الفيلم الياباني “رجُل”.. الهروب من أشباح الماضي
خالد عبد العزيز
في رواية “ليلة القدر” للكاتب المغربي “الطاهر بن جلون” تُطالعنا رحلة البطلة المطمورة في ثياب ذكورية، بينما تخفي هويتها الأنثوية خلف ملابسها الرجالية، وعند تحررها من ماضيها المُثقل بالقهر، يُفاجئها الحاضر بما لديه من رؤى أخرى، ويستعير الفيلم الياباني “رجل” أو A Man (2022) المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب الياباني المرموق “كينتشيرو هيرانو”- أعد له السيناريو “كوزاكي موكاي” وأخرجه “كي إيشيكاوا”، هذه الثيمة، ولكن وفق رؤية مغايرة، لكن للفكرة جذورها المتصلة ببعضها.
بعد وفاة عامل تكسير الأشجار “دايسكي ” المُفاجأة، تسعى زوجته “ري” لإتمام إجراءات الدفن، حينها تكتشف أن ما عاشت برفقته ما يقرب من سبع سنوات، مجهول الهوية، وأن اسمه المُعرف به لا ينتمي إليه، من ثم تبدأ رحلة بحثها عمن يكون هذا الرجل. هكذا تدور قصة الفيلم، مُقتحمة عالماً غرائبياً بعض الشيء، فالفيلم يبدو مهموماً بعدة قضايا أبرزها الهوية بشقيها العام والخاص، وتأثير هذه الهوية وما يصاحبها من تاريخ شخصي وحياة أخرى مُدثرة بالأعماق لا يدري أحد عنها شيئاً، تنتقل تلقائياً من الآباء للأبناء، طارحة أسئلة شتى، أهمها، هل يُمكن تبديل الماضي والبدء من جديد؟
سرد دائري
يبدأ الفيلم بلقطة تأسيسية للوحة “الاستنساخ الممنوع” للفنان التشكيلي البلجيكي “رينيه ماغريت”، نرى فيها رجلا ما يجلس أمام مرآه، والإنعكاس لا يكشف سوى عن نفس هيئة الرجل بظهرة كذلك، دون معرفة ملامح وجهه، ليُصبح هذا التأسيس الذكي مدخلاً مُلائماً لعالم الفيلم المُغلف بطبقة كثيفة من الغموض، مثلما يقول “رينيه ماغريت”: “كل شيء في أعمالي يأتي من الشعور باليقين بأننا ننتمي في الواقع، إلى عالم غامض”.
الفيلم يبدأ من حيثما سينتهي، حيث المحامٍ “أكيرا كيدو” (الممثل ساتوشي تسمابوكي) يتناول مشروبه في إحدى الحانات ويتعرف هناك على صديق جديد، ثم يعود السرد خطوات للوراء، كاشفاً عن الحكاية الرئيسية التي تشكل صُلب الفيلم وجوهره، مُستعيناً بالأسلوب التقليدي الخطي المُعتمد على الفصول الثلاثة، البداية والوسط والنهاية، وبينهم مواطن الحبكة التي تدفع السرد للأمام في تدفق وإحكام.
البدابة مع الفصل الأول التمهيد، “ري” (الممثلة ساكورا أندوا) التي تملك مكتبة لبيع الأدوات الفنية، يزورها بانتظام “دايسكي” (الممثل ماساكاتا كاوباتا) الذي يعمل في البلدية ويُمارس هواية الرسم. تنشأ بينهما قصة حب، وبعد زواجهما بعدة سنوات يلقي الشاب حتفه أثناء تأدية مهام عمله، وعند هذه النقطة نصل لخاتمة الفصل الأول وبداية الفصل الثاني، واكتشاف أن الزوج المتوفي مُنتحل اسم وصفة لشخص أخر، في هذه الأثناء تلتقي الزوجة بـ”أكيرا” المحامي، الذي يسعى للبحث عن أصول هذا الشخص واسمه الحقيقي، ويستمر هذا البحث طوال الفصل الثاني من الفيلم وصولاً للفصل الثالث، حيث لحظة التنوير واكتشاف هوية الرجل الحقيقية، فقد نسج السيناريو أحداثه بحرفية وبراعة وإحكام، ودون الإخلال بالإيقاع، فلا لقطة ناقصة ولا أخرى زائدة.
آباء وأبناء
مع توغلنا في السرد، ينزاح الستار عن أبعاد الحكاية، التي تتكرر في متوالية، يحكمها التماس بين الشخصيات، فبعد بحث دؤوب من “أكيرا” يتوصل فيه إلى أصول الزوج الميت، ويتضح أن والده حُكم عليه بالإعدام قبل سبعة عشر عاماً، لكنه اختار هوية جديدة هرباً من أشباح الماضي التي تُطارده على الدوام، ففي أحد المشاهد نرى رفضه استلامه جثمان والده بعد تنفيذ حكم الإعدام فيه، ويطلب من المتصل ألا يتواصل معه مرة أخرى، في رفض وتنصل واضح من هذه العلاقة سعياً للتحرر من ثِقلها.
وهنا يطرق الفيلم قضية العلاقة بين الآباء والأبناء، لكن بأسلوب مبتكر جديد، يبتعد عن التناول النمطي للعلاقة التقليدية، فالأب القاتل أورث الابن عقدة نفسية تجاه حياته وماضيه، تجعله في وضع هروب دائم، كلما حاصرته الأضواء أو اقتربت من هتك حياته وماضيه السري، يواصل الهرب، في دوامة لا تكاد تنتهي، حتى يصل لمرفأه الأخير عندما يلتقي “ري” ويعيش معها مدة ليست بالقصيرة، تنجب له ابنة، ويتولى مسئولية تربية الابنة “يوتو” الإبن الأكبر لزوجته الجديدة من علاقة سابقة، مُتجنباً في علاقته معه كل ما سبق من معاناته مع والده البيولوجي، ليبدو وكأنه يُصلح ما أفسده الماضي.
أثناء مواصله “أكيرا” البحث عن الهوية الحقيقية للرجل المدعو مجازاً بالحرف “إكس”، يكتشف أنه أبدل هويته مع شخص أخر، يُدعى “دايسكي”، وهو ابن لثري يملك فندق استشفاء في إحدى الولايات البعيدة، كل منهما تبادل هويته وتاريخه مع الأخر – بمساعدة وسيط مزور- بأريحية ودون غضاضة، ابن القاتل أراد أن يغسل ماضيه ويشتري حياة جديدة لا نتواءات ولا شوائب فيها، في حين أن الشخص الأخر تخلى عن حياته التي يألفها، هرباً من سيطرة شقيقه وعائلته على مصيره، فلكل منهما دوافعه التي أدت إلى ما وصلا إليه، وعجلة الحياة تسير دون أن يدري أحد ما يُخفيه البعض من حيواتهم، الأشبه بمغارات سرية.
إسقاطات سياسية
رغم أن الفيلم تدور أحداثه عن أزمة شخص ما تجاه تاريخه وماضيه، إلا أن السيناريو تدعيماً لهذه الحالة، غلف السرد بإسقاطات ودلالات تُبرز الأزمة وتبلورها أكثر، بل وتنشأ صراعات جانبية بجوار الصراع الرئيسي، دون الإخلال بالمسار السردي، ودون أن يطغى خط درامي على أخر، فالصراع الدرامي هنا، يتعلق بالماضي وكيفية مجابهته، للوصول إلى حل سلمي معه والقبول والتسليم به، أو الإبتعاد عنه وتركه كما هو دون المساس به.
فالمحامي “أكيرا” لا ينتمي لليابان بشكل كامل، فهو كوري الأصل مولود باليابان، متزوج يابانية ويعيش حياة هادئة، إلا أن هنالك ما يعكر صفو هذه الحياة، وهي التعليقات السلبية المقصودة أو العفوية تجاه أصوله الكورية، ففي أحد المشاهد نرى حموه يُذكره بأصوله وماضي أسرته الغير يابانية، وكذلك عندما يلتقي بالوسيط المزور في السجن بحثاً عن الحقيقة، لا يتوقف الثاني عن تذكيره بأصوله، وشاشات التليفزيون لا تتوقف عن عرض المظاهرات المُنددة بتواجد الكوريين والأجانب في اليابان، وهكذا يُدخلنا السيناريو في معضلة أكبر، تلقي بظلالها، ليس فقط على أزمة الرجل الميت، بل تمتد إلى المحامي، فكل منهما يُعاني من أزمة هوية، وبالتالي التماس بينهما واضح وجلي، فكلما سعي “أكيرا” للوصول لحياة الرجل “إكس”، كلما أكتشف نفسه أكثر، وتصالح معها ومع أصوله.
وبالتالي لا يخلو الفيلم من تقديم جرعة لا بأس بها من النقد للاذع للسياسة والمجتمع الياباني، ففي أحد المشاهد نرى “أكيرا” يتناول العشاء برفقة أٍسرة زوجته، والأسرة توجه انتقادات جريئة للسياسات الاقتصادية اليابانية وكيفية تعامل الحكومات مع المواطنين، ويواصل السيناريو تبطين السرد بهذه اللمحات، عبر السخرية الدائمة من أصول “أكيرا”، ليكشف عن وضع داخلي قد لا ندري عنه الكثير، إلا أن هذا الإنتقاد ليس من أجل توجيه اللوم فقط، لكنه ينطلق إلى ما هو أعمق، ويبدو كأرض صلبة تتكأ عليها الأحداث، ومن ثم يجب إدراكها وتأويلها بما يناسب القصة ذاتها.
أسلوب الإخراج
يقول مخرج الفيلم “كي إيشيكاوا” في معرض حديثه عن الفيلم “كثيراً ما يقال بأن الحب والكراهية وجهان لعملة واحدة”، وبالنظر لفيلمنا هذا، نجد أن هذه المقولة تتوافق بطريقة أو بأخرى مع مضمونه، فليس الحب والكراهية فقط هما ما يملكان الوجهين، كذلك الإنسان يملك وجها مرئيا وأخر مُستترا غير معلوم بالنسبة للأخرين، مثل الرجل “إكس” أو دايسكي المزيف، الذي كلما تطلع إلى وجهه في المرآة، قاوم النظر إليه وهرب بعيداً، فلا قدرة له على رؤية ملامحه وهويته الحقيقية، وبالمثل زوجة المحامي “أكيرا” التي يكشف الفيلم عن خيانتها لزوجها مُصادفة في المشاهد الأخيرة، في التواءة درامية، تؤكد معنى الفيلم وفكرته الأساسية، أن بداخل كل منا ما يستحق الستر، وإذا هُتك ما هو قيد الإخفاء، ستتبدل نظرتنا لذواتنا.
ولأن الفيلم يعني بالتعبير عن هذه الفكرة ورصدها، بالتالي جاءت أحجام اللقطات أغلبها متوسطة، وصفية، تلتقط الحالة وتصفها وتقوم بعرضها، باعثة على التأمل والتفكير، لا في مصير هذه الشخصيات وحيواتها المُضطربة فحسب، لكن في تلك الحياة المُعلن عنها والتي تحوي من الغموض ما يكفي ويفيض.