تأملات في البنية المجردة لعالم ڤينس جيليجان

Print Friendly, PDF & Email

محمد فاروق

مع نهاية مسلسل Better Call Saul في أغسطس 2022 اكتمل عقد العالم الّذي كان قد ابتدأه الكاتب الأمريكي «ڤينس جيليجان» وشركاه قبل هذا التاريخ بنحو أربعة عشر عامًا، وهو عالم شمل مسلسلين تلفزيونيين حققا نجاحًا واسعًا بالإضافة إلى فيلم تلفزيوني، وقد أعاد اكتمال عقد هذا العالم مناقشات حول المسلسل ومقارنات بينه وبين المسلسل السابق Breaking Bad ومحاولات ربط عناصر وثيمات هذا العالم ككل، وبالطبع فإن تناول عالم «ڤينس جيليجان» دومًا سيتطرّق إلى الشخصيات، تفاعلاتها وتحولاتها، وذلك لأن القصص المحركة لهذا العالم هي قصص السقوط، أو بكلمات أخرى قصص التحول إلى الجانب المظلم، من «والتر وايت» مدرس الكيمياء بإحدى المدارس الثانوية إلى «هايزنبرج» إمبراطور المخدرات الأسطوري، ومن «چيمي ماكجيل» المحامي متدني المرتبة إلى «سول جودمان» المحامي المجرم والمحتال الخطير، لذا فحتمًا التحولات النفسية والدرامية التي تجري على الشخصيات ستحتل قسطًا هائلًا من مناقشات «عالم جليجان» أو الجيليڤيرس، إن لم تحتله كله بالفعل.

تبدو مسألةً مفروغٌ منها ومقتولة بحثًا حينما نتساءل عن مدى ارتباط عالم Breaking Bad بثيمة السقوط الأخلاقي، غير أننا سنهمل عديد الأشياء وستفوتنا معالم أخرى مكوّنة لهذا العالم إن اكتفينا فقط بدراسة الشخصيات وقراراتها والتغيرات عليها، كما أن ثيمة السقوط الأخلاقي أو الانغماس في الجانب المظلم ليست هي ما يميّز الجيليڤيرس عن غيره من عوالم وقصص العصابات، بل إنها ثيمة موجودة في أشهر الأعمال من هذا النوع، فثلاثية «الأب الروحي» مثلًا كما هو معلوم يمكن وصفها بأنها قصة سقوط «مايكل كورليوني»، بل إن تلك الثيمة تلعب دورًا جوهريًا في السرديات الأمريكية بشكل عام، ربما لأن فكرة السقوط والانحدار تعمل بامتياز كنقيض لما يعرف بالقيم الأمريكية المزعومة والأحلام الأمريكية المتمحورة حول الطموح والارتقاء، حتى أن إحدى أشهر العلامات التجارية في السينما الهوليودية Star Wars ما هي إلا قصة سقوط «دارث ڤيدر» في الجانب المظلم. الخلاصة أن الاكتفاء بوصف Breaking Bad و Better Call Saul على أنهما پورتريهان للتحول المظلم والسقوط الأخلاقي لن ينصف المسلسلين، ناهيك بإعطاء صفة مميزة حقيقية لهما.

على أي حال فإن عالم «ڤينس جيليجان» وشركاه يحتوي بالفعل على العديد من الصفات المميزة، فإن ديناميكية السرد، وجماليات التصوير، والتلاعب بالرمزيات، كلها عناصر تجتمع على إشعارنا بقدرٍ من التميّز والتفرّد، وهو تفرد تسهل الإشارة إليه وتعريفه حينًا، بينما تصعب في كثير من الأحيان، وترجع تلك الصعوبة إلى كمون هذا التفرد في عناصر لا تتشكّل من قلب الحكاية والصراع وإنما هي عناصر تشكّل الوعاء الحاوي على كل شيء، ومحاولة تحرّي تلك العناصر والثيمات هي أشبه بالتأمل في البنية المجرّدة لهذا العالم، والمقصود بالتجريد هنا هو التجريد عن الشخصيات والأحداث، أي أننا بصدد تناول مادة الآنية التي تضم في جوفها كل أشكال الصراعات والتفاعلات دون الصراعات والتفاعلات نفسها، أو أحرف اللغة الّتي تنطق الحكايات والشخصيات بغير التركيز على الحكايات والشخصيات ذاتها، وعندها ربما يبزغ ما يميّز كلا العملين حقًا وما يتفردان به.  

الكيمياء والقانون

تتمحور ثيمة مسلسل Breaking Bad حول الكيمياء، فشعار المسلسل مأخوذ من الجدول الدوري ورموز العناصر، بينما نجد أن ثيمة Better Call Saul هي ميزان العدالة أو القانون، وكما هو بديهي فذلك يعبّر عن مهنتي الشخصيتين الرئيسيتين في كلا المسلسلين، وبتعميمٍ أكبر فإن ثيمة المسلسل الأول تشير إلى العلوم الطبيعية، في حين تشير ثيمة المسلسل الثاني إلى العلوم الإنسانية، يجسّد هذه الثنائية مشهد مقابلة «سول» لـ«والت» في مدرسته حينما يخاطب المحامي مدرس الكيمياء قائلًا: «لقد كنتُ فظيعًا في الكيمياء، لقد كنتُ ممن يميلون أكثر إلى الإنسانيات»[1]، فنحن هنا إذن إزاء منظورين للعالم، منظور طبيعي وآخر اجتماعي أو إنساني، والأول يرى العالم في أصغر جسيماته، جزيئات كمّية عشوائية محايدة أخلاقيًا وفارغة من المعنى كما سيخبر «والتر» مساعده «چيسي پينكمان»، وبالتالي «لا يوجد هنا إلا الكيمياء» كما سيخبر صديقته القديمة «جريتشن» حينما ستسأله عن الروح، أما الثاني فيرى صورًا أكبر، مهملًا التفاصيل الميكروسكوبية، فلا تعنيه الكيمياء أو الجسيمات ما دام يعرف كيف يحصل على مبتغاه من البشر من حوله.

قد يبدو كلا المنظورين متنافرين تمامًا لكن في الحقيقة يمكن ربطهما معًا عبر ما يسمى بالرد الفيزيائي، وهو أطروحة لفيلسوف العلوم النمساوي «أوتو نيوراث» أيّدها فيلسوف الوضعية المنطقية الألماني «رودلف كارناب» وهي تقول بوحدة العلوم، أي أن كل العلوم يمكن ربطها معًا بردّها إلى علم الفيزياء.

يشرح «د. محمود فهمي زيدان» مفهوم الرد الفيزيائي في الوضعية المنطقية:

«ولقد رأى الوضعيون أن من الممكن رد التصورات الأساسية في علم الكيمياء إلى علم الطبيعة [الفيزياء] ورد علوم الأحياء إلى الكيمياء ويحاولون رد علوم النفس والاجتماع إلى علم الأحياء […] ومن ثم يمكن رد كل قضية عن الحالات الشعورية في الإنسان إلى مجموعة قضايا عن حالات فيزيائية.» [2]

الزهرة الزرقاء

كما يقول الفيزيائي المعروف «ستيفن هوكنج» أن الصعوبة والتعقيدات الحسابية فقط هي ما تقف حائلًا بيننا وبين اعتبار كل شيء حالات فيزيائية، فلأن الكائن الحي أعقد من اعتباره نظامًا فيزيائيًا محضًا اضطررنا إلى دراسة الأحياء، ثم لأن الإنسان أعقد من اعتباره آلة حيوية اضطررنا إلى دراسة علم النفس، ثم سيظهر علم الاجتماع وعلم الإنسان بنفس النمط[3]، وهكذا يبدو المنظور الإنساني أو الاجتماعي ليس متنافرًا مع المنظور الطبيعي وإنما هو فقط يقف على مسافة أعلى ببضع خطوات محاولًا التحايل على التعقيد الناتج من اعتبار كل شيء محض جسيمات.

وإذا كان الغياب الأخلاقي في المنظور الأول نابعًا من عماء وتفاهة الأشياء في أصلها فإننا قد نجد مثيلًا لهذا الغياب في المنظور الثاني متمثلًا في هشاشة القيم الأمريكية، فالمحامي «جودمان» الّذي لا يظهر في مكتبه إلا ونسخة من دستور الولايات المتحدة وراء ظهره، والّذي يتخذ نسخة من تمثال الحرية شعارًا له، يعلم أنه لا يعمل إلا في نطاق هوان القيم الأمريكية، وقد تصوّرت هذه الهشاشة بصريًا حينما رأينا أن مصدر الشعار هو دمية تمثال الحرية المترنحة عند عائلة «كيتلمان» المحتالة، وحينما رأينا أعمدة مكتبه (الّذي وصفته «كيم ويكسلر» بأنه كاتدرائية للعدالة) تهوى بفعل رميه للكرة المرتدة، ويتضح لنا أنها فقط حجم بلا أي ثقل حقيقي.

وإضافةً إلى مسألة الأخلاق، ستفرض مسألة الإله نفسها بين كلا المنظورين، وقد يبدو أن الأقرب هو احتياج المنظور الثاني للإله لأن المنظور الأول قد انطلق أصلًا من مبدأ عماء الأشياء في أصغر بنيتها، لكننا سنتفاجأ أن العكس هو ما حدث، إذ أن المنظور الطبيعي وجد شرخًا في جسيماته العشوائية، سيعبر عنه «والتر» حينما سيتساءل عن احتمالية أن الرجل الّذي التقاه ليلة وفاة «چين» هو أبوها نفسه، سيقول «والت» مسلّمًا بشرخ منظوره:

«الكون عشوائي، غير حتمي، إنه فوضى بسيطة، جسيمات دون ذرية تتصادم بلا نهاية أو هدف، هذا ما يخبرنا به العلم، لكن ماذا يعني هذا؟ ماذا يخبرنا أن في نفس تلك الليلة تموت ابنة هذا الرجل؟ وأني أنا من كان يتناول الشراب معه…»[4]

على العكس تمامًا لا نجد نظيرًا لهذا الشرخ في البناء العام من منظور «سول جودمان»، لذا فإننا نرى المحامي القانع تمامًا بتماسك بنية العالم من منظوره وبسيطرته وهيمنته على أدواته يصيح في وجه «هوارد»:

«أنا مثل إله في ملابس بشرية! تخرج صواعق البرق من أصابعي! » [5]

لقاء والتر وسول في المدرسة

وإذا كان الشرخ في التسليم بعماء الأشياء قد تجلّى أو انكشف في الحوار مرة واحدة، وفي حلقة أنتجت أصلًا لأسباب نقص في الميزانية[6]، فإنه يبدو كما لو كان عنصرًا صامتًا ملازمًا للسرد، فدومًا ما يغلّف الصورة شيءٌ يبث طيفًا من الحياة في البيئة الصمّاء، ويمكن استيضاح هذا العنصر في سماتٍ ثلاثة على الأقل:  الأولى هي سمة متكررة ومؤطرة للصورة في المسلسلين، وهي التصوير من زوايا مستحيلة أو غير بشرية، من داخل صندوق نفايات، أو من أسفل بيضة على المقلاة، زوايا تبدو وكأنما تخلق عينًا للعماء الكوني، والثانية هي اللحظات الّتي تنبض فيها الأشياء المصمتة وكأنما لها حكمٌ أو بوصلة أخلاقية، مثل دمية الدب الّتي سقطت من الطائرة بوينج  737 على منزل والتر وايت، ومثل عين ذات الدمية الّتي وجدتها «سكايلر» أثناء تورّط «والتر» في جريمة أخرى هي قتل الشاب «جايل»، ومثل الزهرة الزرقاء الّتي نبتت في مكان موت «ناتشو ڤارجا» وسط صحراء مقفرة، والسمة الثالثة هي انعكاس المشاهد أو تكرار ثيمات بصرية معينة لأحداث معينة، وهي سمة تعطي القدر وظيفة حية أو واعية، وكأنه يصنف الأحداث أو يجمع المتشابهات منها في فئة واحدة، مثل احتراق وجه «جوستاڤو فرينج» بشكل مماثل لما حدث مع دمية الطائرة، والحدثان كلاهما نتيجة لتصرفات «والتر وايت»، ومثل اصطدام رأس «هوارد هاملين» بعد مقتله بنفس طريقة اصطدام رأس «تشاك ماكجيل» بعد سقوطه في محل آلة النسخ، والحدثان كلاهما نتيجة لتصرفات «چيمي ماكجيل».

كما يمكن سرد عديد الأمثلة الأخرى فيما يخص كل سمة من السمات السابقة، مما يجعلنا نصب نسق من الرمزيات والدلالات تسابق المتابعون على مدار سنوات في اقتناصها وربطها بالسردية الكلية وطبائع الشخصيات، لكنها لم تأخذ قسطًا كافيًا من تسليط الضوء عليها بمثابة نسق يتبنّى زرع المعنى في قلب العشوائية أو اللامعنى.

السكون

مما لا يُذكر كثيرًا أن عالم Breaking Bad ينتمي إلى تصنيف «النيو-وِستيرن» أو الغرب الأمريكي الحديث، وعند ذكر الوِستيرن فإن أول ما يطوف بالذهن هو بالطبع أفلام «سرچيو ليوني»، وإذا وُجدت سمة واحدة مشتركة بين عالم «جيليجان» وأفلام المخرج الإيطالي الكبير فهي حتمًا مشاهد الصمت والسكون الّتي تمتلئ بها أفلام «ليوني»، بينما تتناثر وسط حلقات Breaking Bad و Better Call Saul وتكون غالبًا في مشاهد ما قبل التتر. وبخصوص الصمت في أفلام «ليوني» يقول الناقد السينمائي «محمد الفقي»:

«لا تحمل مساحات الصمت الطويلة في أفلام ليوني مغزًى واحدًا مكشوفًا، وإن كانت تصدر كلها عن مصدر واحد يضفي عليها طابعًا عامًا هو التشاؤم حيال وضع الإنسان ومصيره […] أحيانًا ما يكون الصمت عند ليوني هو صمت الفراغ الّذي يلتهم العالم أو الشخصيات، خصوصًا إذا ما تُركت برهة لنفسها أو لضجر الانتظار […] ليوني في مساحات صمته الطويلة يحاول أن يلتقط الحقيقة الخالدة بالتركيز على الصمت ما بين حدثين متتاليين، إنه يحاول أن يستنطق العالم ليبوح بالحقيقة الأزلية: الخواء.» [7]

 وقد يعمل هذا الوصف بكفاءة مقبولة إذا ما انطبق كذلك على مشاهد السكون في عالم «جيليجان»، فهو أيضًا سكونٌ دومًا ما يتطبّع بطابع تشاؤمي، ويشير إلى خواء يلتهم العالم والشخصيات، ويقبع داخل قفرٍ نادرًا ما ينكسر، لكننا أيضًا نلاحظ اختلافين رئيسيين بين صمت «ليوني» وصمت «جيليجان»: الأول أن صمت «ليوني» هو صمت الـ«ما قبل»، صمت سابق للحدث، سكون يسرد عبثية شخصيات يلتهما الخواء وينذرها بمأساة، أما صمت «جيليجان» فهو صمت الـ«ما بعد»، سكون خالٍ من البشر، يُعرض في السرد غالبًا عبر تقنية الـFlash Forward حيث تبدو الأشياء على الأحرى قد خلعت في غياب الإنسان أي كساء من المعنى، ورجعت سيرتها الأولى تافهة ومحايدة أخلاقيًا، مثل الحذاء المحشوّ بالمخدّرات الّذي سقط بعد أن أتم «مايك» خطته ضد خط توريد آل سالامانكا، ومثل لافتة ركن السيارات الّتي تهاوت بعد أن أنهى «چيمي» حبكته للإيقاع بـ«هوارد»، أما الاختلاف الثاني فهو أن الصمت في الجيليڤيرس -في بعض الأحيان- قد يحمل بالفعل قبسًا من المعنى، وهو ما يتم داخل نسق خلق المعنى في قلب اللامعنى كما ذكرنا قبلًا، فالزهرة الزرقاء الّتي نبتت في شجن وإجلال بعد موت «ناتشو» هي حتمًا لها معنى، وشظايا الطائرة الساقطة على منزل «والت» هي بلا شك تحمل حظًا من المعنى كذلك.

وبجانب إضفاء المعنى على الأشياء، سنجد أن السكون في الجيليڤيرس له وظيفة أخرى مناقضة تمامًا، وهي نزع المعنى عن البشر أو «تشييء البشر» إن جاز التعبير، فسنرى طيلة المسلسلين ثيمة تتكرر هي رصد الكاميرا للأشخاص المدنيين، أو بالتعبير المُستخدَم «من هم خارج اللعبة»، في أُطُرٍ ذات نصيبٍ عالٍ من التفاهة والحياد، فمشهد استخلاص رجال الحكومة لبقايا الطائرة، ومشهد صُنّاع المسطرة هدية الفريق الألماني لقائدهم «ڤيرنر زيجلر»، ومشهد موظف شركة «مادريجال» الّذي سرق «مايك» بطاقة هويته، هي كلها مشاهد تسحب القيمة من الأفراد وتفرض عليهم طبيعة ميكانيكية، أو تهمّشهم لصالح الأشياء الّتي -على العكس- تبث فيها من روحها أو تضفي عليها أهمية، فيهبط البشر هنا إلى مستوى الأشياء وما فيها من صغرٍ وحيادٍ وعماء، بينما ترتقي الأشياء إلى مستوى الشخصيات وتكتسي بالمعاني والدلالات ومركزية الحدث. وقد يُستخدم هذا الأسلوب كخير معبّرٍ عن الانحطاط أو التهميش الّذَين قد تبلغهما إحدى الشخصيات، مثلما حدث مع «كيم ويكسلر» الّتي بخروجها من اللعبة انضمت إلى الجموع التافهة، من تعاملهم الكاميرا معاملة الأشياء الخاوية، وترصدهم يتحدثون في توافه الأمور كأجسامٍ جوفاء تطلّ بلا روح في هيئةٍ مثيرةٍ للازدراء، وفي زاويةٍ مهملة خارج أي حدث أو مُعترك حقيقي.

ويمكن القول بأن سكون البيئة الخاوية -سواء أكان يعرض ما هو قبل أو ما هو بعد- دومًا ما يوحي بالاتساع المكاني والامتداد الزماني الخاليَين من المحركات البشرية، فيشعرنا بأن أغلب الأماكن فضاءٌ خالٍ من استيطان البشر، وأغلب الأزمان عصورٌ فارغة من التاريخ الإنساني، وأن حيّز الإنسان ينحصر في شريطٍ ضيّق مكانًا وزمانًا، قد وقفت من قبله الأشياء منذ دهور، وستستمر لما بعد زواله وزوال آثاره، وهو ما يجوز اعتباره تعبيرًا جماليًا تشاؤميًا نابعًا من قول المُنظّر البنيوي «ميشيل فوكو» بموت الإنسان، وأن الإنسان كيانٌ تتحدد هويته لا من وجوديته وإنما من خلال بنية عالمٍ مستمرٍ من قبله وسيستمر لما بعده. [8]

الحركة

كل ما هو ليس سكونًا -بطبيعة الحال- حركة، والمقصود بالحركة هنا كل ما ينضوي تحت الديناميكية القصصية من سرد الأحداث والصراع وتفاعلات الشخصيات، وكما للسكون سماته وقواعده فللحركة في هذا العالم أيضًا ما يميّزها، ميزة ملحوظة هي أن العالم هنا يتهاوى ويتجه نحو اضمحلال بيّن، مثل نظامٍ فيزيائي مغلقٍ بإحكام، خاضعٍ للقانون الثاني للديناميكا الحرارية، وهو القانون الّذي ذُكر صراحةً في المسلسل على لسان «والتر وايت» في نقده لفكرة آلة الزمن، وتحت سطوة هذا القانون يتجه كل شيء إلى مصيرٍ فوضوي، وتنتفي كل سبل العودة، فلا عمليات عكسية تحدث أبدًا، لا عودة بالزمن، ولا مرجع من طريق السقوط. والنظام في عالم «جيليجان» مغلق لدرجة أننا نلمس شيئًا من الاغتراب حينما تخرج الكاميرا من عالمنا المحدود في «ألبوكركي» لترينا ما يحدث في فلوريدا أو نيوهامبشير أو نبراسكا أو حتى ألمانيا، ولدرجة أننا نستشعر ضعفًا في الكتابة حيثما يحاول النص الإحالة إلى كيانات لا تنتمي إلى نظامنا المغلق، مثل عصابة اسپينوزا والعصابة البيروڤية الّتين ألصق «جوستاڤو» بهما أعماله ضد آل سالامانكا، كما بلغ ضعف الكتابة أقصاه على هذا النحو في فيلم El Camino حينما بنى صراعه الرئيسي على عصابة شركة اللحام الّتي لم تظهر في أيٍ من المسلسلين.

سمة ثانية هي أثر الفراشة، أو تأثير الدومينو، وهو التأثير الّذي ظهر صراحةً في المسلسل أيضًا وسط ألعاب الفتيات في بيت «ناتشو»، فخطوط الأحداث الكبرى لا تنطلق إلا من أتفه الأشياء، مثلما بدأت علاقة «مايك» مع آل سالامانكا بسبب مجموعة بطاقات بيسبول، ومثلما دخل «چيمي» عالم الجريمة بسبب خطأ من ثنائي المتزلجين المحتالين، ففي عالم من الفوضى المبسطة، والجسيمات دون الذرية الّتي تتصادم بلا نهاية أو هدف، يبدو من الملائم أن تكون الحركة هكذا بالفعل، حركات متناهية الصغر داخل نظام عشوائي ومعقد تُحال إلى فوضى عارمة، وبهذا تصبح الشخصيات في مهب ريح قد استُهلّت بنفخاتٍ ضئيلة.

والطريف أن الكُتّاب كانوا -بغير عمد- مخلصين لتلك السمات في عملية الكتابة نفسها، إذ أن عملية الكتابة كانت هي بحد ذاتها في مهب الريح، وخاضعة مثل كل شيء لسطوة العشوائية واللاحتمية، ولنا أن نتخيل أن شخصية ذات تأثير هائل في هذا العالم مثل «مايك إيرمنتراوت» ابتُكرت أول الأمر لأن الممثل «بوب أودينكيرك» لم يكن متوفرًا ليؤدّي دور «سول جودمان» إبان مشهد تنظيف بيت «چيسي» بعد موت «چين»، وهو المشهد الّذي حمل لنا «مايك» إلى الشاشة لأول مرة [9]، وعلى نحوٍ ليس مختلفًا كليًّا نجد أن شخصية «چيسي پينكمان» كان مقدّرًا لها في بداية الأمر أن تموت مبكرًا، ثم حال الاستقبال الجماهيري بين الشخصية وبين هذا المصير [10]، كما يذكر «جيليجان» كذلك أن استقبال الجمهور لأداء «ريا سيهورن» في دور «كيم ويكسلر» هو ما منح للمحامية مساحتها الكبيرة في القصة [11]. من الواضح أن التأرجح في هذا الأسلوب الكتابي لا يجوز اعتداده ميزة في ذاته من قريب أو من بعيد، بل إننا قد نتعجب من خروج النتيجة على هذا القدر من الإيجابية بعد أن عبثت العشوائية بعناصر في صميم قلب القصة ذاتها وليست في تفريعاتها مثلًا، لكن يمكن إرجاع جودة النتيجة النهائية إلى كون الكتابة -على قدر ما جرى عليها من تقلبات- كانت محكمة ومخلصة للسنن والقواعد الّتي خلقتها، والّتي شكّلت بنية عالمها المجردة.

سمة أخرى للديناميكية في المسلسل هي إعادة الاكتشاف للأشياء والشخصيات والأماكن، وربما تجري تلك المقاربة على ما هو خارج العالم أصلًا، مثل قصيدة «أوزيماندياس» لـ «پيرسي بيش شيلي» وأغنية «فيلينا-إل پاسو» لـ «مارتي روبينس»، حينما زرعتهما حركة الأحداث داخل عالمها زرعًا، وأصبحتا مرتبطتين ارتباطًا وثيقًا بشخصية «والتر وايت» وعلى نحو يجوز وصفه بأنه ملائم إلى حد التمام، كما أن إعادة الاكتشاف تجري -ومن باب أولى- على شخصيات العالم نفسه، فالمُضيّ في الأحداث دومًا ما يغيّر منظورنا إلى الشخصيات، ومن هنا أتت قيمة Better Call Saul الّذي قُدّم باعتباره مسلسلًا منبثقًا يتعمق في عالم «والتر وايت» قبل أن يتعمق فيه «والتر وايت» نفسه، وكانت النتيجة أن قدّم تغييرًا هائلًا في نظرنا إلى هذا العالم، بل ونظرنا إلى «والتر» ذاته، فرؤية ضحايا «جوستاڤو» و«مايك» يتقبلون مصائرهم في سلام وخضوع مثل «زيجلر» و«ناتشو» تضفي صبغة قدرية على هذا الرجل المحتضر الّذي يتشبث بحياته بكل هرولة واضطراب، ولا يتراعى عن إزهاق الأرواح في سبيل تمسكه بحياته، وهذا مثالٌ على ما فعله Better Call Saul ليتحول من خانة المسلسل المنبثق إلى سردية متعمقة تعيد استكشاف العالم، وتعطي للشخصية الرئيسية في المسلسل الرئيسي طبيعة قدرية ملائمة وعادلة إلى حدٍ كبير.

الجنس

يعاني الجنس من غيابٍ مثيرٍ للاهتمام في الجيليڤيرس، ولنوضّح قبل أن يعصر القارئ رأسه ليتذكر واحدًا من المشاهد الحميمية القليلة نسبيًا في المسلسلين أن الغياب هنا يعني خلو هذا العالم -على اتساعه وتعدد شخصياته- من شخصية يحركها الجنس أو تستعمله بشكلٍ ما، مثل المرأة الـ «فيم فاتال» كما في أفلام النوار القديمة، أو رجل العصابات زير النساء مثلًا، فالجنس في هذا العالم هو لعبة من هم ليسوا في اللعبة، مثل بطاقات البيسبول المثيرة للسخرية الّتي اهتم لها المدعو «داني» كثيرًا، أما محركو الأحداث أو من هم في اللعبة فهم يستعلون على الشهوات والعواطف، فتبدو دومًا شخصياتهم صلدة وقاحطة ومقفرة كقفر بيئة «ألبوكركي» الصحراوية، ومن هذا المنطلق سيبدو تحذير «جوستاڤو» لـ «والت» بأنه ينبغي عليه ألا يثق في المدمنين، مجرد حالة خاصة من حالة أعم، حالة تنبذ جميع العواطف والشهوات على حد سواء.

ورغم أن الغياب صفة سلبية بالتعريف، أي صفة انعدام وليست صفة تتجسّد في شيء، فإن بإمكاننا الزعم بأن هذا الغياب قد تجسّد بالفعل في مشهدين، وتحديدًا في الموسم الأخير من Better Call Saul: الأول هو مشهد تعرف «لالو» على أرملة «ڤيرنر زيجلر»، فقد كانت الفرصة مواتية للأرملة الوحيدة المكتئبة أن تدعو أليفها الجديد إلى منزلها لكنها لم تفعل، وقد سنحت الفرصة للنص للجوء إلى هذا الخيار بالفعل وما من شيءٍ ليتغيّر عندئذٍ، وكان ليحافظ كذلك على المطاردة الهيتشكوكية وثيمة الكلب الظريفة الّتي نجح في خلقها، لكنه كان ليشذ وقتها بشكلٍ سافر عن إيقاع المسلسل ونسقه، وكان ليخالف إحدى مكونات نَظم العالم، فالجنس لا يُستعمل هنا على مثل هذا النحو الركيك. والمشهد الثاني هو مشهد لقاء «جوستاڤو» بالساقي «ديڤيد» حين جرى بينهما حوارٌ قد ينم عن انجذاب بينهما، ثم بعدما انبسطت ملامح لورد المخدرات التشيلي قليلًا سرعان ما عادت سيرتها الأولى قاحطة وجدباء، قبل أن يرحل متذكرًا أن عليه ألا ينجرف إلى مثل تلك الأمور، وأن عشيقه السابق «ماكس» قد سبق وأن راح ضحية دخوله أرضًا لا ترتضي بغير السمو فوق مثل تلك المُتع والعواطف.

وإن كان هذا عن غياب الجنس، فإن المشاهد الجنسية القليلة المتناثرة وسط 125 حلقة دومًا ما ترتبط بمعنى القوة والسيطرة، أو على النقيض بالضعف والبؤس، فباستثناء علاقة «چيسي» و«چين» الّتي شدّد المسلسل على اختلافها وعدم انتمائها للعالم المحيط، سنجد أن كل المشاهد والإحالات الجنسية هي دومًا مرتبطة بالقوة أو الضعف، ففي أولى حلقات Breaking Bad على الإطلاق نرى «سكايلر» تمارس مع «والتر» جنسًا يدويًا مثيرًا للشفقة، قبل أن يعود في نهاية الحلقة بعد دخوله «اللعبة» ويمارس معها جنسًا حقيقيًا عفيًا، وبالمثل يمكننا استرجاع كل اللحظات الحميمية الّتي جرت بين «چيمي» و«كيم» لنجد أن كلها عقبت لحظات انتشاء مفعمة بالقوة وسحر الانتصار، فتارة بعد نجاح واحدة من ألاعيبهما، وتارة بعد أن دافعت «كيم» عن «چيمي» أمام «هوارد» في إحدى صولاتها، ولربما مثل تلك اللحظات كانت تشعرها بأنها إزاء شيءٍ ذادت عنه وحاربت لأجله فباتت تستحقه وتمتلكه، ولربما تُرجِم عندها هذا الشعور بالامتلاك إلى صورة رغبة جنسية عنيفة.

وعلى النقيض من الارتقاء في مثال «والتر» مع «سكايلر» يمكن أن يستخدم الجنس كذلك للتعبير عن الانحطاط والتدهور، وهو ما حدث في حالة «كيم ويكسلر» الّتي تعمّد المسلسل إبراز مشهدها الجنسي مع صديقها الجديد في حياتها اللاحقة بفلوريدا في صورة منفرة ومبعثة على التقزز، لا سيّما أنه جاء في إطار مونتاچ متكاملٍ لا يعبّر إلا عن سخف الحياة الجديدة لمحامية ألبوكركي السابقة. وباختصار فإن تناول الجنس في عالم «جيليجان» يذكرنا بعبارة «أوسكار وايلد» الشهيرة: كل شيء في العالم عن الجنس إلا الجنس، الجنس عن القوة. غير أن المسلسل على الأغلب لا يتفق غير في الشطر الثاني من المقولة، أما الشطر الأول فهو يعاكسه تمامًا، فليس كل شيء هنا عن الجنس على ما يبدو، بل متسامٍ عليه ومتنازلًا عنه إلى طبقة دنيا من البشر.

الدين

الدين في عالم Breaking Bad مثل الجنس، ومثل بطاقات البيسبول، يعاني من غيابٍ بارز لأنه أيضًا لعبة لمن هم ليسوا في اللعبة، بل إن بطاقات البيسبول والعلاقة العاطفية الّتي كوّنها «داني» معها يجوز اعتدادها تجربة دينية على نحوٍ ما، فهي تذكرنا كثيرًا بالشكل الديني الطوطمي لدى المجتمعات البدائية الّذي لم يكن سوى اصطفاء عنصرٍ من العناصر المحيطة ليُصبغ بصبغةٍ ميتافيزيقية تجعله يسمو فوق قيمته المادية الطبيعية. ولنترك التعبير المجازي عن الدين لننتقل إلى المرتين الّلتين تطرق فيهما الجيليڤيرس إلى الدين بشكل مباشر، وهما مرتان إحداهما تناولت الدين بالمفهوم المسيحي الأوروبي الحديث، والأخرى كانت بصدد الدين القَبَلي أو البدائي إن جاز التعبير، وكلتاهما اتفقتا على الصورة الهزلية والتأكيد على عدم انتماء الاعتقاد في وجودٍ علويّ -باختلاف تعريفه ونوعه- للعالم الّذي تدور به الأحداث، بنفس قدر عدم انتماء شخصٍ يعتبر بطاقات بيسبول بمثابة والده إلى هذا العالم الجاد والغليظ.

التوأمان يصليان لإلهة الموت

المرة الأولى الّتي عبرت عن الدين المسيحي تمثلت في «جونزو» الضخم المتديّن من بين رجال «توكو سالامانكا» الّذي انزعج من ترك جثة زميله في العراء على اعتبار أن هذا «ليس مسيحيًا» فانتهى به المطاف وهو يحاول انتشاله في الظلام -ليعطيه تكريمًا أو تأبينًا أفضل- بانسحاقه تحت كومة من السيارات الخردة ليموت من إثر النزيف، وهو مصير سيثير ضحك «هانك شريدر» خلال استكشافه لمسرح الجريمة، وهو رد فعل ساخر يجسّد عدم ملاءمة الإيمان بالمُثُل الرمزية أو الطقوس لمثل هذا العالم. المرة الثانية عبرت عن الدين القَبَلي البدائي، وقد أتت مع عرض أول ظهور لتوأمي آل «سالامانكا»، فيبدو إن كان ولا بد من ظهور نزعة دينية في صفوف هذه العائلة، فإن الشكل القَبَلي سيُعدّ أكثر مُلاءَمة للعائلة الّتي تقدّس مفهوم العائلة، أو تقول بمبدأ «العائلة هي كل شيء» كما ذكر كبيرها «هيكتور»، وفي هذا المشهد سيؤدي التوأمان طقس الزحف باتجاه «سانتا مويرتا» إلهة الموت المكسيكية، على أمل أن تعينهما في الانتقام لابن عمهما «توكو» بقتل «والتر وايت»، وسيكرّر المسلسل مبدأ السخرية من الإيمان بالماورائيات حينما سيُعيد أحد الأخوين الزحف مرة أخرى، لكن هذه المرة مقطوع الساقين، يقطر ما بقى منهما دمًا على أرضية غرفة العناية المركزة، كما أن هذه المرة سيكون الزحف بتجاة «والتر وايت»، أي الموت الحقيقي، وليس الفكرة الميتافيزيقة الممثّلة في الإلهة المكسيكية.

وعلى سخرية الجيليڤيرس من فكرة الإيمان الغيبي والاعتقاد بالميتافيزيقا، فلا يمكن إنكار أن رمزياتٍ دينية قد وجدت لها مكانًا في هذا العالم، مثل تصوير الطبيعة اليسوعية في شخصية «ناتشو ڤارجا» في ثيمات مثل عشائه الأخير ومعاناته وتضحيته لأجل خلاص والده، لكن الرمز الديني الأبرز في حبكة عالم جيليجان هو فكرة الحياة الأخرى، فالشخصيات الأربعة الرئيسية في المسلسلين كانت تتمّات حكاياهم أشبه بالخروج من عالم وانتقال إلى آخر بالمعنى الميتافيزيقي للفظة الانتقال، وقد تم هذا الانتقال في ثلاثٍ من الحالات الأربعة عبر شخصية «المُخفي» أو «إد جالبريث» صاحب أعمال المكانس الكهربائية، الّذي يبدو كما وأنه ملاك العبور إلى هذا العالم الآخر، كما لن نجد تكلّفًا في إرجاع غياب «إد» عن مصير الشخصية الرابعة «كيم ويكسلر» إلى وفاة ممثل الشخصية القدير «روبرت فورستر»، فهذا لن يخالف ما رأيناه مسبقًا من تكيّف النص مع الظروف والمتغيرات. وما يهمنا هنا أن سمة مميزة لإتمام مصائر الشخصيات الرئيسية هي التفاعل مع «الحياة الأخرى» بما يتلاءم مع طباعهم وما يحقق لهم ما يمكن اعتباره عدالة شاعرية، فـ«چيسي» هو صاحب النهاية الأسعد من بين الأربعة، فقد قبلته الحياة الأخرى قبولًا مناسبًا للتطهير الّذي تجرّعه في سجنه لدى عصابة «چاك»، على النقيض نجد «والتر» وقد لفظته الحياة الأخرى وحملته على العودة إلى العالم مرة أخيرة، أما «سول» فهو من لفظ نفسه من حياته الأخرى لا العكس حينما غلب طبعه تطبّعه، فحمل نفسه مجددًا إلى فوق الأرض، وحينها فقط اختار أن يئد شخصية «سول» إلى الأبد، وأخيرًا «كيم» الّتي قضت أيامًا وسنين في جحيمٍ باردٍ وقاسٍ ورتيب، ثم تطهّرت باعترافها بأفعالها إلى زوجة «هوارد»، وحينها فقط تمكّنت من استعادة قبسٍ من سابق أيامها بتطوّعها في مركز خدمات قانونية.

خاتمة

لقد حقق ما صنعته أيدي «فينس جيليجان» و«پيتر جولد» وشركاهما نجاحًا جماهيريًا ونقديًا، وقد قدّم هذا العمل بالفعل نموذجًا للجودةٍ في الكتابة التلفزيونية بقى وسيبقى على الأرجح ذا مكانة في الثقافة العامة لسنين طويلة، غير أننا رأينا أن عملية الكتابة تهادت كثيرًا في ريح من العشوائية والظروف المتغيّرة، أي أن هذا العمل لو أعيدت كتابته بظروفٍ مغايرة لتلك الّتي كانت ولو بقدرٍ ضئيل، لاختلف بشكلٍ جوهري، وبالتالي فإن جودة النص هنا لا يجوز إيعازها بأكملها إلى حبكة كانت لتتبدّل في مواضع كثيرة، وإنما ينبغي أن يُرجَع قسمٌ كبيرٌ من قيمة العمل إلى ما لا يتغير، وهو القواعد الّتي عمل من خلالها، والنسق المجرّد الّذي بناه وفرضه على نفسه، ليخرج لنا في النهاية نسيجًا متناغمًا ذا صفة فريدة مهما تبدّل وتغيّر في طيّاته، وهو ما ساهم في أن يعلق بعقول المشاهدين، حتى وإن غاب عن ألسنتهم لصعوبة تحديد ماهيته وتمييز صفته، وكان ليشعرهم بصدعٍ ملحوظ وميلٍ عن اللحن العام لو شذ أحد المواضع عنه، حتى وإن لم نشعر بوجوده شعورًا مباشرًا لأنه على قدرٍ من التجريد، ولكنه يبقى في النهاية نسقًا يستحق التأمل والتحليل، جنبًا إلى جنبٍ مع الأحداث وتطور الشخصيات، إن لم يستحق بالفعل أن يحظى بالفضل الأكبر.

هوامش

[1] مسلسل Breaking Bad، الموسم الثاني، الحلقة الثامنة بعنوان Better Call Saul.

[2] في فلسفة اللغة، د. محمود فهمي زيدان، الفصل الخامس: نظريات المعنى، ص 123.

[3] التصميم العظيم، ستيفن هوكنج وليوناردو مولدينوو، الفصل الثاني: سيادة القانون، ص 44 و45.

[4] مسلسل Breaking Bad، الموسم الثالث، الحلقة العاشرة بعنوان Fly.

[5] مسلسل Better Call Saul، الموسم الخامس، الحلقة الرابعة بعنوان Namaste.

[6] موقع IMDb نقلًا عن تصريحات لڤينس جيليجان.

[7] تأملات في سينما الكبار، محمد الفقي، مقال تحت عنوان: سرجيو ليوني… ما وراء الخير والشر، ص 143-145.

[8] محاضرة منشورة للناقد توني مكيبين، بعنوان: النظرية البنيوية.

[9] تصريحات للممثل بوب أودينكيرك.

[10] تصريحات لڤينس جيليجان.

[11] تصريحات لڤينس جيليجان.

Visited 3 times, 1 visit(s) today