الفيلم الإيطالى “أمى”.. سينما المشاعر الصادقة
لم يفتقد المخرج والكاتب والممثل الإيطالى المدهش نانّى موريتى شيئا من عالمه الأثير حيث المشاعر الصادقة، والمواقف الإنسانية المؤثرة، دون ميلودراما فاقعة، ودون استدرار للعواطف، وذلك فى فيلمه البديع ” Mia Madre” أو “أمى”، الذى شاهدته فى الدورة الثامنة لبانوراما الفيلم الأوربى بالقاهرة.
الفيلم يحوّل البسيط والعادى الى استثنائى ومختلف، ويغزل ببراعة من خلال سيناريو شارك موريتى فى كتابته حكاية حب، بين أم وابنها وابنتها. لا يعلو الصوت أبدا، ويوجد سوى مشاعر متدفقة ، تلتقط الكاميرا تفاصيلها، وتنقلها إلينا. اللافت أيضا أن معالجات موريتى لاتقدم وجها واحدا للحياة، ولكنها تمزج بين السخرية والبكاء، وتقدم للممثلين فرصا نادرة للتألق، هكذا شاهدنا مباراة أجاد فيها ممثلو الأدوار الرئيسة، ومن بينهم موريتى نفسه الذى يلعب دور الابن جيوفانى.
التميز فى سينما موريتى ينبع بالأساس من هذه البساطة الممتنعة. فى فيلم “أمى” مثلا ليس لدينا كحدث محورى، سوى أم تنقل الى المستشفى، وهناك تتدهور حالتها، وتبدأ فى الإحتضار، وانعكاس هذه المأساة بالذات على ابنتها المخرجة مارجريتا (مارجريتا باى)، ولكن هذا الحدث سيفتح الباب لتأمل عالم الابنة، وعالم شقيقها جيوفانى، وعالم الحفيدة الصغيرة ليفيا. فى المعالجة لا توجد خطوط أو فواصل بين لحظات كوميدية، وأخرى تراجيدية، كما لا توجد فواصل بين مشاهد الماضى، ومشاهد الحاضر، ولا فواصل أيضا بين كوابيس مارجريتا، وواقعها، وكأننا أمام لوحة واحدة متماسكة، ولكنها مرسومة بألوان مختلفة.
أحزان نبيلة
يبدأ الفيلم من موقع تصوير فيلم تخرجه مارجريتا بعنوان ” نحن هنا”، ويحكى عن إضراب العمال فى مصنع، احتجاجا على فصل زملائهم، نراهم يهتفون مطالبين بحق العمل، ورافضين لقرار الفصل، ثم يشتبكون مع جنود مكافحة الشغب، توقف مارجريتا التصوير، وتدقق مع مساعديها، ومع الممثلين فى تفاصيل المشهد، تبدو لنا كشخصية قوية صارمة، تراجع حجم اللقطة مع المصور، ولكن وراء هذه البداية أحزان نبيلة، ذلك أننا سنتعرف على مرجريتا بعد نقل أمها أدا الى المستشفى.
سيكون الجدل طوال الفيلم بين تشوش مارجريتا بسبب مرض أمها التى تعشقها، ومحاولة المخرجة السيطرة على تفاصيل فيلم يفترض أنه يعرض قضية عامة عن علاقة العمال بأصحاب المصانع، وبينما ترى الأم أدا أن الموضوع كئيب، تقول لها مارجريتا إنه فيلم عن الأمل.
عالم الأم واسع للغاية بمحبة طلبتها كمدرّسة سابقة للغة اللاتينية، وبمرافقة ابنها جيوفانى لها فى المستشفى، بعد أن حصل على شهر كإجازة من عمله، بل إنه سيستقيل من العمل لعدم قدرته على التركيز كلما ساءت حالة الأم. على العكس من ذلك، فإن عالم مارجريتا محدود بعملها، وبمساعديها، وبابنتها ليفيا التى ذهبت للتزلج مع والدها. وبينما تبدو الأم ضعيفة الجسد، حيث سيتأثر القلب والرئتان، مما يجعلها على شفا الموت، إلا أن أن أدا قوية ومتفائلة، بل إنها ستقوم بتدريس اللاتينية لحفيدتها، رغم تدهور صحة الجدة، ورغم اضطرارها للتنفس عبر جهاز ينقل إليها الأكسجين.
أما مارجريتا التى تبدو قوية، فإننا نكتشف تدريجيا مدى هشاشتها وتشوشها من الداخل. لديها عشيق هو أحد أبطال الفيلم الذى تصوره، ولكنها تبتر هذه العلاقة سريعا، رغم رغبة الممثل فى استمرارها، ومع وصول بطل الفيلم الممثل الأمريكى بارى، تحاول بشتى الطرق ترويضه دون جدوى. الرجل غريب الأطوار، يتحدث عن فيلم وهمى قام بتصويره مع ستانلى كوبريك، كما أن بارى يتعثر فى نطق الحوار بالإيطالية، ومارجريتا من ناحيتها تردد فى التصوير كلاما لا تفهمه، ولا يستطيع الممثلون فهمه، أو تنفيذه.
ربما تمثل أدا الأم المريضة النموذج الأفضل تكاملا، الذى لم تحققه مارجريتا فى حياتها، رغم وجود زوج ودود، وابنة شديدة الحيوية هى ليفيا، ولكن هناك مشكلة حقيقية فى تواصل مارجريتا مع عالمها المحدود، لدرجة أن ليفيا حكت لجدتها عن قصة حبها لزميلها، بدلا من أن تحكيها للأم، التى فوجئت بالتفاصيل.
مواجهات متنوعة
يفتح مرض الأم، وتدهور صحتها الباب لكى تواجه مارجريتا ضعفها وطريقتها فى التعامل مع الآخرين. عشيقها الممثل يقول لها إنها شخصية تريد أن تصوغ الآخرين على مزاجها، وأن الذين يعملون معها يكرهونها. شقيقها جيوفانى يؤكد لها أنه أخبرها من قبل عن مشكلة تواصلها مع غيرها. تهاجم كوابيس فقد الأم مارجريتا، وفى أحد أجمل مشاهد الفيلم تتخيل أن الناس يقفون فى طابور طويل لمشاهدة فيلمها، تقف فى الطابور الأم، والأخ جيوفانى، بل إن مارجريتا الشابة تظهر فى الطابور مع شخص كانت على علاقة به، إنه أيضا يعنفها ويلومها.
محور الدراما هو علاقة جيوفانى ومارجريتا القوية والعميقة بأمهما، ولكن بينما يبدو جيوفانى أكثر تماسكا، فإن مارجريتا تدعى التماسك، ولذلك تنفجر فى البكاء وهى تساعد أمها على الذهاب الى دورة المياه، أو عندما تغرق المياه شقتها كما تنسى نفسها، وتقوم بالفضفضة للممثل بارى وهى تشرح له مشهدا أمام الكاميرا، إنها تسأله عن مصير تلك المكتبة الضخمة الموجودة فى الشقة بعد وفاة الأم. مارجريتا كما رأيناها طفلة كبيرة مشوشة، تكشفها محنة مرض والدتها.
مع تراجع حالة الأم، واقتراب النهاية، يكتمل تقريبا البورتريه المرسوم لمارجريتا. تساهم الحفيدة ليفيا فى متابعة جدتها التى تنتقل من المستشفى الى شقتها. يتداخل العالم الخارجى للمخرجة مع معاناتها النفسية، يخبرونها أثناء التصوير همسا بنهاية الأم، ولكن مارجريتا تستكمل تصوير المشهد، وكأنها تستعير من الأم تفانيها فى إنجاز العمل. يظهر تلاميذ الأم، يتحدثون عن دورها كأستاذة علمتهم فن الحياة، وليس فقط اللغة اللاتينية. ينتهى الفيلم بالأم وهى تتكلم عن الغد، بينما تملأ الدموع عيون مارجريتا. تحاول أن تبتسم، وكأنها تستعيد درس أدا الأخير.
ينجح موريتى فى اختيار ممثليه، وينجح بامتياز فى إدارتهم: مارجريتا باى التى لم يفلت منها فى مشهد واحد تعبير الحزن القابع فى عينيها، لقد عبّرت بشكل قوى عن تلك المسافة بين المظهر القوى والمسيطر، والجوهر الهش والضعيف. جوليا لازارينى فى دور الأم اكتسحت الجميع، كانت أقرب الى طيف ملائكى، لا يتوقف عن العطاء، وتفاعلت مع دورها بصورة مذهلة، وكانت الصعوبة فى الجمع بين قوة الداخل، وهشاشة الجسد، كما أن ذاكرة أدا وقدرتها على الترابط المنطقى فى كلماتها تتراجع مع تدهور صحتها. نانى موريتى كان أيضا مميزا فى أداء شخصية جيوفانى . صعوبة الأداء فى أن يبدو متماسكا وقويا رغم شعوره بالحزن والألم فى نفس الوقت. حتى جون تورورو كان مناسبا تماما لدور الممثل الأمريكى بارى غريب الأطوار، وساهمت مشاهده الكوميدية، فى التخفيف من حدة المأساة، كما اختار موريتى وجها بريئا جميلا هى بياتريس مانشينى لتلعب دور الحفيدة بتلقائية وببساطة آسرة، فتكمل حلقة العائلة التى تجتمع على حب الجدة.
ربما يكون أفضل ما يقدمه نانى موريتى فى أفلامه عموما وفى فيلم “أمى” هو تلك الدروس فى الكتابة والإخراج: الأساس لديه السيناريو وأداء الممثلين، هناك بساطة خادعة، وراءها جهد كبير، لكى تبدو المواقف قوية وصادقة، ولكى يبدع كل ممثل فى دوره. لا تتحرك الكاميرا إلا نادرا، والأحلام أو الكوابيس أو لقطات العودة للماضى تدمج بسلاسة فى إطار السرد، دون استعراض أو ارتباك.
لعلكم لاحظتم أيضا أن فيلمنا الذى ينتصر للإنسان ممثلا فى أدا التى تقاوم الموت، والتى تركت بصمتها على جميع من عرفتهم، فإنه أيضا ينتصر للإنسان فى الفيلم الذى تصوره مارجريتا: فالعمال لا يمكن رشوتهم بالمال، لأن الأهم لديهم أن يعملوا. تنتصر أدا، وينتصر العمال، وتولد من قلب الأزمة مارجريتا جديدة. إنها قصيدة حب عن الأمل والطاقة الإيجابية، تماما كما قالت مارجريتا لأمها عن الفيلم الذى تصوره.