“المنزل الذي بناه جاك” وعندما تتحدث السينما عن الفن
سجل المخرج الدنماركي لارس فون تريير حضوره الفني سنة 2018 بشريط “المنزل الذي بناه جاك”، وهو الشريط الذي عرض خارج المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي، بعد أن كان المخرج شخصا غير مرغوب فيه نتيجة لتعليقه حول اليهود والنازية في كان 2011.
صرح لارس بأنه وضع في هذا الفيلم شيئا من ذاته، وهو بمثابة سيرة ذاتية، والمخرج بهذا التصريح يحاول أن يضع أفقا للمشاهدة، من خلال نسج روابط بينه وبين الفيلم وكذا بين معطياته البيوغرافية والذهنية وبين مسار “جاك” الشخصية الرئيسية، لكن هذا الربط قد لا يستوي بعد مشاهدة الفيلم لأن الفيلم يتحدث عن نفسه أكثر مما يتحدث عن مخرجه، وهو غني بمستويات متعددة تثري فعل القراءة والنقد. كما أنه غني بتقاطعاته مع مجالات فنية ومعرفية متنوعة تجعل منه فعلا منفتحا، ليس على محيطه فقط بل أيضا على الإنسان والتاريخ والأسئلة الوجودية الكبرى، ولذلك فإن عملية الربط بين الفيلم ومخرجه قد تعيق الانفتاح على قراءات أوسع.
يتمدد الفيلم أمامنا على طول 172 دقيقة، وعلى امتداد هذا الزمن نجد أنفسنا أمام شبكة من المواضيع المتنوعة التي تتراوح بين الفن والمرض النفسي والهندسة والتاريخ والدين والأسطورة، والواضح أن تبرير سلوك جاك هو بؤرة كل هذه المواضيع بحيث تبدو رغم تنوعها منسجمة في بوتقة واحدة وتعمل على خلق نفس الإحساس وعلى محاولة إلقاء الضوء على ما قام به جاك على طول الفيلم من عنف بطرق فريدة.
وفي هذا الصدد يمكن أن نتلمس بعض المناطق المضيئة والتي نجملها في:
الفن والحياة
يبتلع الفيلم مجموعة من الأعمال الفنية السابقة حيث نجد لوحات فنية لمشاهير مثل الفنان بول غوغان وخوان كري الذي يمثل الفن التكعيبي التحليلي، ونجد أيضا النحت من خلال مجسم بيت الجثث الذي هو في الأصل عبارة عن عمل فني قدمه المخرج في معرض دانماركي رفقة المهندس “بسمارك إنجل”، كما نجد أيضا مقطوعة لباخ من عزف “كلين غولد” والذي بالمناسبة شخصه بعض الأطباء كمصاب بمتلازمة أسبرجر،ولم يكتف الفيلم بذلك بل استعرض أعمالا سينمائية لنفس المخرج، كما استحضر الشعر عبر قراءة في قصيدة “النمر” و”الخروف” لويليام بليك ، وهي قصيدة توحي بأن العنف والجمال يلتقيان في الكثير من الأحيان، وهو ما دفع بجاك إلى التأكيد على أن طبيعة الفنان مثل طبيعة النمر الذي يعيش على الدم والقتل.
ومن الملاحظ أن العمليات الخمس للقتل والمختارة حسب جاك بشكل عشوائي تكشف ما وراء العنف عن أنماط سلوكية للفنان في مواجهة عمله الإبداعي، ففي الحادث الأول تعرض الضحية/ العمل الفني- نفسها إذ يقتحم جاك عالم القتل بدون تفكير وتخطيط مسبق بينما نجد العكس في الحادث الثاني حيث يراود جاك ضحيته ويستخدم مجموعة من الحيل كي يستطيع مباشرة ما يعتقد أنه عمله الفني، أمافي الحادث الثالث فإن جاك يتبع القواعد بشكل دقيق ويحاول أن يكون منهجيا وفعالا،فيرتب أولويات القتل حسب قواعد الصيد المتعارف عليها، بينما نجده في الحادث الرابع قد بدا أكثر تهورا ولامبالاة عبر اعترافه أمام الشرطة ونقله المتكرر للجثة ، أما في الحادث الخامس فقد اعتمد على التجربة محاولا معرفة كيف تستطيع رصاصة واحدة أن تخترق عدة رؤوس.
إنها نفس مواقف الفنان أمام عمل فني جديد. وهي أيضا تأكيد على أن العنف يشكل رافدا لكل الإبداعات الإنسانية، ولذلك ظل جاك يسعى إلى تحويل أجساد ضحاياه إلى أعمال فنية مبتعدا عن كافة المقومات الأخلاقية التي يعتبرها قتلا للفن.
إن نظرية جاك القاتل المتسلسل الذي يعتبر نفسه فنانا تقوم على ربط الجسد بالإبداع وعلى الإمكانات الهائلة التي يتيحها تغيير مادة الاشتغال مستدلا بمجال الهندسة المعمارية.
ومن الأكيد أن الفن الحديث أولى الجسد أهمية خاصة ونحن نتذكر “إيف كلاين” الذي حول جسد المرأة في بعض أعماله إلى فرشاة تتمرغ في الألوان وعلى اللوحة (1958) كما نجد شبيها بذلك في “الفن الجسدي” (1960)، لكن الأمر المميز لنظرية جاك هو دفع العلاقة بين الفن والجسد إلى مرحلة قصوى لا يمكن فيها تحويل الجسد لعمل فني إلا عبر عملية القتلومن هنا يمكن أن نستخلص أهم مميزات النظرية الفنية لجاك:
- تلازم الجمال والعنف
- تحويل الجسد إلى مادة للاشتغال
- الفن ليس منتوجا نهائيا فحسب، إنه يشمل أيضا أسلوب الاشتغال.
- الفن مسؤولية لابد أن يتحمل الفنان عواقبها
الدين والأسطورة
يحضر البعد الديني في الكثير من محطات هذا الفيلم رغم أن جاك قد صرح لفرجي أثناء رحلة النزول إلى الجحيم بأن “الدين أدى إلى إفلاس البشرية”، والجدير بالذكر أن صورة جهنم في الفيلم تتوافق وبعض الديانات والأساطير الإغريقية، لكن لفظ الجحيم استخدمه جاك أثناء الحادث الرابعكي يصف المدينة والبلد والعالم حيث لا أحد ينصت للآخر.
وقد ندفع بعض هذه التأويلات إلى مستوى أبعد إذ ينتابنا الفضول ونحن نسمع جاك وهو يتحدث عن خمس محطات على مسار 12 سنة بحيث إننا إذا قمنا بعملية قسمة 5/12 سنحصل على رقم يتشكل من رقم 6 مكرر عدة مرات ولاداعي للتذكير بما يحمله هذا الرقم من دلالات مرتبطة بالدين المسيحي وعلاقتها بالشيطان ومما يعزز ذلك أن فيرجي يصف جاك بـ”الشيطان المنحرف والمرعب “، ولعل صورة الجحيم التي قدمها تبدو أقرب إلى بعض التصورات الدينية والأسطورية بل إن بنية الفيلم تجعل النزول في المرحلة السادسة بعد خمس عمليات قتل، وهذا يذكرنا بنزول “إنييد” في الأغنية السادسة في الملحمة الرومانية إلى الجحيم، كما لا يفوت الفيلم أن يقدم لنا من داخل هذا الجحيم لوحة تماثل “قارب دانتي” لأوجين دولاكروا وهو بذلك يشير إلى تلك التقاطعات مع “الكوميديا الإلهية “لدانتي، وهذه اللوحة كانت محفوفة بمقطوعة “الآلام حسب القديس يوحنا” لسيباستيان باخذات الحمولة المسيحية الواضحة.
الإنسان والحياة
ونحن نشاهد الفيلم نتذكر “الطوطم والحرام” لفرويد، وفكرة أن القتل أساس الحضارة، وهي الفكرة التي تبدو أكثر وضوحا في أعمال رواد الأنثروبولوجيا التحليل ــ نفسية خاصة مع “كيزا روهايم” وهذا يستتبع بالضرورة تلك العلاقة الوطيدة بين العنف والفن، فلولا الأول لما كان للثاني وجودومن ثم نستطيع أن نضع خارطة أخرى لتحرك جاك، فهو لم ينزل إلى جهنم بل إلى أعماق نفسه حيث الألم والعذاب الحقيقين، إنه انتقال الى الماضي وإلى مناطق من ذاته يختلط فيها الواقع بالوهم والعقل بالجنون،
بالإضافة إلى ذلك فإن جاك يعاني من قلق وسواسي حاد يرتبط بالنظام، فهو لم يعاني كثيرا أثناء قتل المرأة لكنه عانى وهو يتخيل آثار بقع الدم على السجاد وعلى الحائط وعرض نفسه للخطر جراء هذه الخواطر والتهيؤات،وهناك مسألة أخرى تدفعنا إلى الاعتقاد بأن جاك لم يكن بمقدوره اختيار مسار آخر، إذ منذ الجريمة الأولى نلاحظ قطعتين نقديتين بوجهين مختلفين قرب أداة القتل، وكأن الصورة تخبرنا أنه لن يختار إلا ما هو مقدر له سلفا، نفس الصورة نجدها أثناء النزول إلى العالم السفلي حيث يبدو فرجي بلباس أسود وجاك بلباس أحمر داخل فقاعات دائرية تنزل بتثاقل تذكرنا بكرات القمار الحمراء والسوداء وما يرتبط بذلك من نتائج قد لا توافق الأمل الدافع للاختيار، ويبرز ذلك بشكل جلي عندما يقرر جاك تسلق الحجارة رغم علمه أن لا أحد نجا فهو يقرر الاختيار رغم علمه بالنتيجة فيسقط بالنار وكأن هذه النهاية قد عدّت سلفا.
الملاحظ أن جاك أصبح أكثر اطمئنانا وهو ينزل إلى الجحيم، بدا ذلك عبر بطء حركته وتعابير وجهه وغياب أعراض الوساوس ال كانت تنتابه، إنها لحظة اليقين ولم يعد بالإمكان الاستمرار بالقتل لابد من نتائج ومسؤوليات.
الفيلم كجثة
إذا كان موضوع الفن والإنسان هو المحور الأساسي في هذا الفيلم فإن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن مرتبط بمدى التزام الفيلم بالمعايير التي يضعها بنفسه، وما مدى حضور نظرية جاك حول الفن في هذا الفيلم باعتباره عملا فنيا.
نجد أنفسنا إذن أمام “وضع في الهاوية” حيث الفيلم مرآة لنفسه ولأفلام أخرى ولذلك قد نتلمس مجموعة من الإشارات المرتبطة ببنية الفيلم ومادته، ومن ذلك المزج بين نمطين مختلفين من الأشرطة والمواد البصرية حيث يعتمد الفيلم الأصلي على شريط بنسبة 2:39:1 وهي النسبة المتعارف عليها في العروض السينمائية بالقاعات الكبرى، لكنه يقحم أشرطة أرشيفية ذات نسبة 2:37:1 مما يشكل استفزازا للعين وعنفا بصريا خاصة عندما يكون مصحوبا بصور متعاقبة ذات أحجام مختلفةورسوم متحركة وإذا أضفنا إلى ذلك حركة الكاميرا التي تتسم بالسرعة والتنقل بين المواضيع والشخصيات بطريقة مباشرة فإننا قد نستخلص أن هذا الفيلم يطبق جزء من نظرية جاك على نفسه، ينضاف إلى ذلك تقطيع الفيلم إلى عدة أجزاء تتمتع باستقلالية نسبية وكأننا أمام جثة قد تم تقطيعها كي تكشف عن أبعادها الفنية،ومحاولة خلق حالة من القلق والتساؤل عبر إبراز العنف غير المبرر ضد نساء وأطفال.
إن “المنزل الذي بناه جاك” ليس فيلم رعب بل هو نقد ساخر للإنسان والفن والحياة.