“المعماري”.. العبقري اليهودي التائه الباحث عن الهوية والانتماء

كان من أهم ما عرض في مسابقة الدورة الـ81 من مهرجان فينيسيا السينمائي الفيلم الأمريكي “المعماري” The Brutalist ثالث الأفلام الروائية الطويلة لمخرجه برادي كوربت (٣٦ سنة). وكان الفيلم مرشحا لنيل جائزة “الأسد الذهبي” أو جائزة أفضل ممثل لبطله الممثل الأمريكي “أدريان برودي”. ولكنه حصل على جائزة “الأسد الفضي” لأفضل إخراج.

وقد اخترت أن أسمى الفيلم “المعماري”، لأن أي ترجمة عربية لكلمة “Brutalist لن تفي بالمعنى الصحيح المقصود، فليس المقصود هنا “المتوحش”، بل المهندس المعماري المتخصص في العمارة التي يطلق عليها Brutalism أو “العمارة المتوحشة” وأحيانا أيضا “العمارة الجلفاء”.

حوتتميز هذه العمارة بهياكلها الخرسانية وأسطحها الإسمنتية، وطابعها العملي تمنح الإحساس بالثقل والضخامة، وكثيرا أيضا، بالكآبة أو الرتابة، فهي لا تهتم بالجماليات والأصباغ الملونة، وغالباً ما تستخدم لأغراض جادة لمؤسسات تتسم بالصرامة كالوزارات الدفاعية أو الملاجئ ومخازن الأسلحة.

نموذج للعمارة المتوحشة كما في تصميم مجمع الفنون في الساوث بانك في لندن

يقول علاء حنيفي، وهو معماري وروائي مغربي، إن “العمارة الخرسانية المتوحشة” أحد أهم التيارات المعمارية في العالم، بل أكثرها جدلية وتأثيرًا. فمنذ نشأتها، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وانتشارها في شتى أرجاء المعمورة، ما زالت تشكل موضوعًا للعديد من النقاشات والانتقادات… ويعود أصل تعريف التيار إلى الترجمة الحرفية لمصطلح اللغة الفرنسية (Béton brut)، الذي يصف عملية ترك الخرسانة في شكلها الأصلي والقاسي، من دون إضافة أية صباغة أو صقل. وقد اشتهرت التقنية على يد عراب العمارة الحديثة في القرن العشرين “لو كوربيزييه”، الذي تحدث في كتابه الشهير “نحو هندسة معمارية” عن أساسيات هذا التيار التصميمي، مؤكدًا أنه يجب على المعمار الحديث أن يتم بمواد خام، وطبيعية، مبتعدًا عن زخارف وجماليات العمارة الكلاسيكية” (مجلة الفيصل- نوفمبر 2021).

وهذا الاتجاه المعماري رسخ بعد الحرب العالمية الثانية لتلبية احتياجات السكن في أسرع وقت وباستخدام مواد رخيصة، وانتشر كثيرا في المدن الأوروبية ثم أصبح صيحة حداثية انتقلت إلى أمريكا. وأنا شخصيا أرى أنه اتجاه قبيح، جعل من المباني كتلا أسمنتية مصمتة لا تتميز بالجمال الذي عرفت به العمارة الكلاسيكية أو النيو-كلاسيكية مثلا، لكنها عمارة “وظيفية” أي تؤدي الغرض منها فقط. وليس مهما أن يكون هذا الرأي متفقا مع ما يراه دونالد ترامب، فالموضوع ليس سياسياً، بل يتعلق بالتذوق الجمالي.

يطمح المخرج برادي كوربت إلى رواية قصة في سياق يشبه الأفلام الفنية الكلاسيكية الحديثة مثل فيلم “سيكون هناك دم”، ويتميز السيناريو الأصلي الذي كتبه بالاشتراك مع زوجته النرويجية مونا فيستفولد، بتفاصيل عديدة تجعل القصة تبدو كما لو كانت قصة وقعت فصولها لشخصية حقيقية، أي كما لو كان الفيلم عملا من أعمال السيرة. لكنه ليس كذلك بل هو من وحي الخيال. وقد اختار كاتبا السيناريو، جعل الشخصية الرئيسية ليهودي مجري من بودابست، نجا من معسكرات الاعتقال النازية، وتمكن من الهجرة إلى أمريكا بعد الحرب. ولا شك أن اختيار شخصية يهودية هو اختيار مقصود تماما، وله تداعياته الدرامية داخل الفيلم نفسه.

إننا أمام فيلم يتخذ بناء يبدو كلاسيكيا يسير إلى الأمام صاعدا نحو الذروة، من دون تعرجات كثيرة في الزمن، ولكنه يتوقف خلال السرد الصاعد أمام أكثر من ذروة في السياق. وهو يناقش أفكارا عدة، إلا أنه يعجز عن سبر أغوار أي منها، مكتفيا بالتلاعب الشكلي بها والدورا من حولها، ولا يخلو الفيلم من مشاهد بديعة خلابة على نحو خاص، ولكنها تظل مشاهد منفصلة.

المهاجرين الذين وصلوا الى جزيرة “إليس” في نيويورك

الفيلم مصور بتقنية الـ70 مم، ويتمتع بالتالي بصورة شديدة النقاء والبهاء، ويقسم المخرج فيلمه إلى أقسام تحمل عناوين مثل: “افتتاحية”، “لغز الوصول 1947- 1952″، “قلب الجمال 1955- 1960″، “خاتمة”، ثم يخصص استراحة لمدة 15 دقيقة في منتصف الفيلم الذي يبلغ زمن عرضه 3 ساعات و35 دقيقة، يتوقف خلالها العرض، فكوربت يطمح إلى استعادة أجواء الأفلام الكلاسيكية العظيمة، التي تفيض برومانسية الماضي، ليس من خلال قصص حب، بل المقصود رومانسية الحلم، البحث عن الكمال، طرق علاقة المبدع مع فنه، ومع ذاته، ومع الآخرين، كيف يقسو على نفسه، ويتحداها، يريد أن يتجاوز المسموح به، وأن يعلو بإبداعه مهما كان الثمن، وخلال ذلك يمر بمحنة التحقق، واكتشاف الهوية، وفي لحظات كثيرة يندفع في نوبات غضب أو يغرق نفسه في طوفان الإدمان، لدرجة الميل إلى تدمير الذات.

والفيلم بهذا المعنى، فيلم شخصية، هذه الشخصية المركبة الشديدة التوتر والتقلب، شخصية اليهودي المجري “لازلو توث”، يجسدها ببراعة الممثل “أدريان برودي”، مبتكرا لهجة إنجليزية خشنة كثيرا لدرجة أن بعض الكلمات التي تندفع من فمه، لا تتضح أحيانا. لكن الأداء المميز الذي ربما يدفع به على الترشح لنيل “الأوسكار”، لا ينحصر بالطبع في طريقته في الكلام، بل إنه يعبر عن تعقيدات الشخصية، من خلال الارتعاشات الجسدية، التقلصات، ومعالم الوجه التي تنطق بالمعاناة، بالمحنة، تنطلق أساريره أحيانا ويطير فرحا كالأطفال، أو ينغلق على نفسه في أحيان أخرى، ويغرق في الكآبة والشعور بالعجز، ويلجأ إلى تعاطي الأفيون لستر تمزقه وألمه خصوصا أنه يشير في البداية إلى أنه تعرض لإصابة في أنفه.

نراه أولا في القطار، حيث يأتينا على شريط الصوت صوت زوجته “إرزبيت” عبر الرسائل التي كانت ترسلها له من معسكر إيواء اليهود المحررين من المعسكرات النازية، فهي كما يقول لنا الفيلم، قد نجت من معسكر داخاو، وموجودة الآن، بعد الحرب مباشرة، مع ابنة أختها “زوفيا” (أو “صوفيا”).

نراه بعد ذلك في السفينة التي تقله إلى أمريكا، وكما هي العادة في مشاهد الهجرة، عند وصول السفينة إلى نيويورك يتطلع إلى تمثال الحرية الذي يتأرجح وينقلب كما لو كان يوحي بما سيواجهه من تقلبات في العالم الجديد. ويجب أن نتذكر هنا أن فكرة التلاعب بشكل تمثال الحرية عند وصول البطل لأول مرة، سبق أن صورها يوسف شاهين في “اسكندرية ليه”.

اللقاء بين لازلو وابن عمه أتيلا

في جزيرة “إليس” يصطف مع المهاجرين الجدد الذين لا يعرفون اللغة الإنجليزية، ثم يخرج صاحبنا لكي يجد في انتظاره ابن عمه “أتيلا” الذي يستقبله بود وترحاب، ثم يأخذه إلى بيت دعارة حيث يمارس الجنس مع احدى العاهرات دون أي حماس. وعند خروجه وعلى وجهه معالم القلق وربما أيضا، القرف، تقابله امرأة- قوادة عند الباب تقول له “لدينا أولاد أيضا”. لكنه لا يكترث!

يذهب لازلو إلى بنسلفانيا، ليجد أن “أتيلا” يمتلك الآن متجرا للأثاث، وقد اعتنق الكاثوليكية بعد أن تزوج من “أودري”- الأمريكية الشقراء، وغير اسمه، وأطلق على محل الأثاث (ميللر وأبناؤه) لكي يضفي عليه الصبغة العائلية في حين أنه وزوجته لم ينجبا، وهذه التغيرات كلها، تشير إلى رغبته في الاندماج في المجتمع الأمريكي عن طريق التنكر ليهوديته.

سيمنحه أتيلا مأوى، وعملا كمساعد له، وسيأتي إليهما ذات يوم شاب أرستقراطي هو “هاري”، يطلب تحويل غرفة المكتب في قصر والده إلى مكتبة فخمة، هنا يكشف لنا الفيلم عن طبيعة عمل لازلو عندما يسند إليه أتيلا المهمة.. ولكنه هل هو مصمم ديكور؟ كلا بل معماري كان مرموقا في بلده، وقد أتيحت له الآن فرصة لإخراج مواهبه.

يقوم لازلو فعلا بتحويل الغرفة إلى مكتبة حديثة تتميز بجاذبية حداثية خاصة، ويستخدم الكوة الموجودة في السقف في التحكم في الضوء بطريقة سحرية. ولكن بعد وصول والد هاري، السيد “هاريسون فان بيرين” (يقوم بالدور بعبقرية الممثل جاي بيرس) لا يعجبه الأمر، بل يغضب ويثور ويطرد لازلو وأتيلا، ويرفض الإبن دفع أي أتعاب لهما مما يدفع أتيلا إلى الاستغناء عن خدمات ابن عمه بل ويبعده أيضا بدعوى أن زوجته غير راضية بعد ما قم به من تحرش نحوها، وهو ما لم يحدث.

سيمر لازلو بفترة تشرد، يصطف في طوابير طالبي الخبز والحساء ويلتقي بـ”جوردون” الرجل الأسود الذي كان جنديا سابقا في الجيش، ويعمل معه كعامل بناء. لكن المفاجأة تحدث عندما يأتي إليه الأرستقراطي المتعجرف “هاريسون”، يعتذر ويعترف بأنه لم يكن يعرف قيمته وأنه بحث وتوصل إلى قيمته كمعاري مرموق، وقد نشرت مجلة “لوك” أيضا تحقيقا على صفحات عدة- يطلعه عليه- عن المكتبة التي قام لازلو بتصميمها في منزله.  يدفع له مكافأة مالية ضخمة عن عمله، ثم يرسل إليه سيارة، ويدعوه إلى الغداء، ثم يكلفه ببناء مجمعا في زمام ضيعته، يضم مسرحا كبيرا، ومكتبة وصالة للألعاب، وكنيسة.

من هنا يبدأ الفيلم في تصوير تلك العلاقة الغريبة بين الأمريكي الرأسمالي صاحب النفوذ الكبير الذي يمتد إلى السياسيين وأهل القمة، بل وسوف يرزوه الرئيس الأمريكي نفسه ذات مرة، وبين ذلك المهاجر، اليهودي، البائس، الغريب، القادم من الخارج، يبحث عن مستقر له، وعن فرصة لإطلاق مواهبه ليفرض وجوده في المجتمع الجديد.

يؤكد الفيلم هنا على فكرة “العبقرية اليهودية”، ويحتفي بها كثيرا، ويضع اليهودي العبقري الذي يستخدم عقله وعلمه ويديه ومهارته في التخطيط المعماري، مقابل الأمريكي الرأسمالي، وريث الأرض والبيزنس الذي لا نراه قط يمارس عملا حقيقيا. واليهودي هو الذي سيبني العمارة الجديدة في أمريكا. ولكن المشوار لم يكون سهلا، بل سيجد نفسه في بؤرة العداء.

يساعده هاريسون عن طريق أصدقائه السياسيين، مع محام يهودي متمكن، من استقدام زوجته التي نرى أنها أصبحت مشلولة، تتحرك بمقعد من مقاعد المعاقين، بسبب ما تعرضت له في معسكر الاعتقال النازي، وابنة شقيقتها التي أصبحت شبه صماء، لا تتكلم سوى نادرا، بعد ما رأته من فظائع مفترضة في “الهولوكوست”.

هناك تفاصيل كثيرة في الفيلم عن البناء، والمشاكل التي تنشا بسبب جنوح لازلو وراء تطلعاته وأحلامه، مما يؤدي إلى تجاوز الميزانية أكثر من مرة، وتطور كبير يحدث في العلاقة بين الرجلين، ويقف هاريسون باستمرار إلى جانب لازلو، رافضا مزاعم خصومه من المعماريين الذين يستعين بهم لمراجعة ما يقوم به لازلو.

أدريان برودي في أداء مرموق في دور اليهودي المجري

وفي أحد أجمل مشاهد الفيلم من حيث التصميم والبناء والصور، يذهب الاثنان في رحلة إلى إيطاليا، للاطلاع على مناجم الرخام في منطقة جبل كرارة الشهير، فهاريسون يرغب في الاستعانة بالرخام في تصميم المجمع، ويبدو المشهد الذي نطلع فيه على أشكال من الرخام الطبيعي المنحوت في الصخور، بألوانه المختلفة، فغي صورة شاعرية بديعة، ولكنه يظل مشهدا منفصلا عن سياق الفيلم، يمكن الاستمتاع به على حدة.

وسيقع قرب النهاية، حادث جلل يزلزل تلك العلاقة، حينما يكشف هاريسون عن وجهه القبيح، وكيف أنه بعد كل ما أبداه من تسامح وتساهل فيما يتعلق بتنفيذ المشروع، يسفر عن رغبة في السيطرة حتى لو بلغ الأمر درجة الاغتصاب، فهو يعتقد أن لازلو، أصبح ربما، من أملاكه الخاصة، مجرد عبد، يمكنه أن يفعل به ما يشاء. ولكن مشهد الاغتصاب، يقع والاثنان تحت تأثير السكر المبين، ومن دون أي مقدمات تشير إلى الميول الجنسية المزدوجة للرجل، فهل كان هذا مقصودا لتحقيق الفكرة الرمزية من وراء العلاقة بين السيد والتابع؟

ما يمكنني قوله أنه على العكس من مشهد الرخام في كرارة، يتسم إخراج مشهد الاعتداء الجنسي بالضعف والركاكة، سواء من ناحية الإخراج والتنفيذ والتمثيل، فهو مصور من بعيد في أجزاء مظلمة، ويبدو كما لو كان تحرشا خشنا من الاغتصاب الحقيقي الكامل، وهو ما دفع بعض المشاهدين إلى التساؤل عما وقع فعلا. وهو عيب الإخراج من دون أدنى شك. ومن العيب أيضا أن تستمر العلاقة بعد ذلك من دون أي احتجاج من جانب لازلو، لكن قرب النهاية، تنفجر “ليزبيت” فجأة وتنفعل وتوجه الاتهام الى هاريسون أمام صحبة من المدعوين على مائدة الغداء في قصره، واصفة إياه بالمغتصب!

لازلو معماري “يهودي” أولا ثم “أوروبي” ثانيا، ومهاجر إلى أمريكا ثالثا. والفيلم أزمة “الهوية”. كونه معماريا ناجحا ومتميزا وموهوبا يمكن أن يصبح نعمة ونقمة، فهو سينقل من أوروبا العمارة التي نشأت بعد الحرب إلى أمريكا، في أجواء عير مرحبة كثيرا..

جاي بيرس في أحد أعظم أدواره ونو دور هاريسون الأمريكي الأرستقراطي

وفي مشهد يفيض بالشعور بالغضب والحنق والحصار، يصرخ لازلو في زوجته: هم لا يريدوننا هنا”، أي أنه أصبح يشعر بالرفض من جانب المسيحيين البروتستانت الذين استعان بهم هاريسون لمراقبة عمله والتحكم في الميزانية، وهم يضعون الكثير من العراقيل في طريق لازلو، ويتهمونه بالإسراف بل والتسبب في وقوع حادث لأحد العمال، وبأنه لا يدرك ما يفعله، وهو سيتطوع بأجره تعويضا عن أي تجاوز في الميزانية، لكن شعوره بالاضطهاد يترسخ أكثر بعد الاعتداء الجنسي، فيغرق نفسه في الخمر.

 ماذا يريد الفيلم أن يقول؟ هل كانت أمريكا في ذلك الوقت تضطهد اليهود وترفضهم، خصوصا أننا بصدد فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حينما فتحت أمريكا أبوابها أمام استقبال اليهود الأوروبيين الناجين من معسكرات الاعتقال النازية؟

تبدو شخصية اليهودي هنا أكثر حساسية وبراءة ورغبة في تسخير مواهبه في الإبداع من أجل بناء العمارة الجديدة في أمريكا، لكنه يواجه بالرفض، ثم يصبح أيضا ضحية مواهبه، ويتعرض للاغتصاب من جانب الأمريكي المسيحي. لقد نجا من النازيين في أوروبا، لكنه تعرض للاضطهاد من جانب الأمريكيين. فهل كانت هذه الصورة صحيحة في الخمسينيات؟

هذه الفكرة هي الأكثر وضوحا في الفيلم الذي يظل يدور كثيرا حول أفكار أخرى لا ينجح في إشباعها قط كما أشرت، كما ينتهي نعاية غامضة غائمة.. ولكن ما يبقي عليه عملا أخاذا، هو التصوير البديع، والحركة، والتمثيل، بحيث يبدو أننا نشاهد عملا فنيا وتشكيليا قد يكون أقرب إلى الأوبرا السينمائية.  وهو عمل يمكنك أن تخرج منه بالاستمتاع بمشاهد محددة، ومناظر فيها الكثير من البذخ في العناية بتفاصيل الصورة، وتشكيل الفترة، والاقتباس من اللوحات التشكيلية، ولكنك ستظل أيضا تتساءل عن كل تلك الأهمية التي يمنحها لعمارة “قبيحة” الشكل!

كما ذكرت من قبل، ليس ممكنا أن يكون المهاجر يهوديا، اختيارا عابرا، بل هو اختيار مقصود تماما وله معنى واضح ومحدد في السياق. إنه ليس صهيونيا بل إنه لازلو، المثقف الليبرالي المتفتح، يسخر من فكرة الذهاب إلى إسرائيل بعد تأسيس الدولة الصهيونية خلال مناقشات حادة مع ابنة شقيقة زوجته “زوفيا” التي تأتي الآن، بعد أن تزوجت وأصبحت حاملا الآن، تخبرهما أنها وزوجها ذاهبان إلى إسرائيل، وتريد إقناعه بضرورة الذهاب إلى الوطن اليهودي الذي أصبح حقيقة الآن (في 1948). وفي الفيلم مشهد مكون من لقطات من الأرشيف يصور إعلان قيام الدولة اليهودية، وتأثير ذلك على يهود أمريكا. فالمعروف وقتها أن الكثير من اليهود العلمانيين رفضوا الذهاب إلى إسرائيل، وإن ظلوا يحتفظون حتى اليوم، بالولاء الدائم لها. بينما اقتنع البعض الآخر.

من بين هذا “البعض الآخر”، “إرزبيت” زوجة لازلو، التي ستقتنع في النهاية بالفكرة، وستحاول إقناعه بأن لا أمان لهم سوى في “الوطن”.. و”دعنا نذهب إلى الوطن” وهو التعبير المحدد المستخدم في الفيلم. أي أن الفيلم يرسل رسالة واضحة مؤداها أن اليهود خارج “وطنهم القومي”، سيبقون عرضة للرفض والاضطهاد من جانب “الأغيار”، وهي رسالة شبيهة بما ينتهي إليه فيلم “قائمة شندلر”. ولكنك لن تجد من يتطرق إلى مناقشة هذا الموضوع البارز في قلب الفيلم، في أي مقال كتب عن هذا الفيلم. فلا أحد يريد أن “يتورط” خصوصا في الوقت الحالي، لكن المخرج برادي كوربت كان واضحا في موقفه. هذا رغم اعترافي بتميز الفيلم كثيرا من حيث جماليات التصوير والتمثيل، وهو مماثل كثيرا للموقف نفسه من فيلم “شندلر”!

Visited 53 times, 1 visit(s) today