“خان تيولا”.. عندما يصير الرعب فلسفة

Print Friendly, PDF & Email

مثل معظم المخرجين الجدد يبدأ وسام المدني مشواره السينمائي بفيلم رعب وتشويق، يحاول أن يصنع فيه كل شيء على مستوى الفكرة والصورة في آن، خاصة أنه المخرج والمؤلف في الوقت نفسه.

خان تيولا فندق ذو طابع أثري يعود تاريخه إلى فترة الحرب العالمية الثانية، تبدأ الأحداث فى الأربعينيات لحظة تعرض الفندق لواحدة من غارات الحرب التي دارت في منطقة العلمين، وينتهي هذا الجزء بجريمة قتل دوافعها غامضة.

تنتقل الأحداث إلى الزمن الحالي، من خلال شخصية مراد داود (نضال الشافعي) الفنان التشكيلي الذى يدخل الفندق كنزيل جديد. ومنذ اللحظات الأولى تتحرك الكاميرا مع مراد لتكشف عن عالم غامض وشخصيات غريبة الأطوار، وتنقل للمشاهد أجواء مرعبة تنتمى إلى الزمن الماضي. ولا تجد من ملامح الحاضر سوى مكالمة صوتية يجريها مراد عبر الواتس، حتي مراد نفسه يتصرف وكأنه ينتمى إلى هذا العالم عدا كونه يشعر ببعض الغرابة في تصرفات نزلاء الفندق، والنظام الصارم الذى يريد مديرو الفندق أن يفرضوه عليه.

لا يعتبر “خان تيولا” فيلم رعب بالمعنى الدقيق، لأن السيناريو، فيما يبدو، لم يكن يهدف من الأحداث التي رسمها بغرابة، والمشاهد التي صاغها فى قالب من التشويق والغموض، إلى إخافة المشاهد وتحقيق نوع من الفزع أو الألم النفسي الذى ترمي إليه معظم أفلام الرعب. لكنه على العكس يحمل العديد من التساؤلات الفلسفية التي تدور حول فكرة الخلود، ما جعله يتكئ على مشاهد ذات مضامين فكرية، بعضها واضح ومباشر وبعضها يحتاج إلى التأويل، لعل من أبرزها المشهد الذى يشرح فيه صاحب الفندق (محمود البزاوي) فكرة الخلود من خلال نموذج “تيولا” الكائن البحري الذى يستطيع أن يعيش قروناً إذا لم يغادر البحر ويخرج إلى السطح، لأنه قادر على تجديد خلاياه فى الماء. وكذلك القصة التي يسردها حول السجين الذى ظل سنوات يحلم بالخروج من السجن كي ينعم بثروته، فينام في تابوت مع أحد الموتى، ليكتشف أن وسيلته للتحرر كانت هي السجن الحقيقي. وبالمنطق نفسه يعيش نزلاء الفندق سنوات طويلة بالداخل، رغبة في الخلود.

يعتمد الفيلم، من أجل توصيل رسالته، على بعض التيمات الجاهزة التي لا تُشعر المشاهد بالابتكار، بقدر ما تُشعره وكأنه رأى هذه المشاهد من قبل. وضح ذلك من خلال فكرة النوم في التابوت التى تذكرك بشخصية دراكيولا، أمير الظلام، الذى لا يشيخ أو يموت طالما يعيش بعيداً عن ضوء الشمس، كذلك شخصية الشيطان (أحمد كمال) والعقود التي يبرمها مع النزلاء بالدم، تذكرك بقصة فاوست الذى باع نفسه للشيطان رغبة في السعادة والمعرفة المطلقة، كما أن شخصية صاحب الفندق (محمود البزاوي) المسيطرة بنحو غامض تذكرك بشخصية عمر حرب التي لعبها خالد صالح فى فيلم “الريس عمر حرب”. ويمكننا أن نقول الشيء نفسه عن شخصية وفاء عامر التي فقدت طفلها ذات يوم بعيد، واستعاضت عنه بدمية تشبهه، صنعتها بنفسها، في تماس واضح مع فكرة التحنيط الفرعونية التي تقهر الزمن.

يربط السيناريو بين قضية الخلود وقضية الاختيار في جدلية محكمة تحدد مصير الشخصيات. فالنزيل يملك حرية أن يدخل الفندق، لكنه يفقد هذه الحرية بمجرد أن يتحول إلى نزيل لديه مفتاح ورقم للغرفة، لأنه في الحقيقة يتحول هو نفسه الي رقم ذي دلالة ميتافيزيقية يكشف عنها الفيلم فى النهاية. فالنزيل يختار ميعاد الدخول، لكنه لا يملك حرية اختيار ميعاد الخروج، فضلاً عن حرية الحركة بالداخل، التي تحكمها أنظمة وقوانين صارمة يخضع لها الجميع بصوره أشبه بالتنويم المغناطيسي.

بصرياً، نجح وسام المدني، في اول تجربة سينمائية له، في اختيار زوايا التصوير بحيث أمكن للمشاهد أن يستشعر فخامة الفندق من ناحية وقدرته على بث روح القلق والتوتر من ناحية أخرى. ربما يكون هناك بعض المبالغة فى استخدام المؤثرات التقليدية للتيمات المحفوظة لأفلام الرعب من فتح وغلق مفاجئ للأبواب، وارتفاع صوت صرير المفصلات، والسير الحثيث على الأقدام فوق درجات سلم مظلمة، أو مضاءة بالشموع، في صمت ليلى مهيب، وكذا اختفاء الأشخاص وظهورها دون سبب واضح، غير أنه يحسب للمدني حرصه على ألا يصل بهذه المؤثرات إلى حدودها القصوى، وأن يستكمل المشاهد بالحوار الذى يخفف من حدة التوتر، ويحاول أن يزيل شيئاً من الغموض، أو يضفى مزيداً من الغموض بحسب الموقف الدرامي.

تمضى الأحداث داخل الفندق مثل كابوس طويل، لأنها تدور، معظم الوقت في الليل، فلا نكاد نرى ضوء النهار إلا نادراً، ومن خلال النوافذ. غير أن المدني نجح في الاحتفاظ بدرجة من الإثارة والتشويق جعلت المشاهد لا يشعر بالملل، بالرغم من كونه سجين الفندق نفسه مع شخصيات الفيلم.

على مستوى الأداء، جاء أداء وفاء عامر في حدود الدور المرسوم، بالرغم من أن الشخصية التي لعبتها، كأم فقدت طفلها، واستعاضت عنه بدمية تشبه ملامحه، كانت من الممكن أن تمنحها مجالات أوسع للتعبير عن أبعاد نفسية أعمق.

برع كل من محمود البزاوي (في أداء دور صاحب الفندق)، وأحمد كمال (في أداء دور الشيطان)، بينما بدا أداء نضال الشافعي باهتاً بينهما، ربما لأنه كان الآدمي الطبيعي الوحيد في الفندق وسط حشد من النزلاء الممسوخين، الذين يؤدون أدوارهم ببطء ورتابة، مرة كأشباح، ومرة كآلات، ومرة ثالثة كعرائس ماريونيت، فبدا من الصعب على الشافعي أن يعبّر، تمثيلياً، بأكثر من إبراز الدهشة وقلة الحيلة، خاصة أنه كان الوحيد الذي دخل الفندق بالمصادفة، والوحيد الذى لم يكن لديه هدف واضح يعمل من أجله مثل باقي النزلاء.

فكرة الخلود القائمة على عقد مبرم بالدم بين الإنسان والشيطان، والتي بمقتضاها يقوم الإنسان بعمل طقسي شرير لقاء أن يمنحه الشيطان الخلود، فكرة أسطورية لا تستند إلى أساس ثابت، لأنها لا تقدم لنا المبرر العقلي أو العلمي لخلود الإنسان سوى القدرة الخارقة التي يملكها الشيطان بنحو ما ترسخ فى الموروث الشعبي والأدبي. حتى فكرة الحيوان البحري “تيولا”، باعتباره نموذجاً أو دليلاً علمياً على إمكانية إطالة عمر الإنسان لم يحاول السيناريو أن يربطها بنحو مقنع بنزلاء الفندق، لأنها، في الأخير تحولت إلى بنية سردية، مثلها مثل الأعمال الأدبية الأخرى التي تناولت الفكرة نفسها، وباتت المحاكاة هي أداة الربط الوحيدة بين الظاهرة البيولوجية والظاهرة الإنسانية. فحتى يضمن الإنسان لنفسه الخلود ينبغي أن يتصرف بنحو ما تفعل “تيولا”. وهنا يحق لنا أن نتساءل عن مدى ضرورة العقد الشيطاني الذى يكبل الإنسان به نفسه ويرتكب من الشرور ما يفقده إنسانيته وإيمانه بالقدر وبالمكتوب إذا كانت محاكاته لنموذج تيولا تكفى لتحقيق الخلود؟!

الحقيقة أن الحل كان قريباً جداً، وإمكانية الخروج من المأزق الخرافي كانت مفتوحة على مصراعيها لو أُحسن استغلال شخصية مراد داود، الفنان التشكيلي الذى كان يبحث عن المكانة الأدبية بجانب المكسب المادي، فمراد، فى الحقيقة كان يبحث عن الخلود عن طريق الإبداع، وهو الموهبة التي اختصه الله بها، والتي ستكتب لاسمه الاستمرار بعد الممات. ونقول إن الحل كان قريباً لأن المعنى نفسه تم ترديده على لسان الشيطان في سياق محاولته إقناع مراد بتوقيع العقد، ولم يتوقف السيناريو عنده كثيراً، ولم يحاول أن يبرز الفكرة ويسعى إلى تطويرها بحيث يحل الخلود بمعناها الفني والإنساني محل الخلود الأسطوري القائم على غواية الشيطان.

بدأ الفيلم صاخباً وانتهى صاخباً. فقد بدأ بأصوات المدافع وطلقات الرصاص، وانتهى بموسيقى صاخبة مصحوبة بترانيم صوفية. ربما كانت البداية موفقة، لأن أثار الحروب وما تخلفه من موت ودمار تستدعى فكرة الخلود، لكن دخول نزيل جديد إلى الفندق لتكرار الحلقة الجهنمية المحكمة مرة أخرى قد لا يناسبه الأجواء الروحانية التي تحملها طقوس المتصوفة!

الفيلم محتشد بالرموز والإشارات الفنية ذات الدلالة، بحيث يحتمل التأويل الفلسفي والسياسي والاجتماعي والديني، لأن “خان تيولا” يمكن أن يرمز إلى الكون أو العالم أو الدولة، كما يمكن للنزلاء أن يمثلوا سكان الكوكب أو مواطني الدولة، وتبقى علاقة صاحب الخان بالشيطان كعلاقة أي زعيم أو رئيس بالقوى الشريرة التي تهيمن على المشهد كله، ولا تقدم خدماتها دون مقابل!

وسام المدني مخرج الفيلم
Visited 64 times, 1 visit(s) today