العندليب مُمثلًا: العاديّة التي نُحبّ
هدى جعفر
من الصعب الحديث عن عبد الحليم حافظ بقدر صعوبة تجنب ذلك، إنّه النجم الذي تجاوز الزمان والمكان بشهرة غطّت عليه هو نفسه، فعرفنا عنه صورة واحدة لا سواها.
أغانٍ غرامية ووطنية، رِحلة مرض مُبكّر مسبوقةً بيُتم الأبوين، قصص حب غامضة وغير مُكتملة، صوت عذب وهيئة جسدية ونفسية جاءت لتُخلّد في الوجدان موهوبة للحب أبدًا.
لم تكن الأغاني وحدها من عمّقت الأثر الجبار لحليم، بل ساهمت مسيرته السينمائية في ذلك، 16 فيلمًا بـ 16 قصة يلعب الحُب، وما غيره!، دورًا رئيسيًا في حياة البطل الذي وُصف بـ “حتة الألماظية” في “لحن الوفاء” وبـ “القرد أبو سديري” في “معبودة الجماهير”، وبـ “شمشون” في “شارع الحب” لأنّ قبلته دوّخت صباح!
بدأ حليم سينماه بـ “لحن الوفاء”، آنف الذكر، شابًا عشرينيًا شديد الخجل، بالكاد يضع وجنته على وجه النجمة شادية، وأنهاها بـ “أبي فوق الشجرة” بأكثر من 35 قبلة موزعة بين نادية لطفي وميرفت أمين بدون تساوٍ، مرورًا بأفلام شارك فيها نجوم تلك الحقبة: زكي طليمات، وعبد الوارث عسر، ومحمود المليجي، وفاتن حمامة، وعماد حمدي، وماجدة، ولبنى عبد العزيز، ورشدي أباظة، وعبد السلام النابلسي، وسراج منير، ورياض القصبجي، وزينات صدقي وغيرهم.
الأغنية أولًا
لم يخلُ فيلم واحد للعندليب من الأغاني، قائمة طويلة شارك فيها كبار الشعراء كإسماعيل الحبروك، ومرسي جميل عزيز، وحسين السيد، ومأمون الشناوي، ونجوم النغم كعبد الوهاب، وبليغ حمدي، وكمال الطويل، ومحمد الموجي، ومنير مُراد، ليس بالضرورة أن يكن العندليب مُطربًا في الفيلم، يكفي أنّه يُحب، وأنّه يُعاني في ذلك، ثم تأتي الأغنية داعمة للحالة الوجدانية، فيجمد خط السرد لدقائق، ثم يستأنف مسيرته بعد أن يُلقي العندليب تعويذته على المستمعين.
الأغنية عند حليم جاءت أولًا، حتى أنّه رفض المشاركة في فيلم “الاختيار” ليوسف شاهين لأنه يخلو من الأغاني، وفي مشهده الوحيد في فيلم “إسماعيل يس بوليس حربي” ظهر في حضرة الغناء أيضًا.
تنويعات حياة العندليب
بتأمل متأنٍ إلى حدٍ ما، يُمكن ملاحظة أنّ أفلام حليم تناولت حياته بتنويعاتٍ مختلفة: اليُتم، وتشبثه برأيه، والموهبة التي يُعترف بها بعد النفور، ظهر حليم في أغلب أفلامه، بلا أب أو بلا أم، أو بلا كليهما، في “لحن الوفاء”، و”شارع الحب”، و”فتى أحلامي”، و”دليلة” وغيرهم، بجانب فيلمين ترعرع فيهما بجوار رجلٍ لا يرغب بوجوده “أيام وليالي” و”الخطايا”، حتى مرضه العضال ظهر بشبيه له في “حكاية حب”.
أما موهبته الهائلة التي يرضخ لها الآخرون بعد العناد، فقد اتخذت أشكالًا مُختلفة، فتارةً أتت على هيئة اختراعه لقماش ضد الحريق يتعرّض لسرقة فيخوص معركةً لاسترداده، وتارة في اتهامه بالفشل كصحفي من مديره (محمود المُليجي) لكنّه لا ينفي ذلك بتمكنه من تصوير ابنة المليونير أبي عجيلة فقط (زبيدة ثروت)، بل بإيقاعها في غرامه بسوء حظه وحسنه أيضًا، ورأينا تمسكه بموقفه في “أيام وليالي” و”معبودة الجماهير”، و”ليالي الحب” وغيرها.
إنّ رفض المستمعين لحليم حدث في بداياته بالفعل، وجاء في “معبودة الجماهير” مشهدٌ كاملٌ جسّد ذلك وهو على المسرح، قبل أن يُسكتهم بـ”جبّار” ما زالت تدوي منذ 1967 حتى الآن!
الأداء الـ”حليمي”
لم يُقل عن حليم بأنّه ممثل بارع أبدًا، ولا يُمكن أن تخلع عليه ذلك مهما كُنت مُجاملًا أو حديث العلاقة بالسينما، وبمشاهدة مقابلاته الشخصية فلا يُمكن العثور على اختلافٍ بين الواقع والفيلم. في مقابلة للفنانة لبنى عبد العزيز مع وجدي الحكيم قالت إنّ حليم كان يُمثل بطبيعية وببساطة، حتى أن شخصيته لا تختلف قبل وبعد كلمة “أكشن”، كانت تقولها في سبيل المدح بطبيعة الحال.
أمّا حليم نفسه فيقول في “معبودة الجماهير” لعاصم (يوسف شعبان) الذي اتهمه بالتمثيل الركيك أنّ هذا الأداء هو ما يراه بسيطًا وطبيعيًا، ويقول في موضع آخر “عمر التمثيل ما كان هدفي”!
في الحقيقة لم تطلب الجماهير أكثر من ذلك، لا تريد من حليم براعة حسين رياض أو المليجي، ولا جسد أحمد رمزي أو رشدي أباظة، بل هامت حبًّا بوجهه “السِمِح”، والوسامة القريبة من القلب، ونظرته الساهمة التي تستدعي مشاعر الاهتمام من النساء كافة.
لم يؤدِ حليم غالبًا دور الرجل الخبير بالنساء وأفاعيل العشق، بل كان الرجل المُلتاع، المُتفاجئ، طاردًا ومطرودًا حول جنة الغرام، رجلا “مسكينا بصيغةٍ أو بأخرى، وليس في الحب فقط، ظهر عبد الحليم ضعيفًا بمعانٍ مختلفة، ظهر مُهانًا من الدائنين في “معبودة الجماهير”، أو مضروبًا من أهالي الحي في “أيامنا الحلوة”، أو موبخًا من مديره في “يوم من عمري”، أو محلا للمقارنة مع غيره من الرجال في “البنات والصيف” و”موعد غرام”، أو عاجزًا عن حماية من يُحب “أبي فوق الشجرة” لكن القوة تظهر قبل النهاية مُعلنةً افوز هذه الهشاشة، إما بفوزه بالحبيبة، أو بالحصول على براءة الاختراع، أو مُعترفًا به من ذويه.
إنّه الضعف الـ “حليمي” الذي يُمكن اعتباره جزءًا من معجزة العندليب، الضعف الذي زوّد سُلطته العاطفية، إنّ القلوب التي خطفها وهو يُصفع من والده بالتبني (عماد حمدي) في “الخطايا” أكثر بكثير من لو صرع عشرة رجال بضربةٍ واحدة!
بالإضافة إلى ما سبق، لا يُمكن التغاضي عن الجانب السياسي في مسيرة حليم، لقد كان العندليب صوت الشباب الأوّل، وأحد وجوه الثورة، ففي أوبريت “الوطن الأكبر”، مثلًا، يظهر حليم، مُنفردًا بين خمس مُطربات، في مُفتتح الأوبريت وختامه، إنّه الحضور الأكثر مثاليّة في الزمن الناصري.
العندليب كفكرة
لم يكن حليم هو المُطرب الوحيد الذي مثّل في السينما، لكن أفلامه كانت الأكثر نجاحًا من زملائه المطربين، باستثناء شادية، إذ اجتمعت لها الكثير من الأسباب: القصة الممتعة، وحشد النجوم، وكبار الكتاب والمخرجين، والكاريزما “الحليمية” طبعًا.
هناك الكثير من الحقائق التي يُمكن الخروج بها عند تمحيص مسيرة حليم، وإن كان لا بد من صياغة حقيقة واحدة الآن، آمل أن تكون السطر الذي بدأ به هذا المقال، وهو أنّ الحديث عنه صعب بقدر تجنّب ذلك، لقد مرّت 46 سنةً على رحيله، لكن الجماهير ما زالت مؤمنة بـ”فكرة” عبد الحليم حافظ. إن حليم فكرة كُبرت وتعملقت وصاغته فنّانًا وعاشقًا وصوتًا لا رادّ لسحره، وقد أحبّت الجماهير هذه الصورة، واعتمدتها، وعاشت بها، حتى الأخبار (أو الشائعات) التي قيلت عن لؤمه ومنافسته غير الشريفة، قوبلت إما بالتناسي، أو بالإنكار، أو باعتبارها جزءّا من أسطورة العندليب، أسطورة “على قد الشوق” الذي يكنّه المعجبون إلى عندليبهم الغائب، صاحب الأداء التمثيليّ العادي جدًا الذي لم تجده الجماهير كذلك على الإطلاق.