الفيلم المصرى “وردة”.. ذلك الطموح الذى يخذله الوعى !
ا ينقص الطموح صنّاع فيلم “وردة” الذى استقبلته الصالات المصرية فى عز عروض مهرجان القاهرة السينمائى، ولكن ينقصهم الوعى بطبيعة النوع الذى اختاروه لكى يحكوا قصتهم من خلاله.
تتصدر ملصق الفيلم (الأفيش) الذى تظهر فيه ملامح امرأة مصبوغة باللون الأحمر عبارة مكتوبة تقول: “فيلم رعب مأخوذ عن أحداث حقيقة”، هم الذين وصفوا فيلمهم وصنفوه، وسنحاسبهم على ذلك فنقول إننا نشك أصلا في أن ما شهدناه يندرج تحت عبارة “فيلم رعب”، كيف نتفق معهم وقد بدا الفيلم محايدا وباردا تحولت مشاهده “المرعبة”، كما يظن صناعه، الى مشاهد كوميدية صاخبة؟!
هناك مشكلة حقيقة فى وعى أصحاب الفيلم بما صنعوه، لذلك جاء العمل مجرد مغامرة وتجربة شكلية، لم تشبع لا جمهور الفن والتجربة، ولا الجمهور الذى اعتاد على أفلام الرعب بكل أطيافها، هنا مأساة فيلم “وردة” الذى كتبه محمد حفظى وأخرجه هادى الباجورى، والمؤسف حقا أن الاثنين اجتهدا وبذلا الكثير لكى يقدما عملا مختلفا، ولكن الحصاد جاء هزيلا كما سنوضح حالا.
لا نستطيع أن نتحدث عن نماذج ناضجة لأفلام الرعب المصرية، لا أعرف السبب مع أن التراث الشعبى المصرى مليىء بالأعاجيب المخيفة، لا يمكن التوقف طويلا أمام تجارب الرعب الجادة أو حتى الهزلية، من محاولات يوسف معلوف فى الخمسينيات الى تجارب ياسين اسماعيل ياسين، وصولا الى تجارب الراحل محمد شبل، وأفلام أطلقوا عليها أفلام رعب وهى ليست كذلك، مثل “أحلام حقيقة” الذى يبدو أقرب الى أفلام التشويق وليس الرعب. هناك أصلا اعتقاد خاطىء بأن وجود مشهد مخيف ينقل الفيلم تلقائيا الى خانة أفلام الرعب، بل إن صناع فيلم “وردة” توهموا أن عبارة “مأخوذ عن قصة حقيقية” تكفى تماما لكى يرتعب الجمهور حتى قبل أن يدخل الى قاعة العرض! إنهم لم يدركوا أن استلهام الواقع، أو عدم استلهامه، لا يعفيك من أن تصنع دراما لها قانونها وطعمها وبصمتها وخيالها وأدواتها فى التأثير.
المندوب التائه
لعل أول ملاحظة على سيناريو محمد حفظى (السلم والثعبان، ملاكى اسكندرية، تيتو) هو فى هذا التناقض الغريب جدا بين إدخال المشاهد الى التجربة بنفسه، وهو أمر إيجابى وجيد، وبين فشل السيناريو فى التأثير عليه كما لمست من ضحكات الجمهور، ومن خروج نصف القاعة بعد مرور نصف زمن الفيلم، وعدم عودتهم الى المشاهدة، بل إن الفيلم الذى يبدأ بداية تعد بعمل ذكى واستثنائى، ينتهى بالسكتة الفيلمية، بعد أن أخذ كل شىء من السطح، وكأنه يقدم لنا ريبورتاجا مصورا بعيون متفرج وجد نفسه فى مولد لايعرف له أول من آخر.
انبهرتُ فى النصف ساعة الأولى من الفيلم، عندما اكتشفت أن السيناريو اختار شكلا تسجيليا لسرده الروائى: الشاب المصرى وليد مخرج يدرس فى هولندا، جاء الى قريته كفر البتانون بالمنوفية لكى يقوم بتصوير فيلم عن أشياء غريبة قالوا إنها تحدث فى بيت العائلة حيث تعيش أمه، وشقيقته المضطربة نفسيا وردة وشقيقه الصغير يوسف.
البناء إذن يجعلنا نرى الأحداث من وجهة نظر كاميرا طوال الوقت: إما كاميرا يصور بها وليد، أو تصور بها صديقته التونسية القادمة معه (اسمها آمنة)، أو يصوّر بها يوسف الصغير، أو كاميرات قام بتثبيتها وليد فى المنزل لاكتشاف ما يحدث، هذا الشكل ليس جديدا بالطبع فى السينما العالمية، ولكنه جديد فى السينما المصرية، وقد تم تنفيذه تقنيا بصورة رائعة سواء بتنويع مناسبات التصوير، أو زوايا الكاميرا، أو الشخصيات التى تقوم بالتصوير، أو بتقطيعات المونتير أحمد حافظ والمخرج هادى الباجورى، أو بحساسية كاميرا الموهوب طارق حفنى (ميكروفون وفرش وغطا وديكور) ، وهو بارع حقا فى إتقان حركة الكاميرا الخفيفة المحمولة، وقد ساهمت تلك الرؤية فى إبراز كل زوايا ديكورات على حسام الجيدة، وحققت الفكرة أهميتها من زاويتين هما: منح التجربة حميمية ونبض الواقع فى صورته الطازجة، وتحويل الكاميرا داخل الفيلم الى مندوب للمشاهد، أى أنك يفترض وفقا لهذا التكنيك أن تكون داخل العرض نفسه، وليس مجرد مشاهد له، وبالتالى يجب أن يكون تأثرك مما تراه مضاعفا.
ولكن ما حدث غير ذلك تماما، ويرجع ذلك الى أن الكاميرا/ المندوب لم تستهدف التأثير، ولم تتوخى العمق، ولكنها اكتفت بالتصوير من الخارج، حتى وليد، وهو ابن هذه العائلة، بدا كما لو كان مخرجا يعنيه فيلمه، أكثر مما تعينه أسرته، لقد أخذ يسجل تعليقه على حصاد خمسة أيام، يواجه الكاميرا فى كل مرة لكى ينقل لنا تلخيصا لما شاهدناه من قبل، وكأنه يقدم لنا تعليقا على مبارة لكرة القدم، وربما لو كانت هناك أهداف، لعرضها علينا فى الإعادة.
حركة وهمية
ورغم أن الكاميرا لاتتوقف عن الحركة، وتغيير زاويتها، إلا أنها كاميرا بليدة، لأن الأحداث تدورحول نفسها، إنها حركة وهمية لا تتصاعد بالمشاهد فى اتجاه بؤرة مفزعة كما هو الحال فى أفلام الرعب، بل إنها تفتقد مصاحبة عنصرين من أبرز أدوات أفلام الرعب هما: المؤثرات الصوتية (نسمع فى مشاهد قليلة صوت الريح على استحياء) والموسيقى التصويرية، لا شىء يحدث تقريبا سوى تكرار أزمات وردة النفسية، ونومها الطويل، وأصوات طلقات رصاص، وفتح أبواب، وسقوط أشياء فى الظلام، وكلها “كليشيهات” أثارت الضحك وليس الخوف، نحن أيضا لانعرف سوى معلومات قليلة عن وردة (متعلقة بوالدها، أصابها الإكتئاب بعد وفاته، لا تنام، تطاردها الكوابيس)، ولا نعرف الكثير عن شقيقة لها ماتت أيضا قبلها، تصل البلادة الى ذروتها عندما ينهمك وليد فى تصوير وردة وحجرات المنزل بدلا من أن ينقلها مباشرة للعلاج فى مستشفى أو لدى طبيب مشهور، أما الزائرة التونسية آمنة فقد شاركته فى “سياحة العفاريت” التى أحضرها لمشاهدتها، فلما أصابها الملل، عادت الى هولندا، وتركته يلعب بكاميراته!
خمسة أيام متتالية يقدمها الفيلم لمراقبة المنزل دون أن ينجح ولو مرة فى أن يؤثر من خلال الكاميرا / المندوب فى اتجاة إثارة الفزع أو حتى التوتر، نحن نسير داخل البيت على أجنحة الكاميرا، ولكننا نتفرج مثلما يتفرج وليد، بل إننا لا نفهم كيف يؤمن وليد بأن لكل شىء تفسيرا منطقيا، ثم يحضر شيخا لكى يقرأ القرآن حتى يخرج الجان من جسد وردة، القصة كلها مأخوذة على مسافة ومن أعلى مثل تلك الكاميرات المعلقة: وردة تتجول فى المنزل، يأخذ وليد صورها ليشاهدها على الكومبيوتر، ثم يقدم لنا تقريره اليومى، وكأنه يعرض موجز الأخبار. لم تنتقل إلينا معاناة وردة الداخلية (لعبت دورها ممثلة ضعيفة لها تعبيرات وجه جامدة)، لم يدرك صناع الفيلم أن إحدى آليات إثارة الرعب أن تتماهى مع الشخصيات، وأن تضع نفسك وسطهم ليس من خلال الصورة، ولكن عن طريق الرسم الجيد للشخصية، وعن طريق المشاعر والأحاسيس، كل الممثلين متواضعين تماما فى قدراتهم على التعبير، كان واضحا أيضا أن صناع “وردة” لا يعون الفارق بين أن تصنع فيلما مرعبا، وبين أن تصنع فيلما عن أشخاص مرعوبين، أو تحاصرهم ظاهرة لايجدون لها تفسيرا.
أخذ الفيلم يدور حول محوره، حتى لقطات اليوتيوب التى قدمها لحالات المس الشيطانى كانت أفضل وأكثر تأثيرا مما قدمته وردة أمامنا ، بدا كما لو أننا ننظر من خلال لوح زجاجى الى أشخاص يروحون ويجيئون وينظرون الى الكاميرا ويثرثرون، هناك إحساس بالواقعية التسجيلية، ولكن بدون بؤرة أو هدف، وبدون ذلك الشغف الذى يدفعك للإنتظار، انتهت مأساة وردة بأن قتلت أمها (ضحك فى الصالة)، فلما عاد شقيقها وليد أطاحت عاصفة شيطانية به فأغلقت الكاميرا وارتحنا منهما معا، سنعرف من خلال العناوين، أن وردة قد نقلت الى مستشفى الأمراض النفسية ( ألم يكن الأفضل أن يفعل وليد ذلك بدلا من أن يموت؟)، فى اللقطة الأخيرة تظهر طبيبة تقول إن وردة ليست مريضة، وإنها (أى الطبيبة) لاتجد تفسيرا لكل ما حدث.
السيناريو تائه مثل شخصياته، يريد إرضاء كل الأطراف، وليد يؤمن بالعلم، ولكن هناك شيخا يقرأ لإخراج الجان، هناك اثنان من الضحايا، ولكن وردة نفسها على قيد الحياة، فى كل الأحوال، لا وجود للرعب، وإنما للتشوش والحيرة، و”سالمة يا سلامة .. زرنا بيت العفاريت ورجعنا بالسلامة”، تتعالى مشاجرات المشاهدين: “مش كنا شفنا فيلم أنابيلا فى القاعة المجاورة أو حتى فيلم الجزيرة 2؟!”، الأفلام ليست بالطموحات، والمهم ليس أن تحرك الكاميرا، ولكن أن تحرك المشاهد، وفيلم “وردة” لم ينجح إلا فى أن يحرك الجمهور هربا من قاعة العرض.
خسارة فعلا أن يتمخض هذا الجهد الكبير الواضح الى هذه النتيجة الهزيلة، خسارة أن ينتهى فيلم رعب الى فيلم كوميدى، وأن نصبح داخل الفيلم من خلال الكاميرا/ المندوب، ولكننا أبعد ما نكون عن التأثر به أو الإندماج فى أحداثه.. عجبى !