ثلاثية “الطريق الى الله”: عن طقوس العشق والعشاق
أسعدتنى الظروف أخيراً بمشاهدة الفيلم الوثائقى الطويل “الطريق الى الله”، الذى عُرض فى افتتاح مهرجان الإسماعيلية فى دورته الأخيرة، الفيلم الذى أعاد الى الشاشة عالم المخرج الكبير الراحل “شادى عبد السلام” (1930_ 1986(، بدا كما لو كان حضوراً قوياً لأفكاره الكبرى عن البعث والهوية المصرية، وعن طقوس العشق والعشاق، بحثاً عن ذلك القادر الذى سيوحد بين الناس، وسيوحد الأرض بدفئه وبنوره، كل يوم والى الأبد، وهى نفس المعانى التى كتبها شادى فى سيناريو فيلمه الأخير الذى لم ينفذ أبداً :”اخناتون”.
بدا لى أن روح شادى سعيدة ومبتهجة، وهى تشاهد العرض الجديد الذى نظمه مركز الإبداع بدار الأوبرا المصرية للفيلم، سعيدة بأن الروح التى نقلها الى الأجيال التالية، أتاحت لتلميذه د. مجدى عبد الرحمن، أن يعمل بدأب على مادة فيلمية فى علب مغلقة من السبعينات، بمقاس 35و 16 مللى، لكى يُخرج لنا ثلاثة أفلام متماسكة، يربطها هذا الطقس الروحى لأولئك الذين يعملون وكأنهم يتعبدون، يغنون ويرقصون وكأنهم يصلّون، يستلهم “د. مجدى” أسلوب “شادى”، ويسأل نفسه عما كان يمكن أن يفعله أستاذه فى هذه المادة، ثم يقوم ببنائها لتعبّر عن أفكار المخرج الراحل، الذى كان يؤمن بأن التاريخ المصرى سلسلة يكمّل بعضها بعضاً، يختلف الشكل ولا يتوه المعنى، تتغير التفاصيل ولا تضيع الهوية.
الثلاثية بالضبط تترجم هذا المعنى، أما المادة المصورة التى تركها “شادى” فهى تعود الى عام 1976، عندما اقترح المخرج الراحل على تلاميذه بمركز الفيلم التجريبى، إخراج سلسلة أفلام تحت اسم “وصف مصر”، استلهاماً لعنوان الكتاب الشهير الذى وضعه علماء الحملة الفرنسية، وشعوراً من “شادى” بأن هناك مسافة واسعة بين المصريين وتاريخهم، فعندما شاهد الجمهور فيلم “المومياء” فى عرضه التجارى عام 1975، بدا وكأنهم يرون كائنات قادمة من الفضاء، كان ذهول الجمهور وشعوره بالإغتراب عند مشاهدة الفيلم، قريباً من ذعر “ونيس” وهو يهرب عندما رأى ما بداخل التوابيت، اكتشف “شادى” أن المشكلة معرفية، وأن الإنسان عدو ما يجهل، فقرر أن يبدأ مشروعاً سينمائياً طموحاً بتصوير هذه السلسلة.
بالإضافة الى المادة التى صورها “شادى”، ولم تظهر الى النور فى وقتها، فقد اشترك فى المشروع من تلاميذه كلاً من المخرج “إبراهيم الموجى” الذى أنجز فيلم “إدفو” عن الصناعات الشعبية فى تلك المدينة الصعيدية فى أقصى الجنوب، والراحل “عاطف الطيب” الذى أنجز فيلمه المعروف “مقايضة” عن السوق الأسبوعى فى مدينة “إدفو”، بينما لم يكتمل فيلم المخرج “محمد شعبان” الذى اختار أن يقدم أطفال كُتّاب مدينة “إدفو”، ورؤيتهم للأجانب وهم يصورون المعبد الكبير.
عن الحصن
الجزء الأول من الثلاثية عنوانه “الحصن”، وهو حصاد المادة التى صورها “شادى” فى “إدفو” ضمن هذا المشروع، والجزء الثانى عنوانه “الدندراوية”، وهو حصاد تجربة شادى وتلاميذه فى مدينة “دندرة” بالصعيد، أما الجزء الثالث من الثلاثية فعنوانه “مأساة البيت الكبير”، وهو العنوان الفرعى لسيناريو فيلم “إخناتون”، حلم شادى الكبير الذى لم يتحقق فى عالم الأفلام الروائية بعد “المومياء”، فى الجزء الثالث مادة مصورة من السبعينات عن الإعداد لهذا الفيلم، ورش العمل واختيارات الممثلين، ثم أضاف د.مجدى مواد قام بتصويرها فى الأقصر وتل العمارنة، يشرح خلالها “أنسى ابو سيف”، مهندس الديكور وتلميذ شادى، تفصيلات لوحات من فيلم “إخناتون”، رسمها شادى، تجسد مشاهد محورية فيه، سنراها وقد ارتبطت بالأماكن التى استُلهمت منها.
معبد “إدفو” الذى صوّره “شادى” فى “الحصن” هو معبد بطلمى تم بناؤه على غرار المعابد الفرعونية، ويعتبر أكمل المعابد القديمة، ولكن كاميرا “شادى” المتأملة لا تتوقف فقط عند المعبد، الذى نراه فى تكوينات بديعة، ولكنها تعمل فى اتجاهين: محاولة فك رموز ما هو منقوش على المعبد فيما يتعلق بانتصار “حورس”، ابن “أوزوريس” على “ستّ” الشرير، والإتجاه الثانى هو تسجيل احتفالية دينية وطنية يظهر فيها مداحو الرسول فى إدفو، وهم يمجدون انتصار أكتوبر، ويتحقق الربط بين الماضى والحاضر بهذا المزج الفريد بين الأسطورة الفرعونية، والمديح النبوى، وتمجيد انتصار الجيش المصرى، الذى صنع عنه شادى فيلماً سابقاً بعنوان “جيوش الشمس”، والتسمية قادمة مباشرة من العصر الفرعونى.
يتأكد هذا المزج المقصود من خلال حركة الكاميرا البطيئة من المعبد العملاق الذى يشبه الحصن بالفعل، الى البيوت التى تبدو كما لو كانت امتداداً له، وبينما نرى “حورس” وهو يوجه حربته الى “ستّ” رمز الشر كنقش على الحجر، نشاهد لقطات مدهشة صورها شادى تعيد تجسيد محاولة “إيزيس” إنقاذ ابنها “حورس” بعد أن لدغه العقرب، عاد المخلّص فى النهاية ليقهر الشر، تماماً كما عاد حورس/ الجندى المصرى ليهزم الشر، ويحرر الأرض، وبينما نشاهد رقصة المرأة الكفيفة التى تدور حول نفسها كإحدى رقصات أهل إدفو، وسط البخور وعلى إيقاعات الدفوف، نتذكر رحلة المرأة الصابرة “إيزيس” فى بعث ابنها، كما فعلت من قبل ببعث زوجها الذى قتله “ستّ” الشرير.
تذوب الحدود بين الماضى الأسطورى الذى يحكى عن الخير والشر، والحاضر المتحرك الذى يحتفل بشكل طقسى دينى بمناسبة يراها انتصاراً جديدا للخير على الشر، يبدو كما لو أن الأسطورة حية، وقادرة على أن تفسر الحاضر، تنتفى تماماً فكرة أن المعبد مجرد حجارة ونقوش، تخرج النقوش من الجدار وتتجسد بشراً وسط مياه ونبات وقمر ساطع، تتوقف الكاميرا أمام عصافير أخذت تنقر الحبّ وسط فجوات المعبد، وكأنها تقتات عليه ( فكيف نراه نحن مجرد أحجار؟)، يتعمد “شادى” تصوير حزم من الضوء وهى تخترق المعبد وكأنها تغسله، وتدعونا أن نراه وأن نكتشف رموزه، لا ينظر “شادى” فى كل أفلامه الى تراث الماضى ومعابده ورسومه ونقوشه ومقابره بوصفها أشياء ميتة، بل يراها أكثر حياة من الأحياء، فقط هى تحتاج الى مفاتيح للقراءة، ومصابيح للوعى والفهم.
حلقات من التاريخ
فى “الدندراوية” سنجد نفس الفكرة أيضاً: تاريخ مصر عدة حلقات، الهوية واحدة ولكن التعبير والتفاصيل مختلفة، معبد “دندرة” ينتمى أيضاً الى العصر البطلمى، عليه نقوش تسجل زواج الإلهة “حتحور” من “حورس” ابن “إيزيس”، سافرت “حتحور” فى مركبها المقدس الى “إدفو” جنوبا، وبعد عدة أيام عادت الى معبدها شمالا فى “دندرة”، انجبت “حتحور” من هذا الزواج المقدس ابنها “حورسما تاوى” (أو حورس موحد القطرين)، أى أن المخلّص حورس قاهر الشر، أنجب مخلصاً جديداً يوحد الوطن، دائماّ هذه الفكرة مستمرة من الأجداد الى الأحفاد.
ولكن الكاميرا لن تتوقف عند النقوش فقط، ولكنها ستسجل فى دندرة طقساً مقدساً آخر غير طقوس الزواج المقدس، الطريقة الدندراوية، وبالقرب من المعبد العتيق، تحشد الذاكرين والمرتلين، يتمايلون يساراّ ويميناً وهم يذكرون الله، فى مكان آخر يجلس الأطفال فى الكُتّاب وهم يقرأون القرآن بجلاليب وعمائم بيضاء، تمتزج صور نقوش المعبد بطقوسها الصامتة، مع صور الدندراوية بطقوسهم المسموعة، تختلط التفاصيل حتى تكاد تظن أن الدندراوية الهابطين من المراكب النيلية الى الشاطئ، قادمون من حفل زواج حتحور وحورس فى إدفو، تشعر بحيرة حقيقية: هل اختارت حتحور أن تحتفل بزواجها المقدس فى نفس يوم احتفال الدندرواية برحلتهم الروحية الى الله؟ أم أن الدندراوية يباركون هذا الزواج ويحتفلون ويشكرون الله لأنه سيمنح وطنهم طفلا يوحد الشمال والجنوب؟
يجسد الفيلمان بوضوح مشروع “شادى” بأكمله، والذى يتلخص فى أنه بدون أن تعرف الماضى لن تتقدم خطوة الى الأمام، ستظل حائراً تتخبط مثل “ونيس” فى فيلم “المومياء”، هذا الفيلم العظيم نفسه يمكن تفسيره بأنه تعبير عن قدرة الميت ( الماضى الذى نجهله ميّت بالنسبة لنا) على بعث الحى (ونيس)، بداية البعث كانت عندما شاهد “ونيس” أحد أعمامه، وهو يفصل رأس مومياء عن جسدها، لكى يحصل على تميمة يبيعها للغريب، بدأ “ونيس” يسأل عن هويته وحياته، وأطلق التساؤل الشهير :” هل هذا عيشنا ؟”، أصبح مثل “هاملت” جديد يبعثه الماضى الغامض الذى لم يكن يعرف عنه شيئاً، أثبتت مومياوات الخبيئة، وهى تخرج تابوتاً واحدا بعد اخر، أنها ليست فقط قادرة على أن تبعث نفسها عندما تُنادى باسمها ( يعلن رجل الآثار اسم كل فرعون عندما يخرج تابوته وكأنه يحقق رمزيا فكرة البعث بذكر الاسم ومناداة صاحبه)، ولكن هذه المومياوات الميتة أثبتت أيضا قدرتها على بعث الحى، غيّرت حياة “ونيس” نهائيا والى الأبد.
معاصرة الماضي
الماضى إذن بالنسبة لشادى معاصر تماماً، فقط هو يحتاج أن نفهمه ونتأمله، الأساطير ليست خرافات ولكنها رموز تحتاج أن نستوعبها لنستفيد منها اليوم والآن، المومياوات ليست مساخيط ولكنها حياة متجمدة تبحث عن الحركة، البطء فى حركة الكاميرا المتأملة فى أفلام شادى، تقابلها حركة عقلية نشيطة فى ذهن من يشاهد ويكتشف، مشروع “شادى” ببساطة هو أن يتحول التاريخ الى بوصلة للحاضر والمستقبل، ذلك أن الهوية المصرية واحدة، والمفاهيم العقائدية التى جاءت بها المسيحية والإسلام لها أصلها الفرعونى، أفكار مثل الخير والشر، والثواب والعقاب، والموت والبعث، بل إن فكرة الروح والقلب كلها فى صميم الحضارة الفرعونية، ومن الأمور الدالة المذهلة الافتراض الفرعونى بأن محكمة العالم الآخر ستقوم بوزن القلب للتأكد من قيمة أعمال كل شخص فى العالم الآخر، فى الإسلام الأعمال بالنيات، والنية محلها القلب، والقلب هو أيضا موضع الإيمان، ولذلك لا يستطيع أن يعرفه إلا الله، فكرة البعث والميزان (من خفت موازينه ومن ثقلت موازينه) موجودة من قبل فى عقائد الفراعنة، وبسببها تحوّل الموت الى جسر للعبور بعد أن كان محطة نهائية للفناء، إننا نكاد نعتقد أنه لاشئ يفسر سهولة انتقال المصريين من عقيدتهم الفرعونية الى المسيحية ثم الإسلام، إلا اشتراك هذه الأديان مع عقيدة الأجداد فى محاور جوهرية وأساسية.
لا يتكلف “شادى” ولا تلميذه مجدى عبد الرحمن بالتالى هذا الربط بين طقوس ورموز فرعونية وأخرى إسلامية، ولا يتكلفان هذه الانتقالات المستمرة من المعبد إلى القرية، ومن الحصن الى حلقة الذكر، ومن النقش الى الرقص، ومن القمر الى الأرض، تقول لنا أفلام “شادى” كلها إن ماترونه اختلافا ليس سوى أشكال جديدة لنفس الطقس، نفس الهمّ والسعى ونفس الرحلة الروحية للبحث عن الله، نفس فكرة العدالة التى اختارها “شادى” فى فيلمه القصير الرائع “شكاوى الفلاح الفصيح” هى هدف الإنسان المصرى فى وقت عرض الفيلم، وهى أيضاً هدف ثورة يناير التى رفعت شعار العدالة الإجتماعية، نفس الوجوه التى تراها فى نقوش المعبد يمكن أن تراها فى سوق إدفو، أو فى مراكب “دندرة” القادمة الى حلقة الذكر، وهى نفسها وجوه الجنود السمراء الذىن شاهدناهم فى “جيوش الشمس”.
ونتيجة لهذه النظرة الشمولية لتاريخ مصر، باعتباره سلسلة متصلة فقدنا بدايتها فتاه الطريق، كان طبيعياً ان يختار “شادى” أن يكون فيلمه الطويل الثانى عن فرعون التوحيد “إخناتون”، مرة أخرى تسبق مصر الى التوحيد الذى جاءت به الأديان بعد ذلك، الشخصية نفسها درامية وثرية جداً : فرعون بدرجة نبى، وحاكم بدرجة ثائر، شخصية تراجيدية من الطراز الأول، هذه الشخصيات التراجيدية نبيلة بالأساس، حسنة النية، وربما سابقة لعصرها أيضاً، ولكنها ترتكب خطأ يدمرها، وقد كان خطأ “إخناتون” فى أنه اعتقد أن الخير يمكن أن يفرض نوره على العالم دون قوة تسانده، يكفى فقط أن تنشر دعوتك، لقد نسى أن الخير يحتاج الى أنياب تدافع عنه وتحميه.
سيناريو “شادى”، الذى كُتبت معالجاته الأولى عام 1971، حمل اسم “إخناتون”، ولكنه جعل له عنواناً فرعياً هو “مأساة البيت الكبير”، تعثر إنتاج الفيلم حتى وفاة “شادى”، ولكنه قطع أشواطاً فى التحضير له، ورسم لوحاته، كما قام تلاميذ “شادى” بالعمل فى إعداد التماثيل والإكسسوارت المتعدد للفيلم الضخم، وتم أيضاً توزيع بعض الأدوار الرئيسة، فى غمار رحلة العمل والتوقف، نشأت فكرة عمل فيلم تسجيلى عن رحلة النضال لإنجاز فيلم مهم، وكأن “مأساة البيت الكبير” تحولت، بسبب أحفاد ستّ، الى “مأساة الفنان العظيم”.
مأساة البيت الكبير
يمكن أن نعتبر الجزء الثالث من الثلاثية وعنوانه “مأساة البيت الكبير” تسجيلاً لهذه الحكاية المؤلمة، نسمع صوت “شادى” فى بداية الفيلم وهو يعتبر فيلم “إخناتون” عملا وطنياً لابد أن يكون تمويله مصرياً، يصف “شادى” بطله “إخناتون” بأنه رجل سابق لعصره، نرى ورش العمل التى تقوم بإعداد الفيلم واكسسوراته، الراحل “صلاح مرعى”، مهندس الديكور الكبير، يقوم بتركيب تاج “إخناتون”، يتأمل “شادى” التمثال والتاج راضياً وسعيداً، نشاهد “شادى” وسط مجموعة من الشباب والشابات، من الواضح أنه يختار ممثلى الأدوار الرئيسية، نرى الممثلة الشابة والوجه الجديد وقتها “سوسن بدر”، نفتقد صوراً نعرف أنها موجودة للفنان الشاب، والوجه الجديد، “محمد صبحى”، الذى اختاره “شادى” لأداء دور “إخناتون”.
ولكننا نعوض هذا الإفتقاد بمجهود كبير وذكى ، يمزج بين اللوحات الرائعة الملونة التى تركها “شادى” لبعض مشاهد الفيلم، ورحلة مع مهندس الديكور، تلميذ “شادى”، الفنان “أنسى أبوسيف”، إنه يشرح لنا اللوحات وسط الأماكن والمقابر والمعابد التى استلهم منها “شادى” أفكاره، أكسبت تلك الجولة من الأقصر (حيث كهنة آمون)، الى تل العمارنة (حيث مقر عاصمة إخناتون الجديدة لعبادة آتون)، الفيلم والسرد حيوية كبيرة، بدت كما لو كانت أيضاً امتداداً لفكرة مشروع وصف مصر السينمائى القديم.
اللوحات ترصد كل شئ: السفراء الأجانب وهم يركعون تعظيما لأمنحتب الثالث، أسرة الفرعون وكهنة آمون، القائد العسكرى حور محب، النائحات فى جنازة الملكة تى، المبشرون الذين أرسلهم “إخناتون” لنشر دعوة التوحيد فتم ذبحهم فى الطريق، يردد أنسى أبوسيف مقاطع رائعة كتبها “شادى” على لسان “إخناتون”، إنه يقول مثلاً لكبير المعلمين “أمسو” معبّراً عن منهجه الجديد فى تعليم الأجيال الصغيرة:
” لقّنهم كلمات أهل العلم / الذين تلقّوا الحكمة ممن سبقوهم / ولا تلقّنهم كلمات الكهنة / أولئك الذين وضعوا الكلمات فى أفواه آلهتهم / ليبثّوا الرعب فى قلوب الناس فسيتعبدونهم / الرعب من الإله الخالق ليس الطريق الى معرفته / ولكن الحمد له هو السبيل إليه”.
عن النور والشمس
يعود مرة أخرى الحديث عن النور والشمس، يقول “شادى” على لسان “إخناتون” : ” وإن يسألوك عن كُنه ذلك القادر / الذى سيوحّد بينهم .. قل لهم / هو الذى يوحّد الأرض/ بدفئه ونوره / كل يوم وإلى الأبد” . يبدو “إخناتون” معاصراً تماماً وهو يحمل دعوة عالمية للسلام والحب، كما يبدو جزءاً من حاضرنا القريب، ونحن نراه وقد تآمر عليه العسكر وتجار الدين من الكهنة، وفى الندوة التى أدرتُها عقب عرض الفيلم، سألت “د. مجدى عبد الرحمن” عن البُعد السياسى فى السيناريو، فقال بصراحة ما معناه إن “شادى” كان يقول دائماً إن “إخناتون” يشبه “عبد الناصر” فى طرح أفكار مثالية بنوايا طيبة، دون أن يمتلك الدهاء الذى يمكّنه من إنجاح تلك الأفكار، وتحقيق أحلامه.
الحقيقة أن فيلم “المومياء” نفسه حمل أيضا بُعداً سياسيا واضحاً بإصراره على فكرة أن “ضياع الاسم يساوى ضياع الشخصية”، وهى العبارة التى يقولها “ماسبيرو” فى المشهد الأول من الفيلم، وكانت مصر قد فقدت اسمها لصالح اسمها الجديد فى دولة الوحدة بين مصر وسوريا وهو “الجمهورية العربية المتحدة”، فى كل الأحوال لم يكن “شادى” ضد الهوية العربية، ولكنه كان يدين بوضوح محاولة محو الهوية المصرية.
تثبت هذه الثلاثية الوثائقية الهامة أن سينما وعالم ومشروع شادى قادر على البعث والتجدد، ذلك أنه مشروع معاصر ومستقبلى رغم أن يشتغل على التاريخ.مازلنا تائهين بعد رحيل المخرج الكبير، لأن دروس التاريخ فى المدارس المصرية تتعامل مع الماضى بوصفه كلاماً عن الموتى والأموات، وبوصفه غياباً وليس حضوراً، مازلنا نتخبط ونتجادل حول سؤال الهوية مع أن شادى وجد أن الهوية واضحة، وهى لا تتصادم أبداً مع طبقات الأديان والحضارات الوافدة على مصر، كلها تندمج فى النهاية فى سبيكة واضحة، مازال التليفزيون يفضل أن يحتفى بأصغر فنان دون أن يحتفل بذكرى شادى، ودون أن يعرض فيلماً رائعاً مثل ثلاثية “الطريق الى الله”، وكان التليفزيون المصرى قد ارتكب جريمة عندما لم يعرض فيلم “المومياء” إلا بعد وفاة شادى عام 1986، بينما كان عرض الفيلم التجاري فى عام 1975.
ولكن “شادى” علّمنا أيضاً أن الكلمة لا تموت، وأن الفكرة أطول عمراً من صاحبها، وأن البعث عند أطراف أصابعك، وأن “ونيس” سيستيقظ فى النهاية، وأن “حورس” سيهزم الشر، وأن “إيزيس” بعثت الأشلاء كياناً واحداً، وأن “إخناتون” أثبت لنا أن الشمس والنور أكثر خلودا،ً من كل البشر الفانين.