الشر داخل الرحم: أفلام الرعب تحب الأمهات!
يقول بريان دي بالما مخرج فيلم الرعب الشهير “كاري” (1976): ” إنّ النساء الواقعات في الخطر يكنّ أكثر نجاحًا في أفلام التشويق، فإذا كان هناك بيتٌ مسكونٌ تتجول فيه امرأة تحمل الشمعدان فإنّك ستشعر بالخوف عليها أكثر مما ستفعل نحو رجلٍ عريض المنكبين”.
فكيف لو كانت المرأة هذه أم “مختلّة” تعيش في البيت المسكون مع أطفالها؟
النساء ترى الشبح أولًا
تُجمع المصادر على أنّ “القلعة المسكونة” (1896) من إخراج الفرنسي جورج مِيلْيِيسْ، هو أول فيلم رعب مُسجّل في العالم، وخلال أكثر من مئة عام تطورت أفلام الرعب واشتبكت مع غيرها من الحقول السينمائية وتفرّع عنها جُملة من أنواع الأفلام (الجانرات) مثل: أفلام الرعب القوطي، وأفلام الرعب النفسي، وأفلام الزومبي، وأفلام المستذئبين، وأفلام السلاشِر slasherوهي التي تحكي عن قاتلٍ مخبولٍ يترصد ضحاياه، النساء الجميلات غالبًا، ليقتلهم ببشاعة وبأداة حادّة (مشرط) مثل فيلم “مانياك” Maniac(1980) والذي يظهر على ملصقه رجلٌ لا نرى وجهه يمسك بيمنيه سكينًا وباليد الأخرى رأسَ امرأةٍ شقراء.
طالما شكّلت أفلام الرعب مجالًا هامًا ومحوريًا للنقاد والأكاديميين والباحثين في مجالات علم الاجتماع والنوع الاجتماعي والنّسوية، الأمريكيين والبريطانيين تحديدًا، وانغمسوا فيه تمامًا بحثًا ونقدًا وتفكيكًا، وقد تعددت الرؤى والأفكار وزوايا التحليل ولكنّها اتفقت على أمرٍ وحيدٍ وهو أنّ أفلام الرعب عدسة مكبّرة لرؤية الهلع الاجتماعي وتعقيداته حول النساء وخياراتهنّ وعلاقاتهنّ مع أجسادهنّ، ومع الرجال، ومع السُلطة.
في بدايات أفلام الرعب كنّا نرى البطلة/ الضحية تركض بملابسٍ ممزقةٍ قبل أنْ يُنقذها رجُلها الوسيم، أو يفتك بها الوحش إذا كانت سيئة الحظ، ومع احتدام الحركات النسّوية ظهرت في السبعينات شخصية “الفتاة الأخيرة” وهي الناجية الوحيدة التي تجابه الشر في نهاية الفيلم: قاتل متسلسل، شبح، قوى خارقة للطبيعة، الشيطان، إلى آخر أنماط الرعب، وتقضي عليه وهي غارقة في الدماء والعرق والسوائل اللزجة ولا بدّ أن تكون ملابسها ملتصقة بجسدها الجميل، ويعود الفضل في صياغة مصطلح “الفتاة الأخيرة” إلى الأستاذة الأمريكية المتخصصة في الدراسات السينمائية كارول جيه. كلوفر، في كتابها فائق الإمتاع “رجال، ونساء، ومنشار كهربائي: النوع الاجتماعي في أفلام الرعب الحديثة” الصادر في 1992، وقد أوضحت كلوفر أنّ هذه النوعية من الأفلام تُظهر النساء كبطلات حقيقيات، إذ تعيش البطلة بعد قضائها على “الرعب” إلى الأبد لتحكي القصة، وهو التفصيل الذي يُخالف وجهة نظر أخرى يرى أصحابُها أنّ جوهر أفلام الرعب هو كراهية النساء، إذ يظهرن دائمًا كضحايا عاجزات، وعرضة للعنف البدني والنفسي والجنسي، وكلما كانت البطلة مغوية كلما كان موتها أكثر بشاعة.
وقد ذهب البعض هنا لأقصى اليمين أو اليسار في رؤاهم النقدية إذ يعتقدون بأنّ للسياسة دورًا محوريًا في طغيان مشاهد العنف الحادّة التي تتعرّض لها النساء في الأفلام الأمريكية، وأنّ سياسة الحزب الحاكم نحو خيارات النساء الجنسية والاجتماعية هي السبب الأكثر تأثيرًا في ذلك، فكلما كان البيت الأبيض “محافظًا” على “قيم العائلة” التي تؤكد على ضرورة التمثّل بمعايير الشرف الجسدي، والعذرية والأمومة الحقّة كلما كان موت النساء الخارجات عن هذه القيم في الأفلام أكثر بشاعة وكلما عانت الأمهات العازبات أكثر، وأنّ التباين، على سبيل المثال، بين نوعية الأفلام في فترة حكم ريغان/ بوش من جهة وبيل كلينتون من جهة أخرى شديد الوضوح حسب وجهات نظرهم.
لقطة من فيلم “سايكو” لهيتشكوك
في البحث الموسوم بـ”الأم الصالحة: تحليل رعب الأمهات العازبات في أفلام الرعب الهوليوودية المعاصرة” يستعرض جون لويس الأستاذ في كلية الفنون في جامعة نوتِنغهام، آراء عددٍ من الباحثين والأكاديميين حول أفلام “السلاشر” آنفة الذكر، ومنها ما صرّحت به سوزان جيفوردز مؤلفة كتاب “أجساد صلبة: رجولة هوليوود في عهد ريغان” (1994): “إنّ أحد أبرز الإنجازات التي حققها الرئيس رونالد ريغان هو النجاح في شيطنة مجموعة معينة من الناس..() فالنساء اللاتي اخترن إقامة علاقات جنسية خارج مؤسسة الزواج لم ينتهكن التعاليم الدينية فقط بل استنزفن اقتصاد البلاد لكونهنّ اخترن عدم الزواج بعد الإنجاب لمجرد الحصول على مزيد من الدعم الحكومي”، وعليه فإنّ مشاهد الفظاعة التي تتعرض لها البطلات في هذه الأفلام ماهي إلا تخويف حادّ لهنّ من الخيارات التي تُعارض رؤى الحزب الجمهوري.
ويؤيد جيفوردز في رأيها هذا أستاذ الدراسات السينمائية والتلفزيونية في جامعة إيست إينغليا مارك يانكوفيتش الذي يقول إنّ عددًا من النقاد قد عبّروا عن استيائهم من هذا النوع الفرعي (أفلام السلاشر) إذ يرون بأنّ معظم مشاهد العنف كانت موجهة ضد النساء خاصةً اللاتي انتهين لتوهنّ من ممارسة الجنس.
أما الناقد الإنكليزي الشهير روبِن وود (1931– (2009 فيقول: “إنّ أكثر مشاهد العنف إثارة للرعب تميل إلى أن تكون موجهة ضد النساء خاصة اللاتي يُقاومن التعريف الذي تُحدده معاني العذرية، الزوجية، الأمومة”، أي تلك التي رُوّج لها في عهد الرئيسيين الأمريكيين ريغان/ بوش كجزء أصيل من قيم العائلة الأمريكية.
وفي الوقت الذي تتراجع فيه أدوار البطولات النسائية الرئيسية في أفلام الحروب، والأفلام التاريخية، والمغامرات، والأبطال الخارقين، تتقدّم في أفلام الرعب بوضوحٍ كاملٍ، ومهما تغيّرت الروايات لابدّ من حسناء مذعورة تسير في الظلام في مشهدٍ تم استهلاكه واعتصاره تمامًا لآخر قطرة.
لقد كان الرعب في البدايات السينمائية يتواجد في الغابات المظلمة، والقلاع، والقصور العتيقة، ثمّ تطوّر ودخل البيوت، ثم دخل أجساد النساء ومنه إلى رَحِم المرأة.
البيت/ الأم/ الرَحِم: ثلاثة كيانات مُخترقة
– هل تخرج مع أصدقائك؟
– أفضل صديق للصبيّ أمّه
البيت الجسد الرحم
إنّ صانعي أفلام الرعب يحبون تعذيب الأمهات، أو تعذيب أسرهنّ بهنّ، فهنّ “آلات” ترويع جاهزة للعمل في أي وقت، فكل ما يتعلق بعواطف الأمهات ورغباتهنّ ومخاوفهنّ وعلاقتهنّ مع أبنائهنّ، الذكور تحديدًا، مادة خصبة للغاية لصناعة شريط سينمائي مميز وجاذب للجمهور لا سيما مع وجود تلك العضلة المعجزة، الرَحِم، التي يخرج منها الإنسان، أو الشيطان، أو كلاهما. وباعتبار أنّ الرعب يقع في أرضية يتنازعها الجنس والعواطف والدين فإنّ شخصية الأم في الدراما تبلغ ذراها، فهي ليست امرأة فقط، بل امرأة مارست الجنس أيضًا.
إنّ الثواني التي يتم فيها التلقيح أثناء العلاقة الجنسية تحولت في السينما إلى ساعاتٍ من الفزع، لحظات تستجلب الكثير من ردود الفعل المتناقضة: الإجلال والتحقير والاحتفاء، فإذا لم يتساءل الإنسان عن “مصدره” ويلعنه في نفس الوقت فعن ماذا سيتساءل إذن؟
وبين ممارسة الجنس وخروج “الكائن” من الرحم/ البيت، نقّب صانعو أفلام الرعب مطولًا، في كل هواجس الأم الحامل: جنس الجنين، صحته، شكله، وأعراض الحمل: القيئ، وآلام الصدر، وانقلاب الهرمونات واكتئاب ما بعد الولادة، ومتطلبات الوحام بدءًا من اشتهاء تناول أطعمة غير مألوفة إلى الرغبة في التهام الطفل نفسه!
طفل روزماري
أحد أشهر الأفلام التي تناولت هذا فيلم “طفل روزماري” (1968) Rosemary’s Baby لرومان بولانسكي عن رواية بنفس الاسم للروائي والكاتب المسرحيّ إيرا لِفِن (1929-(2007 وفيه أدّت ميا فارّو أحد أروع أدوارها على الإطلاق: روزماري الزوجة الشابة التي تحمل بعد وصالٍ جنسيٍّ غامضٍ بجنينٍ يحولها إلى امرأة شاحبة بعينين حزينتين، وبقصّة شعر “بِكسي”، نفذتها فارّو بنفسها وليس المُصفف فيدال ساسّون كما هو شائع، أجلستنا على أطراف مقاعدنا ونحن نراها تحاول النجاة بابنها من الخطر الذي يحيطها من كل جانب ولكنّها تفشل، إذ أن الكابوس قد استقرّ في بيتها/جسدها/ رحمها بالفعل منذ تلك الليلة الفاصلة.
وفي أول مشاهد فيلم “اليتيمة” (2009) من إخراج جاوم كولّيت_سيرّا، نرى ولادة شديدة الإيلام للأم كايت (فيرا فارميغا) فتصرخ وهي تشاهد مولودها قطعة حمراء دامية وسط ضحكات الأطباء ثم تصحو من الكابوس الذي أصبح يراودها بعد فقدانها لرضيعتها، فتحاول وزوجها (بيتر سارسغَرد) تعويض الهوّة النفسية بتبنّي طفلة من إحدى الدور فيتحوّل بيتها إلى كابوس أشد فظاعة.
لقطة من فيلم “غريس”
في نفس العام جاء الفيلم الكندي “غريس” Grace للمخرج بول سولِت، وفيه تطالعنا مشاهد للأم مادلين ماثِسُن (جوردَن لادّ) ودلوٌ من الدماء الثخينة يخرج من بين ساقيها حتى من قبل ولادتها الفعلية لطفلتها غريس التي رجعت للحياة بعد موتٍ قصيرٍ جراء حادث سيارة مات فيه والدها مايكل (ستيفِن بارك)، ولكنّها عادت من “الغيب” بعادة سيئة وهي اشتهاؤها للدماء التي لا تتوانى الأم المحبّة في توفيرها لها حتى لو من خلال القتل، ثم ينتهي بالصغيرة الأمر إلى التهام اللحوم فنراها في آخر مشهد للفيلم وقد التهمت جزءًا من صدر أمها، وإذا استعرضنا ملصق الفيلم نرى قنينة الرضاعة ممتلئة بالدماء وذبابة تبدو شرهة ويعلوها عبارة: حُبّ لا يموت!
وخلال أكثر من خمسة عقود طالعتنا العديد من أفلام الرعب التي تدور حول “مصدر” الساكنين في أجساد النساء وطرق خروجهم من الرحم/ البيت بأساليب تثير جُملة من المشاعر المختلطة: “ما وراء الباب” 1974، “إنّه على قيد الحياة” 1974، “ذي برود” 1979، “ذي أنبرون” 1991، “إنسايد” 2007، “ديلفري: ذي بيست ويثِن” 2013على سبيل المثال.
أم وحيدة، خائفة ومخيفة
تقوم أفلام الرعب على فكرة أساسية وبسيطة وواضحة: كلما كان الخطر قادمًا من مصدرٍ غير متوقع كلما كان ذلك أكثر رعبًا، المقبرة لا تكون أكثر إخافة إلا عند اكتشاف أنّها حديقة المنزل الوارفة التي تسكن فوقها الأسرة السعيدة الغافلة، ولا يكون البيت مخيفًا أكثر من المقبرة إلا بأم وحيدة عاجزة عن حماية ابنها كما يجب، فتتحول الأم الحنونة العطوف ذات السلطة الجبّارة الممنوحة لها طبيعيًا إلى “أمّنا الغولة” كلمحٍ بالبصر. وهل من رعبٍ أشد من غولٍ لديه صلاحية الأمهات؟
هنا تصبح الأمومة التي تعدها المجتمعات أعلى “شرف” ممكن أن تحصل عليه المرأة مصدرَ الخوف على الأبناء، خاصةً إذا كانت هذه الأم وحيدة دون رجل يحميها ويحمي الأبناء منها، فتُصبح أفلام الرعب تنويعًا جديدًا ومستمرًا للاختبارات التي تحب المجتمعات أن تضع النساء تحتها، المجتمعات التي تخاف من المرأة الوحيدة وتشفق عليها وتؤذيها، والأمهات في أفلام الرعب غالبًا بدون زوج، إما بسبب الطلاق، أو الترمل، أو عدم الزواج من والد الأبناء، أو بغياب الأب لأداء مهامه الرجولية خارج البيت، فيضعن بين دور الأب/ الرجل ودور الأم/ المرأة ليفشلن في النهاية بعد أن يتسببن بكارثة في بيوتهنّ، كارثة تستحق أن يُصنع من أجلها فيلم رعب.
الأم في أفلام الرعب “معيوبة” للغاية، تدمر بيتها إمّا بالإهمال، أو بالاهتمام الزائد، أو بالتسلط، أو بالزواج مرة أخرى، أو ببساطة عند إحضار لعبة لابنها (كما سنرى لاحقًا) وإذا نجت من هذا كله فلن تنجو من لحظة تُخطيء فيها حساباتها ليتحول أمر بيتها إلى جحيم حقيقي، فما هي الجريمة، مثلًا، التي ارتكبتها الأم كاثرين ثورن (لي رِمِك، 1935- 1991) في فيلم “النذير” ((1976 لتربي الشيطان شخصيًا في بيتها الجميل؟ لا شيء تقريبًا.
سايكو
قدّم آلفرِد هيتشكوك (1899– (1980 في فيلم الرعب النفسي الاستثنائيّ “سايكو” قصّة مُتقنة تدير الرؤوس، الشاب نورمان بايتس (آنتوني بيركِنز) يقيم مع والدته، التي نراها ولا نراها، في منطقة بعيدة نسبيًا ويختبر علاقة أوديبية معها، ويقول عنها لماريون كرين (جانيت لي) إنّها شديدة الغيرة عليه من النساء الجميلات اللاتي ينزلن في الموتيل الذي يملكانه.
إنّ “سايكو”، مثل سائر أفلام هيتشكوك، من أكثر الأفلام السينمائية التي طالتها مشارط النقّاد والباحثين، وبغض النظر عن نتيجة هذه الاشتباكات، فهذا الفيلم يُجسّد ببراعة نوعية العلاقة الخاصة والملتبسة بين الأم العازبة وابنها الوحيد.
في فيلم “طارد الأرواح الشريرة” The Exorcist( (1973لوليم فريدكِ، عن قصة وليام بيتر بلاتي (1928– (2017 الذي حقق نجاحًا ضخمًا على مستوى العالم، قدمت إيلين بِرستِن دور الممثلة والأم العازبة (كريس مِكنيل) للطفلة ريغان (لِندا بلير) التي يتلبّسها الشيطان بعد أن تشترك والدتها في لعبة تحضير الأرواح عقب الانتهاء من تصوير آخر أفلامها، تتطور حالة ريغان بشكل مخيف بحق فتُقدّم أكثر مشاهد أفلام الرعب أيقونية وأشهرها مشهد هبوط ريغان من الدور الثاني بسرعة وكأنّها عنكبوت مقلوب. الأم العازبة لم تكتفِ فقط بإهمال ابنتها وتركها لساعات طويلة في التصوير، بل بتوريطها مع الشيطان نفسه بتصرفاتها غير المحسوبة، من وجهة نظر صنّاع الفيلم طبعًا.
لقطة من فيلم “لعب عيال”
في 1988 قدّم المخرج توم هولّاند أول فيلم من سلسلة أفلام “تشايلدز بلاي” (لعب عيال)، الأم كارِن باركلي (كاثرين هِكس ) تعيش مع ابنها آندي (آليكس فِنسِن) بمفردهما وكل الأمور تسير على ما يُرام، إلى أن تُقرر في أحد الأيام شراء دمية له فتتغير حياتهما للأبد إذ يتضح أن روح القاتل المتسلسل تشارلز راي (براد دوريف) تسكن الدمية، إنّه فيلم آخر شديد الإدانة للأمهات دون سبب يُذكر.
في 1999 كان الفيلم مختلفًا على نحوٍ ما، الطبيب مالكوم كرو المختص بعلم نفس الأطفال (بروس ويليس) يُقابل الطفل غريب الأطوار كول (هالي جول أوسمنت) الذي كان الأموات يفضون له بأسرارهم، فيُحاول الطبيب بكل جهوده أن يعالجه ويساعده في التخلص من هذه الموهبة غير المرغوبة، أين الأم العازبة في الفيلم؟ إنّها لِن (توني كوليت) والدة كول التي تقف على حافة الجنون محاولةً القيام بدوري الأب والأم في حياة ابنها فتخفق في كليهما، فيُصبح تدخّل الطبيب/الرجل هو الحل الذي ينقذ علاقتهما للأبد.
في 2001 طالعتنا غريس ستيورات (نيكول كيدمان) وهي تصرخ بألمٍ شديد في المشاهد الأولى لفيلم “الآخرون” من إخراج آليخاندرو آمينَبار، أم عازبة شديدة الحزم والفتنة، “تطير كالفراشة وتلسع كالنحلة” خاصةً حين يتعلق الأمر بولديها آن (آلاكينا مانّ) ونيكولاس (جايمس بنتلي)، تُصرّ غريس أنّ يسير كل شيء حسب تكتكة الساعة حتى يعود زوجها الذي ذهب للحرب، ولم نره سوى مرة واحدة عاد فيها ليمارسا الجنس ثم يختفي مع الصباح. مشكلة غريس أنّها تريد حماية ولديها من “الآخرين” إلى الحد الذي جعلها تتصرف باعتبارهما جزءًا منها وكأنّهما لم يغادرا بيتهما الأصلي/ رحمها. غريس أم متدينة مؤمنة باليوم الآخر ولكنّها ترفض تصديق ما تقوله ابنتها أنّ البيت تسكنه الأشباح، حماية غريس الخانقة جعلت رئيسة الخدم الجديدة (فيونولّا فلانَغَن) تتدخل في طريقة إدارة غريس للأمور لتتضح النهاية الفاجعة في آخر الفيلم.
الفيلم الأسترالي/ الكندي “بابادوك” من تأليف وإخراج جنيفر كِنت (هنا مخرجة امرأة لأول مرة) يُصوّر نموذجًا مختلفًا عن غريس، إيمليا (إيسّي ديفيز) أرملة حديثًا وأم لصامويل (نواه وايزمان) وهو طفل “مختلف” قليلًا عن أقرانه، وفي الوقت الذي كانت فيه غريس تحمي أبناءها من كل شيء حتى من ضوء الشمس، فإنّ إيمليا أم صريحة لا تخجل من التعبير من عدم رغبتها في أن تكون أمّا من الأساس، وأنّها تتمنى لو كان ابنها هو من مات بدلًا من زوجها، نرى إيمليا تنقطع عن ممارسة العادة السرية عند دخول ابنها عليها في تصوير لطغيان واجبات الأمومة على رغبتها الأنثوية الطبيعية، إنّه الوقت الأنسب إذن لتدخّل ثالثهما: بابادوك: الكائن الشرير الذي يفرض نفسه بقوة لا تُرد في حياة الأم الوحيدة وابنها الوحيد.
نيكول كيدمان في لقطة من فيلم “الآخرون”
“لدبح لك طير الحمام”
إنّ قائمة أفلام الرعب التي تتقدمها الأمهات كبطلاتٍ طويلة بحق، إنّه هاجسٌ عالميٌ طال أهم الصناعات السينمائية الدولية، وستستمر هذه الأفلام في الحركة والتوالد في دوائرها المغلقة إلى اللامعلوم، وستظل الأمهات مفجوعات على الشاشات ويتعذبن بأمومتهنّ ويُعذّبن بها ويذبحن “طير الحمام” لمجرد أن ينام أبنائهن حتى لو كان ذلك من دون طائل، لقد سنّت المجتمعات، وكل المجتمعات أبوية بطريقة أو أخرى، نمطًا واحدًا لشكل الأمومة الصالحة، وعليه فإنّ الأم الصالحة هي الأم التي لا يُمكن أن تكون قصة لفيلم رعب، وستظل العلاقة بين الأم وأبنائها حقلًا عريضًا تركض فيه المخاوف والآمال والغرائز والأمنيات، وكما قالت المخرجة غريتا غِروِغ في حفل افتتاح أوسكار 2018لإحدى المذيعات: “إذا استوقفتِ أي سيدة في الشارع لتسأليها: كيف علاقتك مع والدتك؟ فإنّ الإجابة ستكون طويلة فعلًا”، وهذه “الإجابة الطويلة” هي التي قد تجيب على السؤال المطروح بقوة: لماذا أفلام الرعب تُحب الأمهات؟
* كاتبة من اليمن