سيرغي في الفيلم. طموح تاركوفسكي عبّر عن نفسه جليا كذلك في مغامرته الشكلانية حين لجأ إلى استعمال التلوين التعبيري والألوان الطبيعية، عوض الأبيض والأسود كما هو معتاد في أفلام التخرج، وكذلك في مدة الفيلم الزمنية التي غطت خمسين دقيقة عوض العشرون دقيقة المطلوبة كحد أقصى. 

تدور قصة فيلم “الكمان والمدحلة البخارية” حول علاقة صداقة من نوع خاص بين الطفل ساشا والعامل سيرغي سائق المدحلة البخارية الذي كان يعبد الطريق أمام البناية التي يتواجد فيها منزل الطفل البطل. نتعرف على  ساشا كإبن وحيد يعيش مع أمه في غياب الأب الذي لم يفصل الفيلم في أسبابه كثيرا. وضعية ساشا جعلته الضحية المناسبة لتنمر أطفال الجيران الذين لا يكفون عن التحرش به ومضايقته وهو في طريقه إلى حصة درس الكمان. تصبح كل لحظة مغادرة البيت بالنسبة للطفل مغامرة مجهولة العواقب أمام عصابة من الأطفال تتربص به في كل مكان من أركان البناية. طريق ساشا إلى درس الموسيقى عبارة عن نقط عبور بين مصدر للحماية وتعرض مباشر للمضايقات والتعنيف الذي إن لم ينل منه جسديا ينال من آلته الموسيقية.

أزمة ساشا تكمن كذلك في كونه ضحية مزدوجة، أولا أمام وضع روتيني طبّع سلوك التنمر والتحرش في سلوكيات الأطفال من جهة، وفي استبطان ساشا نفسه لهذا السلوك عبر عدم مواجهته وتطوير طرق حماية سلبية تجاهه، وثانيا في غياب الحماية الطبيعية في الأم التي لن تظهر في الفيلم إلا كممارسة لعنف من نوع آخر.

في وضع كهذا يجد ساشا في سيرغي مصدرا للحماية الرمزية التي لا تصد عنه التحرش بل تزوده بأدوات مواجهته. يتدخل سيرغي انطلاقا من دافع الواجب الذي تكرس في سلوكه على شاكلة جيل المجندين الذين عاشوا حصار ستالينغراد كما تحفظهم الذاكرة الجماعية. رمزيا وفعليا يعبد سيرغي لساشا الطريق أمام عتبة البيت ليمنحه هذا الأمان وهذه الحرية الضرورية في الحركة.

لم يقدم تاركوفسكي سيرغي كهذا المجند المنمط الذي سيفتح مجلدات الملاحم في الحصار وتحدي النازية إنطلاقا من نفي الذات أمام الواجب تجاه الوطن والجماعة. على عكس ما يدخل في أفق انتظار المشاهد في سياق ما بعد الحرب، لم نشاهد “فلاش باك” للخنادق والنيران وسط الوحل وإنما شاهدنا ساشا يتجول في شوارع موسكو الجميلة متوقفا أمام الواجهات حيث يتمتع بتسليته المفضلة التي تكمن في لعبة الإنعكاسات للمواضيع بين مرايا الواجهات والبرك المائية التي خلفتها الأمطار في الشارع.

رسالة تاركوفسكي واضحة في الدقائق العشر الاولى للفيلم: تضحيات الماضي لن يكون لها من معنى إن لم تضع نهاية لوضع التحرش والمراقبة المستمرة التي تحد من حركة الفن والإبداع وإن لم تعبد الطريق نحو مستقبل أفضل لجيل اصبح يستبطن طرق القمع والرقابة ويطبعها في سلوكه.

تركيز المخرج على فضاء تأثته الجمالية كفضاء موسكو أثناء تجول ساشا يسمو بهذا العبور من البيت نحو الشارع من الرمزية الواقعية إلى رمزية المتعالية لطموح فني لازال يؤمن بحماية المؤسسة في وجهها الجديد الذي يمثله سيرغي. وكأن بالسينمائي اليافع الذي اختار إسم بطله على إسم مخرجه وأستاذه سيرغي لافروف يمرر بيانه الفني الخاص لكل جهة لها يد في القرار حول حرية الإبداع. نعم بإمكان المؤسسة أن تكون راعيا للفن والحرية التعبيرية إن صدّت التحرش الذي يجد مصدره في سلبية الفكر الجماعي. في هذا السياق كذلك يلجأ تاركوفسكي إلى أحد استعاراته الفيلمية الخاصة وهي توظيف الفن للتعبير عن ذاته وعن فن آخر. آلة الكمان تتحول هنا إلى صورة مجازية للسينما نفسها، آلة التعبير الفني بالنسبة للمخرج الشاب تاركوفسكي.

ذات الفنان

منذ بدايته العبقرية هذه يراهن تاركوفسكي أمام كل العقبات على فن منطلقه ذات الفنان، ويخاطب الإنسان الذي ألغيت فرديته في منظومة فكرية تنساق مع ما هو جماهيري بالدرجة الأولى. يبدي ساشا حساسية فنية من نوع خاص، منبعها ليس الفكرة الجماهيرية وإنما إنسانيته الخاصة. من خلال تبادله النظرات والابتسامات مع طفلة تجلس بجانبه وهو في انتظار حصة الدرس الموسيقي يعلن تعاطفه مع الفنان من منطلق فردي ذاتي، كما يعلن عن موقفه من إملاءات وتقييدات فوقية تأخذ وجهها الأليغوري في معلمة الموسيقى التي تحول درس الكمان إلى تمرينات رياضية في العزف لا غير. رسالة تاركوفسكي بشأن هذا الموقف واضحة ومباشرة في المرمى وفي شخص المخاطب. فقط حرية الفنان تضمن بقاء الإبداع. ساشا يجد فرصة العزف بكل حرية وأريحية أمام  صديقه سيرغي أكثر منه أمام معلمة الكمان.

مع تطور الأحداث في الفيلم يصير سيرغي هذه الشخصية الديسيكية (من المخرج الإيطالي دي سيكا) الذي يقحم ساشا في عالم موسكو الخارجي الذي يعيش مرحلة انتقالية، حيث تتهدم بناية قديمة وتعبد طريق جديدة. هذا العالم الخارجي المرتبط بالشخصية الذكورية الوحيدة في حياة ساشا، يشكل مجالا للحرية والتعبير الذاتي، وفرصة تعلّمية يكتسب فيها الطفل الفنان مهارات الكبار الضرورية للعيش ويحتك فيها مع الواقع مباشرة. إيجابية هذا الفضاء تتلخص في كونه خارجيا بالدرجة الأولى، عكس الفضاء الداخلي للبيت وحجرة درس الموسيقى المتميز بالصرامة والقسوة، وبالشخصيات الأنثوية، حيث ليس للطفل إلا مواجهة مباشرة مع عزلته التي تتكثف رمزيتها في المرايا والانعكاسات. وكحيز إيجابي في الفيلم، طبعا في موسكو ساشا وسيرغي ستمطر السماء بدون انقطاع  وتسيل المياه في الشوارع. هذا التمفصل الأليغوري بين الفضاء الداخلي والخارجي في الحيز الفيلمي سيحتفظ تاركوفسكي بأبجديته في الأعمال السبعة اللاحقة. كما سيحتفظ بهذه النظرة السلبية للعنصر النسوي التي طالما عرضته لانتقادات عدة، خصوصا في القراءات النسوية لأفلامه. 

في العلاقة بين سيرغي وساشا إذن يتحقق نوع من المقايضة الرمزية بين الطفل والعامل، الأول كحامي ومعلم في أمور الواقع، والثاني كهذا الفنان اليافع الذي يمنح للمحارب القديم والعامل البروليتاري فرصة الاحتكاك بوجه أكثر إشراقي للحياة قد يجهله بحكم طبيعة عمله في الماضي والحاضر. عبر قرينتي المدحلة والكمان يتحدد شرط هذا التبادل في جدلية جديدة بين البنية الفوقية والتحتية بكل ما يتضمنه الإصطلاحان في المنظومة الإديولوجية التي تؤثث الخلفية الثقافية والسياسية للفيلم.  طبيعة الصراع الدرامي الذي انخرط فيه سيرغي داخل الحبكة الفيلمية يرتقي بهذا الأخير لمستوى الإحالة الأليغورية لجيل الحرب الذي عبد طريق التقدم والازدهار للأجيال القادمة التي يمثلها مجازيا ساشا على الأقل كما يتصوره المخرج الشاب تاركوفسكي. يبقى سيرغي كذلك بالنسبة لساشا، ولجيل تاركوفسكي،  هذه الإنسانية الخام والخميرة الواقعية التي تعطي لفنه معنى وهدفا نبيلا، كما قد يكون توظيفه كعامل في القصة الفيلمية، حرفيا وسيميولوجيا، بمثابة آلية حمائية ضد تهمة التبرجز بما تشكله من خطورة على مستوى حياة المخرج كفنان وكإنسان.

عملة التبادل والمقايضة الأفقية  التي تنبني عليها علاقة ساشا وسيرغي تطرح نفسها كبديل لعلاقة الإملاء العمودية، كعلاقة ساشا بالأم وبمدرسة الموسيقى. تبادل يأخذ رمزية قوية في تقاسم قطعة الخبز بين الصديقين. تشكل الصورة الإستعارية للخبز في المخيال الجماعي لجيل الحرب والجيل الذي لحقه هذا المحفز القوي الذي يعبر عن التضامن الجماهيري. كان التلاعب بدلالة ورمزية هذا المحفر شيئا مرفوض ونوعا من الطابو الذي لا يمكن التساهل بشأنه. في جعل بطله الصغير يرمي بقطعة الخبز في الرصيف يجازف تاركوفسكي ومبكرا في تقويض “صورة” مسكوكة دلاليا ورمزيا في المخيال الجماعي. هنا يواجه تاركوفسكي مثل بطله بنية عمودية من نوع خاص، وهي هذا الموروث الرمزي الذي هو الآخر يحتاج إلى تنقيح وتجديد.

صورة أخرى لهذا التبادل الجدلي بين البطلين هي تناوب كلاهما على سياقة المدحلة البخارية. تناوب سطر عليه المخرج الشاب بلمسة فنية رشيقة على مستوى التوليف بين شريط الصورة وشريط الصوت، ينهل من مرجعية بريسون ولاموريس المختلفة تماما عن مرجعية إيزنشتاين أو بودوفكين التي كانت النمط المفضل للجان التحكيم في موسفيلم.

في هذا التمفصل التوليفي نتابع اللقطة التي يظهر فيها سيرغي وهو يسوق المدحلة البخارية على نغمات عزف ساشا على الكمان. هذه الوصلة الموسيقية تنزاح بالصورة إلى مستوى مجازي تتفعل فيه علاقة ساشا وسيرغي في مجال جمالي، يقابل المجال الواقعي الذي استند على المباشرة والإبراز عينيا لقرائن هذه العلاقة في الكمان كقرينة مرتبطة بساشا والمدحلة كقرينة مرتبطة بسيرغي. عبر قلب هذا المزج الصوتي بتوليف صوت محرك المدحلة مع صورة ساشا وهو يعزف على الكمان، يرتقي هذا الكيف الجمالي في العلاقة بين الشخصيتين إلى مستوى الشرط في المجال الأيديولوجي. هذا المزج المفارقmismatching  بين الصورة والصوت معبر مبكر عن هذه الأسلوبية الإشراقية التي تحرك سينما تاركوفسكي في حيز الطوباوية الذي يشكل الخلفية الميتافيزيقية لأفلامه اللاحقة. من خلال علاقة التبادل بين سيرغي وساشا يقدم فيلم تاركوفسكي الأول بيانا ينسجم مع سياسة الإصلاح التي سار فيها خلف ستالين، لكنه يقترح، وبكل جرأة، بدائل أخرى تراهن على الجمالي منه على الديداكتيكية المباشرة للسينما الملتزمة اجتماعيا وسياسيا. شيء سيلفت الإنتباه مبكرا لتاركوفسكي بكل ما يحبل به هذا الإنتباه من إيجابيات وسلبيات.  

عالج تاركوفسكي سرديا قصة فيلم “الكمان والمدحلة” من خلال وجهة نظر الطفل ساشا بكل ما تتضمنه النظرة الطفولية من براءة وتداخل بين الواقع والخيال. تتكشّف الأحداث الفيلمية إنطلاقا من رؤية ذاتية يتشكّل فيها عالم الكبار بناء على رؤية البطل الطفل الخاصة حيث يتعوّض كل واقع مرفوض بآخر مثالي. هذه المثالية سرعان ما تأخذ شكلها الإحتمالي الذي يضع المشاهد في موقف التساؤل إن كان ما يشاهد يحدث على أرضية واقعية أم في عالم افتراضي مجاله هو ذهنية البطل ومحركه هو الحلم. في اللحظات الأخيرة من الفيلم  تنحاز الأحداث عن طبيعتها الواقعية  إلى المستوى المثالي الذي يجد حيزه، وكما سنألف لاحقا مع تاركوفسكي، في الحلم.

العالم الواقعي

مثالية عالم ساشا تنتهي بإلغاء العالم الواقعي الذي أصبح بالنسبة له سجنا تشكل فعليا بقرار أمه أن يمكث في البيت، واقع محكوم بإكراهات الحاجة والعلاقات الاجتماعية، حيث يضطر سيرغي للذهاب إلى السينما رفقة زميلته في العمل التي نجحت أخيرا في اجتذابه إليها، عوض انتظار ساشا كما تواعدا. يعوض ساشا هذا العالم القاسي بعالم حلمي فيه يطير كعصفور طليق نحو أجواء الحرية حيث يلتحق بصديقه سيرغي، الذي أخذ في هذا اللقاء المخيالي رمزية الأب الغائب، ليسوقا المدحلة معا في شارع يعمر أرضيته سيل من المياه. التحاق ساشا بسيرغي يستهل هذه اللقاءات الرمزية على مستوى حلم اليقظة بين الإبن والأب الغائب فعليا والحاضر رمزيا كما سنرى في العمل الذي لحق الكمان والمدحلة مباشرة وفي الأعمال الأخرى وإن بتنويعات مختلفة. 

في اقتراح الحلم كهذه الوسيلة المتبقية أمام  ساشا يبين تاركوفسكي مبكرا عن اختياراته الإبداعية، والتي تعبر ضرورة عن إختياراته السياسية. يمكن أن نرى في اللقطة الأخيرة للفيلم أليغورية مزدوجة  لسينما تنتصر لمخيال حلم اليقظة على حساب واقعية الطرح،  ونشاهد ولادة مؤلف سينمائي سيحلق عاليا في آفاق الذاتية. طيران ساشا وإيفان من بعده، هو استهلال لطيران القس في أندري روبليف الذي ما هو إلا هذا التحليق في سماء المتعاليات الذي ميز سينما تاركوفسكي. كما نجد في تضارب الوظيفة الرمزية للبيت، الذي تحول إلى سجن رمزي، مع السينما التي بقيت المجال الوحيد للحرية، نوعا من الإستشراف لمستقبل تاركوفسكي نفسه الذي سيعيش وطنه داخل شروط المنفى ويتكئ على السينما في ترميم ذاكرة البيت الأول والأرض المطرود منها   قلبا وقالبا. مشاهدة الكمان والمدحلة البخارية بعد متن تاركوفسكي في السينما إخراجا وكتابة، والكم الهائل من الدراسات والمؤلفات التي أنجزت حوله، يعطي معنى آخر لنعت الاستشراف والتنبؤ الذي اقترن هو الآخر بسينماه.

خلاصة: الإخراج رؤية

 عبر فيلم التخرج يوقع تاركوفسكي وبكل مجازفة مانفيستو لسينما تسير ضد التيار الشكلاني بكل ما تؤمن به وتمارسه هذه المدرسة. بلاغة الفيلم لا تعتمد التقطيع أو التركيب الجدلي للقطات متنافرة المضمون ونوعية التصميم، وإنما توليف يربط الأحداث من خلال وحدة عضوية تتمثل في النقطة الرئيسية للسردية والتي هي شخصية البطل ساشا.

كاميرا الفيلم تتحرك مع الشخصيات مقتربة منها في لقطات متوسطة ومكبّرة مضيفة لمواضيعها شحنة دلالية عبر حركات مسح عمودية وأفقية، ومن خلال زوايا عالية والغطس والغطس المضاد. تظهر شخصيات الفيلم بما فيها الثانوية، كما في لقطة هدم البيت القديم، بشكل جماعي كما في سينما أيزينشتين، لكن تركيز الكاميرا على الوجوه جعل هذه الشخصيات لا تفقد هويتها الإنسانية في سبيل التعبير عن فكرة الجماعة كما في سينما ما قبل الحرب. على عكس التيار الشكلاني أو البنائي تتأسس القناة التواصلية في الكمان والمدحلة البخارية على أليغورية انتقائية، إن لم نقل برجوازية في مقاييس كوميسارات الفن السوفيات. عوض الفأس أو البندقية هذه الأليغورية تعتمد أبجدية الطبيعة بالدرجة الأولى في مؤشراتها البصرية كالماء والطيور والتفاح. هذه المؤشرات التي ستصبح موتيفات مقترنة بالمؤلف  لتعاود الظهور في كل أفلامه بوظائف متنوعة واستقراءات متعددة، وتسيل مدادا كثيرا في النقد والتحليل، كانت الحامل الأول لرؤية المخرج السينمائية كما يبين فيلم التخرج.

 فيلم “الكمان والمدحلة البخارية” يشكل، من هذا الجانب، السجل الخام لسينماتوغرافيا تاركوفسكي بأسلوبيتها ومؤشراتها وكل موتيفاتها. مشاهدة الفيلم تقترح إعادة استقراء لهذه الموتيفات كدوال، بالمفهوم المقرون بالكلمة داخل حقل اللسانيات، تتفعل في اتجاه معاني مختلفة من سياق فيلمي لآخر، عوض النظر إليها كمحفزات ميتاسياقية محددة في معناها ومحصورة في وظيفتها.  هذا الفيلم يمنح لدارسي سينما المؤلف جدادة عن خطية التطور التعبيري لذيه ونقاط الثبات والتحول في هذا التطور. أي تقييم لسينما تاركوفسكي كمشروع سينمائي مكتمل فيما يخص الكتابة والتعبيرية يظل ناقصا إن لم يأخذ بعين الاعتبار هذا العمل الباكورة. كما يمنح لكل مشتغل في الحقل السينمائي فرصة الوقوف على حقيقة الإبداع السينمائي. وهي أن الإخراج في السينما رؤية بالدرجة الأولى.

  • أستاذ الدراسات العربية والأدب الإسباني

جامعة سان توماس

هيوستن تكساس

Visited 83 times, 1 visit(s) today