الصورة الحلمية في أفلام تاركوفسكي (2 من 2)
في فيلم “المرآة”، التأثير الشبيه بالحلم يتحقق بواسطة اللقطات المصاحبة tracking التي تتابع ليزا، صديقة ماشا، وهي تجري عبر الرواق الطويل (سعيدة لأنها تحررت من الخوف الذي استبد بها من جراء خطأ في تهجئة اسم ستالين أثناء تنضيد الأحرف الطباعية في الجريدة.. هذا الخطأ الذي اكتشفته ماشا). وبينما هي تتقافز فرحاً أثاء جريها، الحركة تتباطأ قليلاً خالقةً الوهم بأن جسدها يطفو في الهواء. التأثير السوريالي يحدث في المكان المناسب (بالحس الموضوعاتي/ السردي) متزامناً إيقاعياً مع إحساس المرأة بالإبتهاج، وبذلك يوازي حالة التذكّر السائدة في المشهد. في مرات أخرى، غالباً في المشاهد الداخلية، يرتب تاركوفسكي الأشياء والممثلين ضمن الكادر بطريقة فيها الميزانسين يتحدى القوانين الفيزيائية إضافةً إلى المصداقية المعتادة. في اللقطة التي تُظهر أم إجنات Ignat وهي ترتفع في الهواء، نلاحظ بأن أجزاء اللقطة، التي في ظرف آخر قد توفّر مفاتيح منظورة ومدرَكة للحيلة البصرية، تكون ممحية بواسطة الإضاءة وتأطير الكادر وحركة الكاميرا. المتفرج، الأعزل من أي إدراك حسّي، يكون مغموراً في تكوين الصورة، قابلاً الصورة، على نحو غريزي، كتخييل لعالم الشاب الداخلي، المحب لأمه.
تاركوفسكي يوجّه عناية خاصة إلى شيئين يثيران دوماً اهتمام السينمائيين الكبار: المنظر الطبيعي، والوجه الإنساني. بالنسبة له، الكاميرا أداة استكشاف مؤهلة لأسر روح اللحظة، فوراً وعلى نحو نابض بالحياة، بدقةٍ فوتوغرافية، بحيث تصبح مشاعر الجمهور مماثلة لمشاعر شاهد، إن لم تكن مشاعر المبدع نفسه. لتحقيق ذلك، غالباً ما يلجأ تاركوفسكي إلى تعديل المظهر الطبيعي للمنظور أمام الكاميرا وفي مرحلة ما بعد الإنتاج أيضاً، لكن من دون إرباك الموثوقية الوجودية للصورة السينمائية. هكذا نرى، في لقطات الإفتتاحية لفيلم “المرآة”، حقلاً فسيحاً من الحنطة السوداء تلاطفها، على نحو إعجازي، هبة ريح. إنه المنظر الذي، حسبما يصرّح تاركوفسكي، “بقي في ذاكرتي كأحد التفاصيل الأساسية والمميّزة في طفولتي”.
إن التدخل الجلي لصانع الفيلم (الهبوب المفاجئ للريح ثم انقطاعها المفاجئ) يكشف “بصرياً وفورياً” الذبذبة المرافقة لذاكرة المبدع العاطفية. في فيلم stalker، وفيما تتقدم المجموعة عبر منطقة ريفية مهجورة، تكوين اللقطات التي تصوّر المنظر الطبيعي يصبح مكتظاً على نحو متزايد بالتفاصيل في مقدمة الصورة، والتي تهجس بالقلق والحصَر النفسي الذي سوف يختبره الرجال الثلاثة في مركز المنطقة ((zone.. وهذا يستجيب إلى استنتاج تاركوفسكي بأن الفن يجب أن يتخطى، وليس مجرد أن يسجّل، العالم الخارجي. الكاميرا، بالنسبة له، أداة تستكشف وتتحرى أكثر مما ترصد وتلاحظ.
في إشارته إلى لوحة ليوناردو دافنشي التي تظهر في فيلمه “المرآة”، يؤكد تاركوفسكي أن سبب قوة اللوحة الشهيرة التي هي عبارة عن بورتريه لإمرأة “راجع تحديداً لأن أحداً لا يستطيع أن يجد فيها أي شيء قد يفضّله بوجه خاص، ولا يستطيع أن يفرد أية تفصيلة عن الوحدة الكليّة… لذلك هي هناك تفتح أمامنا إمكانية التفاعل مع اللامتناهي”.
الوجه الإنساني
هو يتقيّد بالمبدأ نفسه بينما يعرض الوجه الإنساني على الشاشة: نابذاً التعبير الوجهي كوسيلة لتوصيل الأفكار، فإن تاركوفسكي يحاول “الوصول إلى المشاعر الأعمق والأوغل، ليذكّرنا ببعض الذكريات والتجارب الغامضة، الخاصة بنا، فيغمرنا، ويحرك أرواحنا مثل كشفٍ يستحيل تأويله بأية طريقة”.
هذا الموقف يتصل بمفهوم الصورة كما حددها لوي ديلوك وجان إبشتاين في العشرينيات من القرن الماضي بوصفها المقوّم الفذ للوسط السينمائي. وكانا يريان بأن الكاميرا تمتلك القوة القادرة على استخلاص الكثافة النفسية –العاطفية من الوجه الإنساني.
العديد من اللقطات القريبة للممثلة مرجريتا تيريكوفا (في فيلم المرآة) تبدو جميلة على الشاشة على نحو يفوق الوصف، خصوصاً عندما تدير عينيها نحو العدسات: تحديقتها اللطيفة لكن الثاقبة يمكن مقارنتها بالتحديقة النافذة التي توجهها سيلفانا مانيانو نحو المتفرج في فيلم بازوليني “أوديب ملكاً” (1967) عندما ترضع ابنها المولود حديثاً في الحقل الخالي. مثل بازوليني، تاركوفسكي يوظف تحديقة الممثلين لتأسيس اتصال مباشر بين مشاعرهم الشخصية والحميمة، والإدراك الحسي الغريزي عند المتفرجين. الطريقة التي بها يصوّر هذان المخرجان الوجه الإنساني في لقطات قريبة تتجاوز الإستخدام المألوف والمعتاد للتحديقة في السينما السائدة كأداة لتوصيل رسائل منطقية وعقلانية. عوضاً عن ذلك، التحديقة عندهما تعني تكثيف تواصل المتفرجين مع العالم الداخلي للشخصية.
من فيلم “المرآة”
الدلالة الظاهراتية لرؤية تاركوفسكي الحلمية تتكئ على التفاعل بين التمثيلي والسوريالي: المتفرج يشعر بأن شيئاً ما “خاطئاً” بشأن الطريقة التي تبدو فيها الأمور على الشاشة، لكنه غير قادر على اكتشاف “برهان” كافٍ لتكذيب الأحداث المقدمة على أساس المنطق اليومي. نتيجةً لذلك، اللقطة تكون “مقصيّة” شعرياً في التقليد الأفضل للشعراء الشكلانيين والفنانين البنيويين الروس المشاهير، الذين أصروا على ضرورة أن يكون المتفرجون واعين دائماً في اختبار العمل الفني كتحويل أو كترجمة ذاتية للواقع. في هذا الموضع يكمن إختلاف الصورة الحلمية عند تاركوفسكي عن الصورة عند بيرجمان: في “الفراولة البرية” Wild Strawberries، على سبيل المثال، مشاركة بطل بيرجمان كرجل عجوز في أحداث شبابه لها دلالة حلمية موضوعاتية على نحو صريح بالتباين مع بطل تاركوفسكي في “المرآة”، الذي يصبح جزءاً من الحالة الحلمية التي تحركها الطريقة التي بها تُعرض الأشياء على الشاشة، وليس بما تعنيه.
في أحد المشاهد، الشاب إجنات يظهر في الحجرة مع امرأتين تختفيان، على نحو يتعذّر تفسيره، في اللقطة التالية. على الرغم من عنصر المفاجأة، هذا التنافر الظاهراتي ليس شبيهاً بالحلم كما هو الحال مع اللقطة القريبة اللاحقة للبقعة المبتلة التي جفت على الطاولة حيث كانت المرأتان جالستين قبل لحظات. البنية التصويرية للسطح اللامع، الرسم المتموّج للبقعة، الضوء المتغيّر واللون، كل هذا يجعل اللقطة القريبة تبدو محيّرة بطريقة مماثلة للومضة الخاطفة للهب مصباح الغاز القديم الذي يراقبه إجنات فيما يمرّ بحالات لونية متنوعة وهو في طريقه إلى الإنطفاء. إن تركيز الكاميرا الموجع على التغيّرات البطيئة لبنية الإضاءة له تأثير هذياني على المتفرج، الذي يبدأ في إدراك الظاهرة العادية بطريقة مختلفة تماماً: التركيز غير العادي على المظهر البصري للعملية الطبيعية (الصمت لا يُقطع إلا بطقطقة متكررة للهب يخمد) يلغز الحقيقة الشائعة، خالقاً جواً غريباً ومخيفاً.
الغموض المعرفي للقطات تاركوفسكي مقصود منه تحويل انتباه المتفرج من المعنى التمثيلي للحدث المسجّل إلى المعنى الواقع وراء نطاق الخبرة، حتى عندما لا يتعامل الفيلم صراحةً مع محتوى الحلم. في Stalkerبعض من أكثر اللقطات سحراً وفتنةً، المشبّعة بحالة شبيهة بالحلم، تنتجها وسائل تصويرية محضة، والتي كلها “تعكس” الذهنية المحبطة للشخصية.. التحويل النفسي لرغبة الشخصية في الهروب من شيء جائر ومستبد إلى شيء يوفّر الحرية.
من بداية الفيلم، التنفيذ السمعي- البصري للقطات في الحانة (التي جدرانها تبدو أشبه بنقوش تجريبية نافرة وهائلة) يمنع النزعة التلقائية عند المتفرج لقراءة الصورة فقط بوصفها تمثيلاً للواقع. عوضاً عن ذلك، هذا التنفيذ يدعو المتفرج إلى غمر نفسه في الإيقاع الواهن للفعل ومحيطه، متماهياً مع العالم الهذياني الذي فيه تجد الشخصية الأمان الروحي.
سكون الكاميرا
المتعقب Stalker ، الذي يقتفي ويسعى، يقرّ لفظياً بنيّته على الإنتقال، مع زوجته وابنته، إلى المنطقة Zone من أجل “العيش في أمن وسلام، حيث لا أحد يستطيع أن يؤذينا”. لكن آماله تتلاشى ما إن يصل، هو ورفيقاه، إلى الغرفة المركزية التابعة للمنطقة: الكاميرا هنا تصبح ساكنة، كما لو واقعة في شرَك فضاء عدائي، بينما الشخصيات تتحرك بلا هدف (في الأغلب، في موازاة محور متعامد للكاميرا) خالقةً تكوينات مختلفة ضمن اللقطة. بعد أن تبقى مركزة على المجموعة لفترة من الوقت، تبدأ الكاميرا في التراجع، تاركةً إياهم معزولين في المسافة، وعبر اتساع الكادر تتكشف لنا برك صغيرة خلّفتها الأمطار. الوسائل السمعية البصرية، التي تعمل كمنبهات حسيّة قوية أكثر مما تعمل كرموز تصويرية، تنقل إحساساً قوياً بالعزلة والإنسلاب. لهذا السبب، بدلاً من قراءة فيلم Stalker من وجهة نظر أيديولوجية/ بيوغرافية (سيرة ذاتية)/ سيكولوجية (تحليل نفسي)، يبدو الأكثر تسويغاً وإثارةً هو استنطاق بنية الفيلم كصور حلمية مرسومة عبر وسائل سينمائية تثير استجابة حسية عند المتفرج.
من فيلم “ستالكر”
المتفرج لا يختبر فقط رحلة الدليل إلى المنطقة Zone بانفاقها الواقعة تحت الأرض، وأنابيب المياه العملاقة، ومنشآتها المعدنية التالفة، بل أيضاً المقدمة والخاتمة اللتين تدوران في الشقة وفي الحانة.
في التقاط المظهر الذي لا يوصف شفهياً من العالم المادي، تاركوفسكي قبل كل شيء يستخدم الإضاءة لتحقيق “لا شفافية” – حسب تعبيره – اللقطات (على سبيل المثال: اهتزاز الأشياء وحركتها غير المفسرة، الاختفاء المتعذر تفسيره للأشياء، التجسيد غير المتوقعللدخان، الضباب، المطر، النار، الريح، والريش العائم)، والذي يتمم الكثافة الفلسفية للحوار. لكن كل هذه الرموز الخاصة بعالم الحلم ممثّلة على الشاشة بوسائل سمعية- بصرية يستحيل معها توصيل “ما لا يوصف” شفهياً: المطر، النار، الضباب، الريح، الأرض – عند تاركوفسكي – مختبرة على الشاشة كظواهر سينمائية أكثر مما هي مرئية كقوى طبيعية.
التجريد السينمائي يكون ظاهراً أكثر قرب نهاية الفيلم، عندما تركّز الكاميرا بؤرتها على ابنة الدليل أو المتعقب stalker التي يكشف وجهها الجامد عن تركيز متوحّد: في البداية نحن لا نرى غير جانب من وجهها يحتل مقدمة الصورة (بينما هي محمولة على كتفيّ أبيها)، شعرها مغطى بلفاع ملوّن، بينما المنظر الطبيعي في الخلفية يتغيّر من محيط مضبّب إلى تصميم لوني زاه. في المشهد الختامي، فيما زوجة الدليل تحاول أن تخفّف عنه لحظاته الأخيرة، نرى التعبير الوجهي للصغيرة يماثل التعبير الكئيب على وجه أبيها. إنها تحدّق في الكأسين (أحدهما ممتلئ إلى نصفه بسائل) وجرّة على الطاولة، وتبدو مسترخية جسمانياً، مع ذلك فإن تحديقتها تطلق شحنة خارقة للطبيعة. بينما الكاميرا تتراجع تدريجياً فوق السطح اللامع للطاولة، الأشياء الثلاثة الموضوعة على الطاولة تبدأ في التحرك، على نحو إعجازي، على سطح الطاولة، في اتجاه الكاميرا، حتى يسقط الكأس الفارغ على الأرض مع صوت ارتطام متضخم. على نحو متزامن، الصوت المتقطع المتواتر، لقطار يقترب (رابطاً، مجازياً هذه المرّة، نهاية الفيلم ببدايته) يمتزج مع نباح كلب وضوضاء طاولة تهتز. الكاميرا، مغيّرة اتجاه حركتها، تدنو ببطء من الصغيرة، التي تغمض عينيها فيما تريح رأسها على الطاولة، بوجه طاهر ومتحرّر من أي انفعال، بينما موسيقى بيتهوفن تطغى على قعقعة قطار يغادر. الكاميرا تواصل اقترابها من الصغيرة حتى تحصر وجهها في لقطة قريبة، بعينين مغمضتين، فيما الموسيقى تتصاعد تدريجياً لتبلغ ذروتها كتمجيد لعبثية الحياة الجدلية – المعادل السينمائي للبيان الذي يقدمه الدليل بعد إدراكه بأن المنطقة الغامضة هي مظهر جوهري، وضروري، من الوجود الإنساني.
تحدي السرد التقليدي
إن الكشف الروحي للواقع في السينما، والذي يقوم به تاركوفسكي، يتحدى المفهوم التقليدي الصارم للسينما السردية بوصفها متوالية خطية من الأحداث التمثيلية المصورة. في خلقه صور الحلم التي طاقتها الحركية تتخطى الرصد المجرد للواقع، فيما يوفّر تجربة فذّة لا تكون ممكنة إلا في السينما، يبرهن تاركوفسكي أن التجريب الحقيقي في الفن لا يعني مجرد استخدام حيل أو وسائل بصرية بل إنجاز بنية سينمائية مركّبة ومعقّدة، “الشكل الذي يصبح هو الأقرب في توصيل العالم الداخلي للمبدع ويجسّد توقه إلى المثل الأعلى”.
كل صنّاع الفيلم المبدعين انشغلوا حد الإستغراق بمعضلة التعبير عن الأفكار والغايات بلغة بصرية وسمعية، متحدّين بذلك الاعتقاد بأن هذا الوسط لا يلائم إلا الحركة البدنية والأداء الدرامي.
لقد برهن تاركوفسكي، بطريقة خلاقة، على أن من الممكن تحقيق صور حلمية شعرية ضمن النوعية السردية، شريطة أن يتم تخطي القصة بتأثير حركي مؤهل لتوليد شيء أكثر رحابة روحياً، وأكثر كونية، وضمنه يتجسد عالم كامل من المشاعر والأفكار والرؤى.
من الجلي أن الشعور، الأكثر حدّة، بالروحانية التي يختبرها تاركوفسكي، في أحلامه وتخيلاته وهلوساته، لا يمكن توصيلها من خلال الكلمة المنطوقة وحدها، وإنما في الأغلب من خلال الصور السينمائية التي تمثّل انطباعات المبدع المتخلقة بواسطة منطق الحلم، والمتشكلة بطريقة ملائمة لعملية التفكير أوالحلم.