السينما الإيطالية بعد الحرب: التحرير والواقعية الجديدة
إعداد وترجمة: غسان حسون
مع فيلم “روما مدينة مفتوحة “، الذي صوره روسيلليني بين عامي 1944و 1945 في ظروف فوضوية مختلفة وصعوبات اقتصادية. عادت إيطاليا إلى صدارة السينما العالمية. بعد ذلك بوقت قصير، أصبح مصطلح ” الواقعية الجديدة ” الشامل شائعا. وقد استخدم بالفعل في ثلاثينيات القرن العشرين للإشارة إلى الأدب والفنون التصويرية. ووفقا ل لوتشينو فيسكونتي كان أول من استخدمه في السينما هو المحرر ماريو سيراندري عام 1943 في إشارة إلى فيلم “هوس”.
لم تكن الواقعية الجديدة مدرسة – كما سماها الفرنسيون “المدرسة الإيطالية للتحرير” – أو تيارا فنيا، بل جزءا من توجه عام نحو الواقعية في السينما في ذلك الوقت، مقدمة طريقة جديدة للنظر إلى واقع إيطاليا التي مزقتها الحرب وواقع المقاومة وتمثيلهما.
وقد تميزت ليست بمواجهتها المباشرة للقضايا الجماعية الراهنة، بل أيضا بدافعها إلى اقتراح حلول إيجابية لتلك المشاكل، إن تجديد الأشخاص والأشياء بعيد كل البعد عن التحول الاشتراكي، والأخوة ليست مثل التضامن الطبقي.
لم تقدم سوى أفلام قليلة رؤية ماركسية خفية للواقع: فيلم “الشمس لاتزال تشرق” لألدو فيرغانو، وفيلم “الأرض تهتز” لفيسكونتي وكلاهما اُنتج عام 1948 . استخدم الأول، الذي أنتجته الرابطة الوطنية للثوار الإيطاليين (ANPI )، الدعاية والميلودراما لتسليط الضوء على البنية الطبقية لإيطاليا (ممثلة بقرية لومباردية) تحت الاحتلال الألماني. أما الثاني فكان اقتباسا حرا من فيسكونتي لرواية جيوفاني فيرغا الشهيرة ” مالافوغليا ” (1881 )، التي تروي كفاح عائلة من الصياديين الصقليين لتحرير أنفسهم من الفقر والاستغلال.

كان لدى معظم المخرجين وكتاب السيناريو والفنيين المشاركين في الواقعية الجديدة سنوات من الخبرة. يتجلى فضل دي سيكا لكاميريني جليا، وكذلك فضل روسيلليني للخبرة التقنية لدى روبرتيس. فيلم آخر كان للتاثير الحاسم اثر بالغ في توسيع الآفاق الثقافية التي قام بها أمبرتو باربارو، ولويجي كياريني في المركز التجريبي وفي مجلتي ” بيانكو إي نيرو” (التي تاسست عام 1937) و “سينما” 1936، للتين ساهم فيهما كتاب ومخرجون مستقبليون مثل، كارلو ليزاني، وجوزيبي دي سانتيس، وجياني بوتشيني وأنطونيو بيترانجيلي . وركزت مجنوع أخرىعلى الأجواء الثقافية الصاخبة في ميلانو . وشملت ألبرتو لاتوادا ولويجي كومينشيني، و دينو ريسي. كما كانت التاثيرات الأجنبية بالغة الأهمية: الواقعية الفرنسية (وخاصة جان رينوار) والسينما السوفيتية، والسرد الأمريكي (ساهمت مختارات إيليو فيتوريني: أمريكانا ” الصادرة 1941 مساهمة كبيرة في “اسطورة أمريكا” السائدة في الثقافة غير الرسمية في السنوات الخيرة من الفاشية).
كان روبرتو روسيليني الشخصي البرز، والمخرج الأكثر أصالة، في حركة الواقعية الجديدة، وكانت أعظم أفلامه “بايسا ” 1946 و”المانيا السنة صفر 1947. وكان أول من نأى بنفسه عنها، متبعا مسار أكثر خصوصية ونفسية، أكثر ارتباطا بالأخلاق منه بالمجتمع. إلى جانب “ثلاثية الحرب ” لروسيليني، تتضمن قائمة أهم الأعمال الرئيسية للواقعية الجديدة ثلاثة افلام على الأقل من إخراج دي سيكا “سيوسيا” (فيلم “تلميع الأحذية ” عام 1946 )وفيلم” سارقو الدراجات” عام 1948 ) وأمبرتو دي عام 1952و وفيلمين من إخراج فيسكونتي (فيلم ” الأرض المتجمدة 1948 وفيلم “بيلسيما” 1951 ) وبدلا من إرساء تسلسل هرمي للقيم، يمكن الاشارة إلى الأشكال المختلفة التي اعتمدتها الواقعية الجديدة : الجدل الاجتماعي لجوزيبيدي سانتيس بإيقاع الميلودراما الاجتماعية في فيلم ” الأرز المر ” 1949″، والجدل الأخلاقي للويجي زامبا في فيلم ” العيش بسلام ” 1946. الرسومات البروليتارية الكوميدية لريناتو كاسيلاني (” تحت الشمس الرومانية “)1948و ( “اثنتان من الأمل”) 1951، الطبيعة الروائية لبييترو جيرمي التي تقلد اسلوب السينما الأمريكية في “باسم القانون” 1949، “طريق الأمل ” 1950، الحكاية الشعبوية لدي سيكا وميراكولو زافاتيني في فيلم “معجزة في ميلانو” 1950 والانتقائية الأدبية لألبرتو لاتوادا في فيلمي ” اللص” 1946 و “بلاشفة” 1948.

أصبح وضع حد لتطور السينما الواقعية الجديدة عرفا نقديا وكذلك استخدام المصطلح نفسه. إلا أن الكاتب والناقد فرانكو فورتيني، الذي كتب عام 1953يرى أن المصطلح خاطىء، ان الصطلح الأنسب هو “الشعبوية الجديدة “، إذ عبرّت الواقعية الجديدة عن ” رؤية للواقع تقوم على اولوية “الشعبي”، مع مايترتب عليه من الإقليمية واللهجة، ومكواناتها من اللاشتراكية المسيحية والثورية والطبيعية والواقعية الوضعية والإنسانية.
أما فيما يتعلق بنقطة النهاية، فإذا كانت الحكاية تبدأ في عام 1945 ب “روما المدينة المفتوحة” فيمكن القول إنها تنتهي مع أومبرتو في عام1952 . وسرعان ما دخلت في أزمة لا رجعة فيها لسباب خارجية وداخلية. ومن بين الأسباب الداخلية وجود بيئة ثقافية غير ملائمة. فقد تسللت أربعة تيارات فكرية إلى الحياة الفكرية الإيطالية في فترة مابعد الحرب: الماركسية والوجودية وعلم الاجتماع والتحليل النفسي. وفي الواقعية الجديدة، كان هناك تلميح إلى التيار الأول، وبالكاد أي أثر للتيارات الأخرى. حتى أكثر منظريها أصالة، سيزار زافاتيني، في اقتراحه رفض الشخصية لصالح “الشخص الحقيقي” ز والانغماس في الحياة اليومية، ورفض الخيال، دفع المخرجين إلى نسيان التاريخ، وفقدان القدرة على تصوير العلاقات الجدلية بين مختلف عناصر الواقع. اصبح الهدف من تصوير الحياة اليومية ذريعة للرسم، وتحول الواقع إلى مشهد خلاب،وانزلقت الفورية الجديدة إلى اللون المحلي ( عادة الروماني أو الجنوبي) وطغى الالتزام الاجتماعي على التقاليد الشعبية والتقاليد الإيطالية القوية ولكن المتناثرة للهجة .، حتى في افضل الأفلام هناك جو من القصة القصيرة أو الجزء بدلا من الرواية من الرواية الكاملة.
في عام 1953 كان كلا الفيلمان الواقعيان الجديدتن الباقيان من افكار زافاتيني، عبارة عن أفلام حلقات (نحن النساء) و (الحب في المدينة ). مع فيلم “السقف” 1955 ل دي سيكا وزافاتيني، دخلنا عصر الحركة السينمائية.
في هذه الاثناء، ومع فيلمي “فرانشيسكو جولياري دي ريو” 1950 و”أوربا 51″، انطلق روسيليني في رحلته التي ستقوده إلى ” فياجيوفي ايطاليا” 1954، بينما شهد فيلم “إحساس” لفيسكونتي 1954، الذي عُرض في بريطانيا تحت عنوان ” الكونتيسة الفاسقة ” سعيه وراء موهبته في الميلودراما. في الواقع، يبدو من الصعب بالنظر غلى الماضي، جمع مخرجين متنوعين مثل روسيليني وفيسكونتي ودي سيكا وآخرين تحت مسمى واحد، لكن تنوعهم الملحوظ في السنوات التي تلت الواقعية الجديدة هو ما يثبت وجود قضية مشتركة قوية، رابطة قوية جمعت بينهم لفنرة من الزمن.
كان الترابط في نهاية المطاف هو نتاجا للاضطرابات السياسية والمدنية الوجودية التي أعقبت الحرب، والانتقال من الديكاتورية إلى الديموقراطية، وآمالها ومشاريعها وأوهامها بالتغيير.
كان هناك اسباب خارجية لفشل الواقعية الجديدة. ففي عام 1948، أدى الفوز الانتخابي للديمقراطيين المسيحيين إلى الانهيار النهائي للجبهة الهشة المناهضة للفاشية، والتي كانت أحد المصادر الأيديولوجية للحركة. وقد عزز العداء الناشىء خللا الحرب الباردة بين القوتين العظميين الانقسام العميق للبلاد إلى معسكرين متخاصمين. شهدت خمسينيات القرن العشرين تحول إيطاليا من دولة زراعية إلى دولة صناعية، ولكنها شهدت أيضا تفاقم الاختلال الاقتصادي والاجتماعي بين الشمال والجنوب.
استخدمت سياسات الديمقراطيين المسيحيين الوسطية الشرعية الديموقراطية كذريعة بدلا من أن تكون حافزا للمسؤولية المدنية . على الصعيد الثقافي اتسمت خمسينيات القرن العشرين بالجمود والهيمنة الدينية، وبالصراع الانقسامي بين جبهتين . ونتيجة لذلك، اعتُبرت السينما الواقعية الجديدة فنا وثقافة معارضة، أكثر مما كانت عليه في الواقع، والباتالي، استهدفتها الطبقة الحاكمة. واتخذت المعركة المؤيدة والمعارضة لها سمات سياسية وايدلوجية واضحة، بدلا من أن تكون ثقافية وفنية، وهذا بدوره صعّب على ممارسيها إجراء مراجعات وتطويرات بناءة في اسلوبهم . ويشهد على ذلك، على سبيل المثال، تردد اليسار في تبني أسلوب روسيليني اللاحق ومبالغته المشوهة في تقدير عدد من المخرجين ” التقدميين”.
سنوات الرخاء
بمعايير عديدة، كانت خمسينيات القرن العشرين ” سنوات الرخاء” – كما يشير العنوان الساخر لفيلم “زامبا” 1953 – بالنسبة للسينما الايطالية. في عام 1955، وهو أول عام للتلفزيون في إيطاليا، بلغت مبيعات شباك التذاكر ذروتها عند 89 مليون، وهو رقم لم يصل اليه أحد من قبل. ارتفع عدد الأفلام المُنتجة عام 1945 من 25 فيلما إلى 62 فيلما عام 1946، و 104 أفلام عام 1950، ووصل إلى ذروته عام 1954 عند 201 فيلم، ثم انخفض إلى 133فيلما عام 1955، ليصل إلى 167 فيلما عام 1959 . ومع سيل الأفلام الأمريكية، التي غالبا ماكنت تُنتج منذ أربع أو خمس سنين، والتي غمرت السوق في نهاية الحرب، لم تحقق الأفلام المنزلية سوى جزء ضئيل من إيرادات شباك التذاكر، ومع ذلك، ارتفعت هذه االنسبة من 13% في سنوات ما بعد الحرب مباشرة إلى 34% في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين لتصل إلى 36% عام 1954 ثم تتجه نحو ذروة بلغتت 50% في نهاية العقد. ثم انطلق عصر نجمات “الجنس” – جينا لولو بريجيا وسيلفانا بامبانيني. كما حقق هذا النوع من الميلودراما الشعبية نجاحا ملحوظا من خلال مخرجه الأعم رافائيلو ماتارازو- كاتيني (فيلم ” سلاسل ” عام (1949 وفيلم “عذاب ” 1951 وفيلم ” لا أحد أطفال” 1951، بالإضافة إلى فيلم “جوزيبي فيردي “1953 وممثليه المحبوبين الثنائي أميدو نزاري وإيفون سانسون .

في الكوميديا، كانت هناك ظاهرة غير عادية لتوتو – المهرج الأكثر إلهاما في النصف الثاني من القرن – والذي كان فيلمه “توتو” بالألوان لعام 1955 أول فيلم إيطالي في فيرانيا كولور، وظهور ألبرتو سردي كنموذج حقيقي لرذائل وفضائل الإيطالي المعاصر. في مجال دراما الأزياء الملحمية، أو”العملاق”، واجهت هوليوود تحديا خاصا بها من خلال فيلم “يوليوسيس” لكاميريني 1954 مع كيرك دوغلاس. حرب وسلام الملك فيدور 1956. فيلما “العاصفة “1958 للمخرج لاتوادا، وفيلم “الماخا العارية” 1958 للمخرج هنري كوستر. مهدت هذه الأفلام الطيق لظهور نوع جديد من الأفلام، وهو الفيلم التاريخي الأسطوري، الذي بدأ بفيلم “أعمال عرقل ” 1958 للمخرج بييترو فرانسيسكو، كما حقق ما يسمى بالواقعية الجديدة الوردية نجاحا متواصلا، من خلال فيلمي “الخبز والحي والأحلام 1953 للمخرج لويجي كومينسيني، و”فقيرة لك جميلة” 1956 للمخرج دينو يسي وغيرهما.
خلال خمسينيات القرن العشرين، عرفت سينما سينيسيتا بـ “هوليوود على نهر التيبر”، لكن النشوة التي اجتاحت المدينة كانت هشة وزائلة. كان على الصناعة أن تدفع ثمن نظام إنتاج فوضوي وإدارة متهورة وغير منظمة. لم تكن سلسلة شركات الإنتاج والتوزيع المفلسة سوى أحد أعراض المشكلة. على مستوى السينما الفنية “الراقي” حلت ثلاثيات فيسكونتي- فيليني- أنطونيوني محل ثلاثيات أربعينيات القرن العشرين: روسيليني – دي سيكا – فيسكونتي . بعد فيلم ” الأرض تهتز” 1948 الذي يمثل نزعا من مسرحية الغموض الماركسية الساحرة أكثر من كونه تميدا للواقعية الجديدة كما رآه العديد من النقاد ( في الماضي كان فيلم “الحاسة” 1954 حيث برز ولعه بالرومانسية المدنسة والانهيار. إلى جانب فيلمي ” الفهد2 ” و” لودفيغ”1972، يظهر فيلم الحاسة أكثر من أي فيلم آخر صفات فيسكونتي كخبير في الإخراج السينمائي الفاخر، وللتوفيق بين ميوله الثقافية وانسانيته التقدمية العلمانية، وبين نطاق الرواية،وشغفه بالميلودراما. من ناحية أخرى يروي فيلم ” روكو وإخوته” (1960) مصير عائلة تهاجر من الجنوب إلى ميلانو في سنوات الازدهار، ويمثل الفيلم عودة للواقعية الجديدة، ونوعا من الاستمرارية لفيلم” الأرض تهتز”. كان العمل الشعبي على الصعيد الوطني (على حد تعبير أنطونيو غرامشي) هو ماركز عليه فيسكونتي منذ بداية مسيرته الفنية كان انطونيوني وفيليني أبرز مخرجين برزا في خمسينيات القرن العشرين . كان مايكل أنجلو أنطونيوني قد وضع نفسه بعيدا عن الواقعية الجديدة منذ فيلمه الأول ” سجل قصة حب ” 1950من خلال تحليله الواضح والمركّز على علم النفس البرجوازي.

ومنذ ذلك الحين .، وبعناد قارب الرتابة أحيانا، واجه مواضيع ومشاكل أو بالأحرى، عصاب، مجتمع الراسمالية الجديدة: الأزواج والأزمات العاطفية، والوحدة، وصعوبات التواصل، والاغتراب الوجودي افلامه عن “كآبة” الأزمات الرأسمالية، حيث تُعد السيرة الذاتية المغطاة بطبقة رقيقة سجلا للعصر. يهدف رفضهم لهياكل الحبكة التقليدية، واصرارهم على “الزمن الميت” أو ركود الأحداث الدرامية، إلى استعادة الأهمية السببية الكاملة للأحداث والظواهر. تشمل أفلامه في تلك الفترة فيلم “الصرخة” 1957 وثلاثية” المغامرة” 1960و”الليل” 1961و”الكسوف”1962.
إذا كان أنطونيوني يبدو أوربيا، بإلهامه وطبعه، فإن فيديريكو فيلليني، على العكس من ذلك، بدا ريفيا للغاية، عالقا بين روما وموطنه رومانيا. بعد فيلمي ” الشيخ الأبيض” 1952و “الكسالى” 1953، اللذين اتسما بسخرية غريبة، بل وساخرة أحيانا، بفضل سيناريو الكاتب إنيو فلايانو، والذي ظل متجذرا في سياق اجتماعي محدد، انتقل فيليني إلى عالم ثاقب داخلي ورؤيوي، سينما من منظر الشخص الأول مع فيلم “الطريق ” 1954. ومن مشهد” الطريق” الباهر، كانت تلك خطوة صغيرة نحو عرض الذات الذي بدأ بفيلم ” الحياة الطيبة” 1960 وهوفيلم يمثل نقط تحول في تاريخ السينما الايطالية.
مراجع
ابرا، أدريانو و بيستاجينسي، 1979، الثلاثينيات الرائعة.
بوندانيلا، بيتر 1990، السينما الايطالية: من الواقعية الجديدة إلى الحاضر.
برونيتا، جيان بييرو، مائة عام من السينما الايطالية .
تاريخ السينما الايطالية، المجلد 1 أنا : 1905 – 1945.
تاريخ السينما الايطالية المجلد 2 : من عام 1945 إلى الثمانينيات.
فرانكا فالديني، وغوفوريدو فوفي 1979، تاريخ السينما الايطالية المغامر كما رواها أبطالها.
ليبرون، بيير 1972، السينما الايطالية.
ماركوس، ميليسنت 1986 و، الفيلم الإيطالي.
