“بولينا” ورحلة البحث عن الذات
بعض الأفلام يمكن أن نعود إليها ليس بالمشاهدة وحدها ولكن بالكتابة عنها أيضا لمجموعة من الأسباب قد تكون المتعة التي توفرها للمتلقي أولها غير أنها أبدا لن تكون السبب الوحيد وفيلم “بولينا” (2016) من هذا النوع الجذاب.
هذا فيلم رومانسي عذب عن الموهبة والحب والجسد، عن الموت والحياة، عن الوطن والاغتراب، عن الهوية والآخر، أخرجه بسلاسة وإتقان المخرجان فاليري مولر وأنجلين بريجوكاج عن سيناريو لفاليري مولر نفسها اقتبسته عن نص للفرنسي الشاب سباستيان فيفاس بعنوان “بولينا”. مثّلت دور بطولته تلميذة أكاديمية الباليه في سان بترسبورج الراقصة أناستازيا شفتسوفا وهي بعدُ في التاسعة عشر.
الراقصة الروسية الواعدة التي لم تعرف في حياتها إلاّ الرقص وبعض صعوبات العيش مع أسرتها التي كانت مدانة بحيث يتم اقتحام المنزل من طرف الدائنين لإجبار أبيها على الدفع. من إيمانها الطفولي بنفسها وتشجيع أبيها وأسرتها سخّرت بولينا الصغيرة وقتها للرقص وتعلمت الكثير بسبب الصرامة التي أبداها أستاذها بوجينسكي.
بينما تستعد للانضمام إلى فرقة البولشوي المرموقة تحضر بولينا عرضاً للرقص المعاصر الذي يقلب الكثير من المفاهيم والأدوات الفنية التي تعودت عليها بشدة، إنها صدمة فنية تضرب كل شيء تؤمن به. لذلك تقرر ترك كل شيء وتذهب إلى إكس بروفانس للتدرّب مع مصممة الرقصات الموهوبة ليريا آلساج (قامت بالدور جولييت بينوش التي تحوز في رصيدها على جوائز أوسكار وسيزار وكان) محاولةً إيجاد طريقتها الخاصة.في أحد دروس الرقص المضنية تقول لها ليريا: “أنا لا أريد أن أرى راقصة جميلة، أنا أريد أن أرى بولينا ترقص”. وهذا ما كانت تريده بولينا نفسها.
مشاهد عديدة تظهر الدوامة التي عاشتها الراقصة الجميلة في فرنسا، حيث الغربة، الحاجة إلى المال التي تضطرها إلى عدم دفع ثمن غرفة بسيطو في الفندق ومنعها من البقاء فيه لليلة جديدة، الاضطرار إلى العمل في بار يعج بالزبائن بعدما صدّت في وجهها الكثير من الأبواب التي طرقتها. النوم الكثير الذي صارت تهرب إليه بعيدا عن الحياة القاسية التي وجدتها أمامها وانهيار أحلامها. ربما الإعلان الذي وضعه أحدهم (الراقص كارل) يبحث فيه عمن يقاسمه شقته هو ما يعيدها إلى السكة الصحيحة. هو الذي يوفر لها المبيت كما يشجعها على العودة إلى الرقص والإيمان الجدّي بموهبتها رغم الفروق الكبيرة بين ما تعلمته في بلادها وما يجب أن تفعله للنجاح في فرنسا.
قد تكون أول مشكلة في “بولينا” أنه فيلم يتوقع المشاهد الكثير من أحداثه ونهايته. فنانة شابة تبدأ رحلة البحث عن الذات وتتلقى العديد من الصدمات أو الصعوبات في طريقها، تنهزم وتتراجع ربما، لكن في الأخير تتقوّى وتحقق هدفها. عشرات الأعمال الفنية قدمت هذا النوع من الأفكار، فما الذي يجعل هذا الفيلم جميلا يستحق المشاهدة في رأينا؟
في رأيي فإنّ الرقصات أبدع ما في العمل خاصة الرقصة الأخيرة بينها وبين كارل (قام بأداء الدور ببراعة الوسيم جيرمي بيلانغار وهو بالمناسبة راقص محترف خريّج قسم الرقص في أوبرا باريس) والموسيقى المرافقة. العزف على الكمان تحديدا كان في غاية الروعة. كانت الرقصة إضافة إلى تصميمها المبدع تنتهي بقبلة طويلة من الشابة والراقص وهي إلى جانب قبلة ساخنة سبقت هذا أكدت أن ما بينهما لم يعد فقط مشاركة في التدريب وحب للرقص ولكنه تعدى إلى حب متبادل أشعلته الموهبة التي يتقاسمانها معا. الجسد نصف العاري للراقص الذي يحيل إلى شبقية ما ويتحول إلى طاقة جنسية مشتعلة تقترب من مفهوم (الفحولة) ربما. صحيح أنّ الرقص يتطلب مواصفات جسدية معينة للبنت والشاب والاقتراب من الشكل الجميل في معظم الوقت لكن مع ذلك قد يكون اجتماع ثنائية الوسامة والرشاقة سببا لتمرير قصة حب بدأت ملامحها تظهر في مشهد عابر لكنها تأكدت مع المشهد الأخير حينما يرقصان والشفاه متلاصقة. قد يكون التدرّب على هذا المشهد قد أخذ وقتا ولكنه في كل الأحوال أبرع المشاهد وأكثرها تكثيفا وقد اختصر فيه الإخراج ما قاله في كل المشاهد السابقة له.
مشهد سابق يظهر هوس بولينا بالرقص وانصهارها فيه. عندما يجلس صديقها الفرنسي (قام بالدور نيلز شنايدر) الذي تعلم معها في روسيا ليفطر معها وهو خارج لتوه من دوش يضع منشفة بيضاء على نصفه السفلي بجسده المغري ووسامته الملفتة ويسألها أين ستذهب اليوم وهما في عطلة نهاية الأسبوع بينما تردّ بأنها ذاهبة لترقص. محاولة الإغراء الجسدي من شاب بمواصفات شديدة الجمال يدعوها لنزع ثيابها والذهاب إلى السرير تقابلها بولينا بـ “لا” وتغادر. هكذا إذن يتحول الرقص حاجة ملحة وأولوية قصوى تجبّ كل الأولويات، في المقابل لا نجد هذا عند صديقها هذا الذي يفترض أنّ لديهما الهدف نفسه.
هل يمكن أن ينطوي الفيلم على إيديولوجيا خفية تجعل من الفيلم دعاية ما لفرنسا بأنها بلاد الأحلام التي تتحقق؟ فليكن مادامت ليست مباشرة ولا تظهر في حوارات الشخصيات. لكنّ الفيلم يدعو للاجتهاد وعدم اليأس. إنه عمل جميل في حب الفن والحياة وعدم الوقوع بسهولة أمام مصاعب الحياة أو الخيبات الأولى. بولينا “درس” جميل للموهوبين من الشباب حيث أنّ الأحلام يمكن أن تتحقق فقط إن آمنا بها وبأنفسنا.
* ناقد من الجزائر