تنيت”.. منهجية جديدة للزمن السينمائي
“لا يعتبر زمن الفيلم زمنا فعليا ولكن زمن الفيلم يتلاعب بالزمن الفعلي”. من الممكن مشاهدة الفيلم الجديد “تنيت” Tenet للمخرج كريستوفر نولان في ضوء هذا الطرح، حيث تقع مشاهده في معضلة فهم مسار الأحداث أو وقت وقوعها خاصة مع الرؤية الجديدة التي رسخ لها نولان للتعامل مع الزمن الدرامي في فيلمه الجديد.
كعادة أفلام نولان التي سبقت فيلمه “دنكرك” Dunkirk (2017)، نرى الزمن بطريقة مختلفة ولكن الملاحظ في فيلم Tenet هو الوصول إلى الحد الاقصى للتعامل مع الزمن، أو حسب ما وصلنا له إلى الآن.
رغم أن السينما تعتبر فنا وليدا أو مراهقا بالمقارنة مع الفنون الأخرى لكنها أكثر الفنون استيعابا للتغيرات والتطورات في المجالات المختلفة لاسيما المجال العلمي، وبالنظر إلى أن فن السينما يعتمد على الصورة في مفهمومه المجرد أصبح كل تطور علمي وبصري يصب في صالحها ويصبح جزءا من عالمها الجديد، على الصعيد نفسه نرى أن العلم وتطوره بات جزءا من الموضوعات السينمائية، وهو الحال مع فيلم “تنيت” Tenet.
قد تكون قصة الفيلم معقدة بالمقارنة بالأفلام الأخرى لكن يمكن النظر لها بطريقة تجريدية أكثر بعيدا عن النظريات الفيزيائية والتحليلات الرياضية التي قد تغلب على مظهره، فعلى مدار ساعتين ونصب، مدة الفيلم، يتلاعب نولان بالمشاهد ويلعب معه لعبة عقلية بصرية ممتعة، تحافظ على مدارها على انتباه المشاهد وإشراكه في فك طلاسم الحبكة المعقدة.
البطل الذي لا يعرف الكثير
بحسب مدارس كتابة السيناريو السينمائي هناك عدد من الحيل التي يستعين بها كاتب السيناريو لزيادة التشويق ودفع الاحداث بطريقة ممتعة من بينها تقنية المفارقة، ففي فيلم “عقيدة” نكتشف على مدار الأحداث جهل البطل\العميل بالكثير من الحقائق التي تكمل الصورة المنقوصة، التي يظن أنه بطلها ويعرف كل شيء، ولكن المكاشفة التي يعيشها البطل ويتيقن منها على مدار الأحداث تخلق نظرة جديدة لهذا البطل عن نفسه وكذلك لدى المشاهد ويشعر أن هناك الكثير أيضا من الأمور غير المعلومة ما يزيد من التشويق وكذلك الحيرة.
كما يطرح الفيلم بطريقة ضمنية العالم الذي نعيش فيه فمن لديه المعرفة المطلقة؟، ومتى يتوجب علينا الجهل؟.. وهل الحياة وسط الغيبيات تعيننا على الاستمرارية؟.. جميعها أسئلة مجردة من الذات والزمان والمكان، ظهرت بطريقة أو بأخرى على مدار الأحداث وعلى لسان الشخصيات وكذلك رودود أفعالهم، وترتقي بالفيلم من مجرد فيلم حركة واثارة إلى فيلم يجمل بعدا فكريا وفلسفيا اكثر من غيره من الأفلام نولان.
أنت في الحاضر والمستقبل والمستقبل أيضا
من خلال تجارب المشاهدة العديدة للأفلام على مدار العقود الماضية كان يسعنا مشاهدة أفلام تجمع بين الماضي والحاضر أو الماضي والمستقبل، ولكن أن نرى الحاضر والمستقبل والمستقبل المعكوس هذا أمر مختلف ويضيف لتقنيات التعامل مع الزمن الدرامي في السينما، فخلال مشاهد واحد نرى حدث حالي يرافقه حدث آخر يحدث في المستقبل وحتى نتفادى ويلات هذا الحدث المستقبلي يتم إقامة حدث مستقبلي ثاني لكنه معكوس!.. قد يكون الحديث غريبا لكنه حدث بالفعل على الشاشة وهو ما يجعل فن السينما مبهرا وقادرا على الإدهاش أكثر من الوسائط الأخرى.
هذا السرد المزدوج أو الثلاثي في بعض الأحيان وترابطه معا يخلق للفيلم عوالم جديدة أعمق من مجرد حكاية العميل السري الذي يسعى إلى إيقاف حرب عالمية ثالثة ستقضي على العالم بأثره، خاصة مع تداخل عوالم شخصيات أخرى وحكاياتهم وارتباطها بالحكاية الأولى التي نعتبرها كل شيء لكنها مجرد جزء من كل.
قد يكون هذا تأويلا مفرطا لكن حضور الهند، ممثل في شخصية تاجرة السلاح بريا، وما تمثله من فلسفة قديمة وتناسخ الأرواح الذي يمنح الروح حيوات مختلفة في مقابل العالم الذي يتحكم فينا ونتحكم فيه الذي يعيشه البطل، قد يزيد من تجرد الفيلم وفهمه على صعيد أعمق.
رموز اللعبة
في الوقت الذي تخطف فيه الصورة بكل تفاصيلها وسرعتها وحركاتها المعكوسة عين المشاهد يظل اللب متيقظا ويحاول فك رموز اللعبة، التي تصبح سهلة بعد مرور النصف الأول من الفيلم حيث امتلك هو الآخر مفاتيح يفهم من خلالها مسار الأحداث وإن غابت عنه الخبرة بالنظريات الفيزيائية.
في الوقت نفسه ومنذ الوهلة الأولى تخطف الصورة المشاهد، مع استهلال سريع ومشوق ومليء بالتفاصيل ومن الصعب متابعة الفيلم بعد تفويت هذا الاستهلال الذي يقارب خمس دقائق تحمل في طياتها الكثير من التفاصيل والمعلومات.
وتعود الصورة السينمائية إلى مدير التصوير المتنوع هويت فان هويتما Hoyte Van Hoytema الذي تعاون من قبل مع نولان في فيلمي “بين النجوم” Interstellar 2014، و”دنكرك” Dunkirk 2017، ولكن البطل الحقيقي للصورة هو المونتاج الذي قام به جنيفر لام، فالفيلم لا يقدم لقطات متتالية فحسب بل أحداثا ولقطات معكوسة إلى جوار لقطات في مسارها الصحيح، وهو ما شكل تحديا لمونتاج الفيلم، وبنجاحه اتسمت الصورة السينمائية بالسلاسة والترابط.
جماليات أخرى
اكتملت جماليات الصورة بموسيقى ملحمية رشيقة لـ Ludwig Göransson، الذي تتسم موسيقاه بالحدة والحيوية، فضلا عن شريط الصوت الغني نظرا لمشاهد الحركة المتعددة.
أما على مستوى التمثيل فهو من العناصر الجديدة بالعمل وإن لم يكن البطل الحقيقي مقارنة بعناصر الصورة الأخرى، مع هذا فمن السهل ملاحظة حضور جون ديفيد واشنطون وأداؤه المميز مع اللمسة الكوميدية التي تستطيع أن تتجاوز الحوار، كذلك يترافق تطور الأداء التمثيلي أيضا مع Robert Pattinson الذي قدم دورا محوريا وأداء خاطف على مدار الفيلم.
في حين قدم البريطاني كينيث برانا بأدائه المسرحي المعتاد للتراجيديات الشكسبيرية دور البطل الضد الذي يتجاوز عدائه البطل بل يصل إلى حد عداء العالم بأكمله، في حين قدمت الهندية ديمبل كاباديا Dimple Kapadia إحدي بطلات السينما الهندية في فترة الثمانينيات عددا من المشاهد الذي غلب عليها الطابع الحواري لكنها لم تخلو من الأداء الهادىء الذي تماشى مع الدور.
من المميز أن ترافق المتغيرات العلمية الشاشة السينمائية لكن المدهش حقا أن تخدم تلك المتغيرات السينما وتصبح أحد عواملها وليس مجرد موضوع أو تقنية، وهو ما قدمه كريستوفر نولان في فيلمه الأخير والذي سينقل هذه النوعية من الأفلام إلى مستويات أخرى وآفاق أوسع.