النقد وارتكازه بين المعاني والفنيَّات
يظلُّ النقد بمُختلَف أصنافه يؤدي دورًا عميقًا للغاية في دوائر المجتمع الواعية بدرجاتها. وكي يقوم النقد بهذا الدور يجب أنْ يتصف بفاعليَّة داخليَّة في بنائه واتجاهاته. وفي هذا الإطار تُطرح عدد من القضايا، من بينها ارتكاز النقد في اتجاهه بين المعاني في العمل الفنيّ وبين فنيَّات العمل نفسه. وهذا النقاش ينطبق على كافة ألوان النقد الأدبيّ والفنيّ.
يسلك النقد عددًا من الطُّرُق في اتجاهه العامّ لمُعالجة أيّ نصّ أو عمل فنيّ؛ والغالب في تجارب النقد الاعتياديَّة إمَّا الارتكاز على المعاني وإمَّا الارتكاز على الفنيَّات التي اعتمد عليها العمل. علمًا بأنَّ هناك عددًا من الطُّرُق يسلكها -أو له أنْ يسلكها- النقدُ غيرَ هذين الاتجاهين، كما أنَّ هناك مناهج لا تتقيَّد بهذه الثنائيَّة. وهناك مستويات متدنِّية من النقد يتلخص عندها تعريفه بتلخيص العمل الفنيّ بأحداثه للقارئ أو المُتلقِّي وهذه لا تدخل في نطاق العمل النقديّ لسلوكها المُناقِض لحقيقة العمل أصلاً.
وسنحاول معالجة هذه الظاهرة عن طريق التعريف بها ابتداءً، وبيان عُمق جذورها، ثم بيان مزايا وعيوب الارتكاز على أحدهما دون الآخر، انتهاءً بمرجعيَّات هذا الارتكاز ومُحدِّداته.
يعني الارتكاز على المعاني في النقد محاولة التجربة النقديَّة إبراز المعاني التي جاءت في العمل -أيْ في طيَّاته وبين ثناياه- أو التي جاء بها العمل -أيْ عن قصد واستهداف-. وتقع هذه المحاولة بين نطاقات التفسير المُباشر الذي قد لا يكون عليه كبير اختلاف بين نظَّار العمل الفنيّ أو ناقديه، وبين نطاقات التأويل الذي ينحو بعيدًا عن الفهم الاعتياديّ المباشر للنصّ أو العمل. وما بين هذيْن النطاقَيْن نطاقات أخرى متعدِّدة تتأرجَّح بين هذا وذاك أو تتشرَّب من أحدهما لصالح الآخر. وكلُّ هذه النطاقات تحتمل إثبات ما في العمل من معانٍ أو استنطاقه عن معانٍ لمْ يُرِدْها.
ويعني الارتكاز على الفنيَّات في النقد محاولة التجربة النقديَّة إبراز منهجيَّات العمل الفنيّ العُظمى والصُّغرى، ومذهبه الفنيّ أو الأدبيّ. وتقع -هي الأخرى- بين نطاقات الاستخدام الفنيّ الاعتياديّ؛ مثل إبراز جوانب الشخصيَّات والسرد و…. في الرواية، أو إبراز الحوار وأسلوب الإخراج و… في المسرح والسينما. وبين نطاقات الاستخدام الفنيّ المُعقَّد وغير القابل للفهم بأسلوب الفهم الاعتياديّ؛ مثل أنظمة السرد بالغة التعقيد في بعض الروايات الحديثة، ومثل نظيراتها في الفنّ السينمائيّ وكيفيَّة تعبير الأسلوب الإخراجيّ عنها. وكلُّ هذه النطاقات تحتمل إثبات ما هو موجود، أو إلصاق العمل بما ليس فيه أو محاولة تكييف غير المقصود على أنَّه مقصود.
هذه -في الغالب- هي الطرُق التي يسلكها النقد المُتعامل مع الجمهور. وفي السلوك النقديّ الاعتياديّ -خاصَّةً في المستويات العاميَّة أيْ التي تُقدَّم إلى المُتلقِّين كافَّةً دون تمييز لمستوى التلقي- يغلب الاتجاه إلى معاني العمل ويكثر البُعد عن فنيَّات العمل. حتى إنَّ كثيرًا من التجارب النقديَّة تقدم معاني العمل دون التنويه على فنيَّاته أصلاً وتعتبر أنَّ هذا وحده قيام بواجب النقد.
ولمعرفة عُمق القضيَّة التي نطرحها، وللتأكُّد أنَّ الحديث فيها يحتاج إلى أكثر من مقال بالقطع؛ لنا أنْ نسأل سؤالاً: هل يمكن في الأصل الفصلُ بين الاتجاهَيْن في العمل الفنيّ؟ وكم هو سؤال مُعقَّد للغاية؛ فإنَّه يأخذنا إلى تصورات شتَّى منها وضع العمل الفنيّ موضع العُملة ذات الوجهَيْن: المعنى والفنّ.
كما يحتاج أيضًا إلى توضيح المعنى داخل إطار العمل الفنيّ، وهل هو المعنى العامّ الذي يناقش في النطاق العُمُوميّ للمعاني والأفكار أمْ أنَّ “المعنى” في العمل الفنيّ مُغاير للمعنى في السياق العامّ؟ وعليه تتبيَّن حقيقة ارتباط المعاني بالفنيَّات في العمل الفنيّ عمومًا؛ حيث تزداد قيمة العمل الفنيّ بتفنُّنه في تضفير المعاني والفنيَّات وصُنع بناء خالص جديد يصلح أنْ يطلق عليه تصنيف “عمل فنيّ”.
كما تتعلَّق هذه القضيَّة أيضًا ببعض المذاهب الفنيَّة؛ التي أبرزها في هذا الجانب مذهب واتجاهات “الفنّ للفنّ”. وجميعها تُقلِّل من قيمة حمل العمل الفنيّ للمعاني أصلاً أو للمعاني كما يعتاد الناس رؤيتها ومناقشتها، كما أنَّ رؤيتها للمعنى هي رؤية تطابُقيَّة مع الفنّ نفسه مبدأً ومنهجًا؛ مِمَّا يعني وجوب مُعالجتها بآليات معالجة خاصَّة غير التي نعالج بها النصوص العاديَّة أو الأعمال المعروضة. هذان الجانبان وغيرهما يؤكِّدان أنَّ القضيَّة عميقة وتستحق النقاش المتوالي والمُكمِل بعضه بعضًا كي نصل إلى فهم لحقيقة النقد مبنيٍّ على فهم لحقيقة العمل الذي يعالجه بنقده.
لكنْ عند الاقتصار على رؤية هذيْن المُرتكزَيْن لمعرفة القيمة في هذا السلوك نجد أنَّ للارتكاز عليهما مزايا وعيوب. علمًا بأنَّ هذه المزايا تعتمد على أنْ تكون التجربة النقديَّة صحيحة واعية بنفسها بالعمل الفنيّ ومُفرداته، وبالمعاني التي يمكنها حمله. أمَّا إذا كانت التجربة النقديَّة على غير هذا فهي تجربة شائِهَة منقوصة لا تدخل في نطاق المناقشة أصلاً.
وأكبر مزايا ارتكاز العمل على أحدهما ما يوفره العمل النقديّ من عُمق في تناول الجانب الذي اختاره؛ ولا شكَّ أنَّ إفراد العمل النقديّ بمعاني عمل أو فنيَّاته يضمن مساحة أكبر كفايةً لمناقشة ما جاء به، ومحاولة تعميقه وربطه بغيره من المعاني والأفكار، أو الفنيَّات الأصغر، أو مقارنتها بمعاني وفنيَّات تجربة أخرى تأثَّرتْ بها أم لمْ تتأثَّر. وهذا يفيد القارئ الذي يهتمّ بالجانب المُرتكَز عليه جدًّا، ويجد فيه وفرة ممَّا يريد القراءة عنه.
جعل المتلقي على وعي بمفردات الجانب المُرتَكَز عليه. ففي جانب الأفكار والمعاني تتجلَّى له الأمور كما لمْ يَرَها من قبل من خلال الوعي العام الذي تقدمه التجربة النقديَّة، من خلال المنظور الخاصّ للأفكار والمعاني الذي قدَّمته التجربة الفنيَّة المعالَجَة. وكذلك في الجوانب الفنيَّة التي يستفيد منها القارئ أكثرَ لخفائها -مُقارنةً بالجانب المعنويّ- عن معرفة القارئ بها -إلا إنْ كان ذا دراية بفنيَّات كلّ جنس فنيّ-.
وفي التركيز على الجانب الفنيّ خاصةً حضّ للقارئ أو متلقِّي النقد على رؤية جديدة للأعمال، رؤية سيركز فيها على عناصر فنيَّة غابت عنه ولمْ يكنْ يدرك إلا تأثيرها فقط دون معرفة كيف أثَّرت فيه. وبذلك يبدأ المران على ممارسة الفعل النقديّ -أو ما يشبهه- بنفسه.
أمَّا عن عيوب سلوك الارتكاز هذا فهي أكثر وأشدّ وأبعد أثرًا على المُتلقِّي -سواءً في تلقِّي العمل الفنيّ نفسه أو في التجربة النقديَّة-. ومن الممكن تلخيصها في الآتي:
النقص في رؤية العمل الفنيّ بصورته الكاملة. فليس العمل الفنيّ أو الأدبيّ معاني تُساق كما تُساق على ألسنة المتحدثين من الناس. وإنْ كان كذلك فما كانت له خصوصيَّة نُسمِّيه بها “عملاً فنيًّا”، ولقُلنا عليه كلامًا ولقُلنا على الكلام عملاً فنيًّا. وفي الجانب الآخر ليس العمل الفنيّ فنًّا بإطلاقه مُجرَّدًا عن المعنى؛ فإنَّ نطاق التعبير الفنيّ يُولِّد المعاني من نفسه، بل من الممكن أنْ نقول عن التعبير الفنيّ إنَّه “مَهد للمعنى” كُلَّما تكثَّف أنتج معاني. هذا الإنتاج للمعاني يكون حتى إنْ لمْ يُرِد المُعبِّر (الكاتب، المخرج، المؤلف المسرحي…) من تعبيره معنى. أيْ أنَّ العمل الفنيّ عمل فكريّ رغم أنفه.
وهذا العيب الأول ينقلنا إلى عيب أكبر؛ وهو تشكيل الوعي العامّ للمُتلقِّين على أحد شقَّي هذه الثنائيَّة. فممارسة النقد بالمُرتكز على أحدهما بكثافة يؤدي إلى نقص في إدراك كيان العمل الفنيّ وجوهره لدى جموع الجمهور -كما في حالتنا العربيَّة في كثير من القطاعات-. وبذلك يؤدي إلى تشوُّه في فهمِ واحدٍ من أكبر مصادر صناعة الوعي في أيّ مجتمع.
فضلاً عن أنَّه تقصير في حق العمل الفنيّ نفسه الذي ليس له ذنب ليُعالَج مُبتَسَرًا منقوصًا؛ وهذا له أثر على الصانع في رؤية الآخرين لقيمة ما يعمل، وعلى دفعه إلى مزيد من الإبداع في الإنتاج. وأخيرًا يؤدي هذا الارتكاز إلى إرساء عُرف عامّ في الوسط النقديّ، وجعله سلوكًا ثابتًا راسخًا في أذهان المُقبِلين على العمليَّة النقديَّة والاحتجاج بالسلوك المتعارف عليه.
يُعزِّز من هذا أنَّ فئة النقد هي التي يلجأ إليها الواعُونَ بالقراءة من أنفسهم، أو التي تقدِّمها وسائل الإعلام على أنَّها أهل الاختصاص في الحُكم وإبانة الأمر. وهذا وحده يكشف جانبًا آخر من خطورة المُمارسة النقديَّة على تشكيل الوعي العام؛ فإذا كان ربُّ البيتِ بالوعيِ ناقصًا فشِيمة أهل البيت كلِّهِم الجهل -تماشيًا مع بيت الشعر الشهير-.
وإذا أردنا أنْ نحاول الإجابة عن سؤال: لماذا يتكوَّن هذا السلوك النقديّ الثنائيّ؟ فهذه الإجابة نفسها هي مرجعيَّات هذا السلوك ومُحدِّداته. ونستطيع أن نقف عليها في نقاط:
- جوهر النقد عند التجربة الناقدة؛ ولا شكَّ أنَّ كشف جوهر أيّ علم أو مجال فكريّ وبحثيّ، وتحديدَ حقيقته وماهيَّته ذو التأثير الأكبر كمُحدِّد على خط سير العمل في تفريعات هذا المجال. ولننظرْ مثلاً إلى المُهتمِّين بقضيَّة المذهب (الأدبيّ أو الفنيّ)، الذين يربطون بينه وبين فكرة العمل الأدبيّ ووجوده؛ كيف سيؤثِّر ذلك الاهتمام -الذي يُشبه التعريف الضمنيّ- على مسار نقدهم.
- اتجاه العمل الأدبيّ أو الفنيّ نفسه. والذي قد يكون عليه مُعوَّل في الاتجاه النقديّ بالتبعة، وفي هذه الحال لا يكون النقد هو قائد التجربة النقديَّة في الاتجاه العامّ، بل يكون مُسايرًا لاتجاه العمل الإبداعيّ. وهناك من الأعمال ما يحدِّد لك الاتجاه منذ البدء كتلك الأعمال المُغرقة في الفنيَّة تتخذها سندًا أوحد.
- ثقافة التجربة الناقدة الكُليَّة -أيْ العامَّة-، ومدى ما يتمتع به من علم بالتخصص الفنيّ الذي يعالجه واطلاعه على مستجدَّاته. كلُّ هذه الأمور التي تُوجَز في سطر هي أعمار فوق أعمار، وتترجَم في تجربة نقديَّة بشكل غاية في التعقيد والتراكُب لدرجة تحتاج هي الأخرى إلى التناول بالتحليل.
- وجهة التجربة النقديَّة في عمل واحد؛ حيث تذهب إلى تناوُله من حيث معانيه فقط لهدف تريد بلوغه، أو بالعكس تذهب إلى إفراد الحديث عن الفنيَّات لهدف أيضًا في نفسها. وقد يمتدُّ هذا إلى أكثر من تناول عمل واحد، رغم أنَّها في العادة لا تفعل ذلك.
- الوسيط الذي يُقدَّم من خلاله النقد (وسيط مرئيّ، أو مسموع، أو مقروء). وبالعموم حتى على اختلاف تنوعها فإنَّها تنقسم إلى نقد أقرب إلى الشعبيَّة وصولاً إلى القاع، ونقد أبعد إلى الشعبيَّة وصولاً إلى القمَّة. وفي ثنايا هذا السبب الكبير نجد رغبة الناقد من تحقيق الجماهيريَّة بالوصول إلى أوسع قاعدة تلقِّي فاهمة لما يقول لها تأثير كبير على السلوك النقديّ العامّ، وعلى مسألة الثنائيَّة هذه.
ولعلَّنا لاحظنا من سياق الحديث أنَّ التجربة النقديَّة هي أيضًا تجربة إنسانيَّة حُرَّة في تتناول الآخر -بالنسبة لها-، وأنَّ لها الحقَّ في الاختيار. ولا نطالب هنا بالحدّ من حريَّة اختيار التجربة النقديَّة، بل نطالب بترشيد السلوك العامّ حتى نصل إلى معالجة حقيقيَّة لائقة بالعمل الفنيّ، قادرة على إحداث حالة وعيّ حقيقيَّة تواكب العمل الفنيّ وتضيف إضافة فاعلة في الإطار الفكريّ الأكبر.