الفلسفة كنهج لدراسة السينما

لقطة من فيلم "خلف النافذة" لهيتشكوك لقطة من فيلم "خلف النافذة" لهيتشكوك
Print Friendly, PDF & Email

على الرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهت للسينما، التي تُؤكد فشل السينما في عرض الأفكار الفلسفية، استطاع العديد من المخرجين العباقرة أمثال برغمان وتاركو فسكي وغيرهم عرض الأفكار الفلسفية في صور سينمائية مدهشة، لذا يمكننا القول أن السينما والفلسفة يستطيعان إكمال بعضهم البعض بشكل جيد، ولكن الأمر يحتاج إلى مخرج عبقري يستطيع فهم وإدراك الأفكار الفلسفية وعرضها بشكل سينمائي مختلف، لكي يجعل المشاهد يشعر بالفرق بين الأفلام التجارية والأفلام الفلسفية.

ويرى آخرون أن السينما لا يمكنها بأي طريقة التفلسف، لأنها غير مؤهلة لهذه المهمة الشاقة، التي تحتاج إلى بحث وتفكير عميق.

في محاضرة لجيل دولوز عن السينما والفلسفة – سجلت في 17 مارس 1987 – ترجمتها للعربية نفرت جاد الله – قال: من يحق له التفكير في السينما هم السينمائيون أو النقاد أو من يحبون السينما. وهؤلاء ليسوا بحاجة للفلسفة ليفكروا في السينما، فالفلسفة لها محتواها الخاص وهي معنية، ضرورة، بإبداع المفاهيم وابتكارها:

ماذا نصنع نحن عندما نعمل بالفلسفة؟ نخترع المفاهيم، ولأنه لا بد من صناعة المفاهيم، لهذا أعمل على ابتكار المفاهيم لأن النظرية هي كما موضوعها شيء ما يُصنع وبالنسبة للعديدين فان الفلسفة شيء لا يصنع أنما توجد جاهزة في سماء الأفكار وكما هو موضوعها فان النظرية الفلسفية هي أيضا ممارسة، وليست بأي حال من الأحوال مجردة كما موضوعها، بل هي ممارسة المفاهيم وهو ما ينطبق على الممارسات الأخرى التي تتداخل معها.

إن ممارسة المفاهيم، بوجه عام، ليست لها أية ميزة على الممارسات الأخرى، مثلما ان موضوعا لا يُفضل غيره من المواضيع، على هذا المستوى من التداخل، بين ممارسات عديدة، يجري صنع الأشياء والكائنات والصور والمفاهيم وكل أصناف الوقائع. وبناء على ذلك تتخذ الكثير من الدراسات من الفلسفة نهجًا لدراسة السينما وتتبنى مقاربة مُغرية من ناحية الشكل، لكنها لا تؤسس لعلاقة يمكن البناء عليها مستقبلاً، وتتمثل هذه المقاربة في محاولة تطبيق بعض المفاهيم الفلسفية على الأفلام أو قراءة عمل سينمائي من خلال أحد الفلاسفة. غير أن هذا النهج في التعامل مع العمل السينمائي يختزل في جانب واحد فقط هو الحوار أو الحبكة (فكرة الفيلم). وهو ليس الجانب الأهم داخل العمل، لأن للفيلم لغته البصرية الخاصة، التي لا يمكن اختزالها في مجرد فكرة. بمعنى أن فكرة الفيلم قد تكون تقليدية أو سبق تقديمها لكنها تظهر داخل الفيلم بلغة فنية جديدة ومدهشة، وهذه اللغة هي لغة الصورة التي هي امتياز السينما.

مع ان مفاهيم السينما ليست معطاة من خلال السينما فأنها، مع ذلك، مفاهيم عن السينما وليست نظريات حول السينما، لا تدور نظرية السينما حول السينما، إنما حول المفاهيم التي تُستخلص من السينما، وذلك بالعلاقة مع مفاهيم أخرى متاحة، تتوافق مع غيرها من الممارسات.

ويرى دولوز إنه من الأفضل ألا نسأل ما هي السينما؟ ولكن ان نسال ما هي الفلسفة؟ فالسينما ذاتها هي ممارسة جديدة للصور والعلامات حيث إن على الفلسفة ان تصوغ لها النظرية كممارسة للمفاهيم، لأنه ما من تحديد تقني أو تطبيقي – تحليلي ، نفسي ، لساني-  أو انعكاسي، يكفي لتشكيل المفاهيم عن السينما ذاتها. ولأن الفلسفة بتدقيق كبير هي الحقل المعرفي القائم على فن تشكيل وإبداع وصنع المفاهيم وان نظرية دولوز السينمائية ليست عن السينما لكنها عن المفاهيم التي توجِد في السينما، فالمفهوم يتشكّل في رحم الصورة وترتقي الصورة إلى مرتبة المفهوم وتتماهى معه.

جيل دولوز

ونعود هنا إلى كتاب ليبتش الذي ينشر مقابلتين مع جيل دولوز حول كتابي “صورة الحركة” و “وصورة الزمن” حيث تظهران الجهد المبذول لتقديم منطق Deleze؛ هو مهمة النقد السينمائي أي وصف الشكل المحدد ومعنى الأشياء الممثلة للفيلم؛ فبين مساهمات الفلاسفة التحليليين، مقابلتان مع جيل دولوز، فيلسوف ما بعد البنيوية، الذي يستلهم برغسون، رتبت حول، كتابي “صورة الحركة” و “وصورة الزمن” اللذان ربما تعدان، مرجعيا، من أكثر الكتب الفلسفية حول السينما ن التي نشرت في المانيا.

تظهر المقابلتان الجهد المبذول لتقديم منطق Deleze؛ فالنصوص يصعب فهمها بالنسبة لكثير من القراء دون معارف سابقة، وسيكون التفسير المختصر للمصطلحات المركزية مثل “صورة الزمن” بالتأكيد مفيدة.

في المقابلة الأولى “حول صورة الحركة” 1983) ينطلق Deleuze من “فهم جديد للصور والعلامات” – “منطق الفيلم” (138) – ويصنف أنواع الصور، التي ظهرت في مجرى تاريخ السينما ويميّز نفسه عن السيميائية السينمائية ويؤكد على خصائص التعبير البصري وحركة صور الفيلم. ليصل إلى إن “صورة الفعل” في الواقعية الإيطالية الجديدة، قد دخلت في أزمة؛ وأثبتت “صورة الزمن” نفسها: فلم يعد الفعل الظرفي يحتل مركز تصرفات الشخصيات، بل أصبح الإدراك البصري والصوتي يفصل ما بين الزمن والحركة.

في المقابلة الثانية تصبح “صورة الزمن ” (1985) أكثر وضوحًا وتبدو مرتبطة بالتطور الزمني لمخططات الإحساس فمع تمثيل الشخصيات والتصرف من خلال الحركة في الصورة والمونتاج: زمن اللقطات، التلاعب بالزمن، مونتاج الترددات، الخ. أصبحت اللحظة الحاسمة في التجربة السينمائية وفي معيار تصنيف الأفلام، وأخذت تشكل، في نهاية المطاف، المسارات العصبية في دماغ المشاهد.

ومع إن الصورة الزمنية لا تلغي صورة الحركة، بل انها فقط تحرر الزمن من تبعيته للحركة، فلم يعد الزمن يشتق من الحركة، بل يعرض مباشرة. ولم يعد الممثلون فاعلين بل يبقى فعلهم متوازنا ويكسر في الفاصل الزمني فواصل الزمن وتتحرك الأشخاص بدون هدف من خلال غرف مبهمة، يرون ويسمعون، يتذكرون أو يخضعون لأوهام الذاكرة.

“صورة الزمن ” هي صورة بلورية بجانب “صورة الذاكرة” – مع ذلك تسلط التحولات الفلاش باك وما شابه الضوء على واقعية أو عدم واقعية ما يظهر فـ“صورة الأحلام”، تُظهر مواقفَ متخيلة ذاتيًا: صور كريستال توحد عناصر الصورة في جميع المراحل الزمنية؛ وتكون قابلة للاختراق بعضها ضد البعض.

ويدخل الراهن والافتراضي في الصورة البلورية بجانب بعضها البعض ويتداخل الماضي والخيال، في الزمن الحاضر، حيث تقحم في الصورة، خاصة الأعمال الفنية – فيلم / مسرح / الخ. في الفيلم، اللوحات، الصور الفوتوغرافية، المنحوتات، لكي تحمل الأشياء المعاني الظرفية أو المحفزة للذاكرة التي تحمل أهدافًا مثل: فصل صورة الكائنات أمام الكاميرا وإثرائها بمزيد من المعاني، التي لا يمكن تفسيرها إلا من خلال الحاضر.

فيسكونتي

ومن الأمثلة على ذلك أفلام لوتشينو فيسكونتي: لأن الصورة البلورية تدل على معاني، تشير باستمرار إلى العالم التاريخي المفقود من الطبقة الأرستقراطية، والبرجوازية الكبيرة من القرن الماضي وتشكل الأرقام كأرقام كسر بين مرات – تواجه الواقع الذي لم يعد يتطابق مع واقع الرغبات الذاتية. وتُعطى العناصر الافتراضية للمزيج المترابط بموضوعية كإنجازات في الميزا ن سين mise-en-scène؛ في تفسير الفيلم، ومع ذلك، فإنها تصبح مؤشرات على الجهات الفاعلة – خيبة الأمل – نظرة ثاقبة على عدم التوافق بين الوجود الحقيقي والافتراضي الفردي – وهي بالتالي أحد الدوافع السردية المركزية في أفلام فيسكونتي.

نتعرف في تاريخ الفلسفة:

أولاً

على صناعة مفاهيم، تبدع وتنتج ولا يعثر عليها جاهزة

ثانياً

على صور حسية تبدع وتنتج ولا يعثر عليها جاهزة.

السينما تفكر وتفكيرها يتجسد حسيا وانفعاليا، وبالتالي لا يبقى أمام الأفلام إلا أن تعمل وفقا لقواعد أخرى غير لغوية. تحديدا، هنا تواجهنا إشكالية كون الفلسفة تعمل بوساطة كلمات اللغة الطبيعية المجردة، بينما السينما/ الأفلام تعمل بوساطة صور حسية. فضلا عن إن الأفلام، التي تقترب من موضوعات فلسفية، تعطي الأولوية للكلام على حساب الصورة، وكما سبق أن بَينت تجارب أفلام عديدة. فإذا كانت “الفلسفة مبنية على افتراض أن الإلهام الفلسفي يُكتَسب من خلال الأفلام، فأنه يمكن أن يصاغ على سبيل المثال، بوساطة اللغة المكتوبة أو المحكية، أن تضع الفلسفة في الفيلم، كما هو حال لغة الفلسفة التقليدية، لأن مقولات “الفلسفة والسينما” تفترض أساسا إن التعبيرات السينمائية-الفلسفية لا يمكن أن تعتبر كشكل محدد من التجارب الفلسفية أو كتجارب فلسفية سينمائية عامة. فمفاهيم الفلسفة تتم بوساطة كلمات اللغة الطبيعية المجردة، بينما تتعثر الفلسفة في الفيلم لأنها تتم بوساطة الصور الحسية.  فكيف يمكن التعبير في الأفلام فلسفيا في صور حسية، وليس في مفاهيم مجردة كما هو الحال في الفلسفة؟

علينا إذن أن نجد في تاريخ السينما والأفلام ما يدعم “فرضية” قادرة على تحويل ما هو حسي إلى ما هو مجرد؟ بمعنى آخر، أن تتحول الصورة إلى فكرة تُفكر؟ حتى لو تأتى عليها، من جراء ذلك، ان تصبح أكثر صعوبة.

يوضح ليبتش كيف يصل دولوز إلى إن “صورة الفعل” في الواقعية الإيطالية الجديدة، التي دخلت في أزمة؛ وأثبتت “صورة الزمن” نفسها: بحيث لم يعد الفعل الراهن في السينما يحتل المركز في تصرف الشخصيات، بل أصبح الإدراك البصري والصوتي، هما ما يفصل بين الزمن والحركة. وسيصل في نهاية المطاف إلى صورة جديدة تكون- إضافة لصورة الفعل وللصور الأخرى، أقل من كونها إعادة النظر لطبيعة هذه الصور ولوضعها، بحيث تقوم وظيفة وجودها  في السينما بإنجاز وإكمال كافة الصور الأخرى، وهي المهمة التي قام بها هيتشكوك – حسب رومير وشابرول في كتابهما عن هيتشكوك – إنها  نوع من الحياكة / التنجيد، يَخضع الكل  فيها إلى الإطار مُكتفيا بفتحه طوليأ بشرط المحافظة على إغلاقه عرضيا، لتكون  صور الفعل والإدراك والإحساس، عندئذ، مؤطرة كلها ضمن نسيج من اضافات، تؤلف بدورها سلسلة علاقات من صور ذهنية، مقابل حبكة الأفعال و الإدراك والأحاسيس. وترفع (عملية) الإضافة ذاتها الفعل إلى حالة صورة ذهنية جديدة، لا تكتفي بنسج حياكة مجموعة من الإضافات، بل ينبغي عليها أن تشكل ماهية جديدة. 

ان ما يكشف عن الإضافات هو حركات الكاميرا وحركات الشخصيات باتجاه الكاميرا ويبقى للكاميرا أن تتكفل بالباقي، فالكاميرا وليس الحوار، هي من يفسر مثلا لماذا كانت ساق البطل مكسورة في فيلم هيتشكوك “النافذة الخلفية” فالكاميرا هي التي تظهر في غرفته صورة لسيارة سباق وكاميرا فوتوغراف محطمة. 

Visited 8 times, 1 visit(s) today