المركزية الثقافية الأوروبية في النقد السينمائي والانبهار بالآخر
أمير العمري
أعرف وأرى وأتابع منذ سنوات بعضا من الذين يكررون أن “النقاد السينمائيين في الغرب” يحللون الأفلام ويتعمقون فيها، على العكس من النقاد العرب الذين لا يفهمون ولا يحللون ولا يتناولون “سينمائيات الفيلم”، بل كثيرا ما يصل الأمر إلى القول من جانب الكثير من السينمائيين صناع الأفلام الذين لا يعجبهم نقد أفلامهم إنه “ليس لدينا نقاد متخصصون”.
وقد ظهر لدينا أيضا كاتب سيناريو مخضرم متخصص في كتابة سيناريوهات الأفلام والمسلسلات التجارية الذي كتب كثيرا يهاجم النقاد ويقلل من شأنهم ويصفهم بالجهل والأمية ويطرح نفسه باعتباره أستاذا في النقد إلى جانب كتابة السيناريوهات، لذا انطبقت عليه العبارة التي نحتها شخصيا منذ سنوات بعيدة وهي أن هذا النوع من كتاب السيناريو أو السينمائيين عموما “يصنعون الأفلام في النهار وينقدون أفلام الآخرين في الليل”!
نقاد الغرب عند هؤلاء السينمائيين، ”أبقار مقدسة” لا يجوز قط الانتقاص منها، فهي دائما على صواب، وهي الأفضل والأكثر تفوقا وتميزا وما يكتبونه لا يقبل الشك أو التشكيك، بينما نحن “ليس لدينا نقاد”، أو أن من لدينا منهم لا يفقهون ولا يدرسون ولا يعرفون ولا يحللون.
وكلها بالطبع أقوال مرسلة تنتمي لمنهج مريض نتج عن الهزائم المتكررة يمكن وصفه بإدمان “جلد الذات” وتعذيبها، والاستمتاع بإهالة التراب على أفضل من لدينا في جميع المجالات والتقليل من شأنهم دائما. والغريب أن من يكررون هذه الأقوال هم عادة من المثقفين والمشتغلين بالعمل الثقافي والفني.
هذه النظرة “المازوخية”، هي الوجه الآخر لفكرة أخرى متخلفة تتكرر على ألسنة الكثير من السينمائيين العرب في المشرق والمغرب، وهي أنه “ليس لدينا نقاد سينما”، هذا القول يقال فقط عندما تتعرض أفلام هؤلاء للنقد الشديد من خلال تناول جدي من جانب نقاد “يعرفون ويفقهون ويحللون ويدققون ويرصدون”.
لكن هذه النظرة نفسها تزول تماما وتتحول إلى مديح بل وإلى نوع من التباهي والتفاخر بما نشر، عندما يتعلق الأمر بكتابات سطحية من قبل من يمتدحون الأفلام “الرديئة” لهؤلاء المخرجين، ويغدقون عليها كلمات الإطراء والإطناب والغزل، والكثير منه يكون بكل أسف مدفوع الأجر أو مقابل خدمات وتسهيلات أخرى معروفة لمن خبر الوسط السينمائي. هنا يتغير الحال ويقال بكل جرأة وقوة “طبعا لدينا نقاد كبار أشادوا بفيلمي”!
والحقيقة أن نقاد الغرب ليسوا عجولا مقدسة، فمنهم من يكتب الانطباعات السطحية السريعة في صحف أو مواقع استهلاكية، ويمتلئ الكثير من هذه الكتابات بالأخطاء الفادحة في المعلومات حتى في ما يتعلق بسرد قصص الأفلام، كما يخلو معظمها من تناول “سينمائيات الفيلم” التي تشغل بال الكثيرين عندنا دون فهم معناها ومغزاها أصلا.
وتتسم كتابات كثيرة منها بالسطحية خاصة عندما تكون مخصصة لتناول أفلام من خارج السينما الغربية، نتيجة عدم فهم “الثقافة الأخرى” فإما يتم إضفاء العظمة على بعضها لأسباب سياسية وأيديولوجية ورغبة في الكيد لنظام سياسي معين، كما في حالة بعض أفلام المخرجين الإيرانيين المنشقين، وإما أن يتم تجاهلها تماما رغم تميزها لكونها لا تلبي أو تتسق مع النظرة المسبقة عن “الآخر” طبقا للمنظور الاستشراقي.
وتخصص مجلة “فارايتي” التي تصدر في هوليوود منذ عام 1905 صفحات متعددة لمتابعة كل ما يعرض من أفلام في العالم، سواء ما تم توزيعه داخل الولايات المتحدة أو ما يعرض في المهرجانات السينمائية المختلفة، وهي تكلف عادة فريقا من النقاد لمتابعة أفلام المهرجانات يوميا.
ورغم أن الناقد ضمن هذا الفريق لا يشاهد أكثر من فيلم أو فيلمين يوميا حتى يجد وقتا لكتابة مقاله اليومي، إلاّ أنه كثيرا ما يقع في الأخطاء، ويحشو مقاله ببعض الإحالات إلى أفلام أخرى دائما ما تكون أوروبية أو أميركية، فالمرجعية التي يستند إليها نقاد الغرب هي مرجعية غربية.
هم مثلا لا يستطيعون مشاهدة فيلم إيراني أو ياباني أو هندي أو كولومبي من دون العودة إلى البحث عن مؤثرات غربية في الأدب والفن، باعتبار أن صناع هذه الأفلام لا بد وأن يكونوا قد تأثروا بها أو نقلوا عنها.
هذه “المركزية الثقافية الغربية” تؤدي إلى الوقوع في الكثير من الأخطاء الناتجة عن عدم فهم جوهر ومكونات الثقافة المحلية التي ينطلق منها صانع الفيلم، لذلك ولأن هؤلاء هم الذين يسيطرون على اختيار الأفلام للمهرجانات، فهم يستبعدون عادة، الأفلام التي “لا تشبههم” أي تلك التي لا تستدعي إلى أذهانهم شكسبير وجيمس جويس وهيمنغواي وبيرانديللو وبريخت وغيرهم.
ونتيجة لهذه المركزية يصبح أهم ما يلفت أنظار هؤلاء النقاد المشادُ بهم في العقل العربي “السطحي” في “أفلام الشرق”، فقط صلتها “الفكرية” و”الوجدانية” بتكوين العقل الغربي ومفاهيمه وإسقاطاته الخاصة، أو ما تحتويه من قوالب فولكلورية، مع استثناءات نادرة، لذلك يتم رفض الكثير من الأفلام الجيدة وقبول الكثير من الأفلام الضعيفة.
ويمكنني القول في النهاية ومن خلال متابعتي الممتدة منذ أكثر من أربعين عاما إن لدينا كتابات في النقد السينمائي ترقى إلى أفضل مستويات النقد في العالم، سواء في المقال النقدي أو الدراسات البحثية أو الكتب، حتى لو اعتمدت على بعض المصادر والمراجع الغربية. أليس هذا ما يفعله نقاد الغرب أنفسهم؟ لكن مشكلة هذه الكتابات أنها تُكتب باللغة العربية التي لا يعترف بها نقاد الغرب، ربما لأنها لا تكتب من اليسار إلى اليمين. ولكن هذا موضوع آخر!