السوريالية والسينما.. تبادل الأنخاب مع الأشباح (1 من 2)
عذرية الشاشة المرعبة
الشيطان العظيم، ذو الأسنان البيضاء اللماعة والأذرع العارية، يتكلم على الشاشة بلغة رائعة.. لغة الحب، وكل البشر يصغون.
أمام الشاشة يتعيّن علينا أن نفتح أعيننا، أن نحلل المشاعر التي تحولنا، أن نفسرها في سبيل اكتشاف سبب ذلك التسامي الذي تحسّه ذواتنا. أية فتنة وجاذبية جديدتين نجدهما – نحن المتخمون بالمسرح – في هذه السيمفونية السوداء والبيضاء.. أكثر الوسائط فقرا، والمجرّدة من الطيش اللفظي والمنظور المسرحي؟
إنه ليس مشهد العواطف والرغبات المتشابهة على نحو أبدي، ولا – كما يود المرء أن يعتقد – النسخ المكرّر والأمين لمشاهد طبيعية تضعها وكالة توماس كوك في متناول أيدينا، بل تمجيد تلك المواد والأشياء التي، دونما حيلة أو خداع، يستطيع ذهننا الواهن أن يرفعها إلى المرتبة الأسمى للشعر.
البرهان على ذلك يكمن في الضجر الذي نحسه إزاء الأفلام التي تستلّ عناصر غنائيتها من المستودع البالي للأفكار الشعرية القديمة التي صارت معروفة ومباحة: الأفلام التاريخية، الأفلام التي يموت فيها العشاق بسبب ضوء القمر أو الجبال أو المحيط، الأفلام الدخيلة، الأفلام التي تحمل كل الأعراف القديمة. في حين تتوجه أحاسيسنا وانفعالاتنا نحو أفلام المغامرات الأمريكية التي تتحدث عن الحياة اليومية، وتنجح في رفع مواد بسيطة وعادية إلى مستوى درامي: ورقة نقدية تجذب انتباهنا على نحو آسر، مسدس فوق طاولة، زجاجة، عند الاقتضاء، تصير سلاحا، منديل يفشي عن جريمة، آلة كاتبة هي أفق منضدة، شريط تلغرافي ذو شفرات سحرية تثري أو تدمّر المصرفيين.
الأطفال، هؤلاء الشعراء دون أن يكونوا فنانين، أحيانا يركزّون انتباههم على شيء ما إلى درجة أن قوة التركيز تجعل هذا الشيء ينمو ويزداد حجما بحيث يحتل مجالهم البصري كليا، فينتحل مظهرا غامضا ويفقد كل صلة بهويته وغايته، أو نجدهم يرددون كلمة ما بشكل متواصل إلى حد أنها تجرد نفسها من المعنى وتصبح صوتا حادا، بلا غاية ولا خاصية، والذي يدفعهم إلى الصياح أو البكاء.
بطريقة مماثلة، على الشاشة نجد أن الأشياء التي كانت منذ لحظات قليلة محض قطع من الأثاث أو كتب أو تذاكر، صارت تكتسب مدلولات غامضة أو مهدّدة. هذا التركيز العاطفي يفتقر إليه المسرح، لهذا هو أقل تأثيرا.
إضفاء قيمة شعرية (لم تمتلكها بعد)، وحصر مجال الرؤية على نحو مقصود من أجل تكثيف التعبير: هذان هما الخاصيتان اللتان تساعدان في جعل الديكور السينمائي محيطا ملائما للجمال المعاصر.
إذا كانت السينما اليوم لا تكشف عن حقيقة كينونتها، أو ما ينبغي أن تكونه، بوصفها استحضارا قويا، حتى في أفضل الأفلام الأمريكية التي تخوّل شعر الشاشة لأن يتحرر من فوضى الاقتباس المسرحي، فذلك لأن الفيلم لا يدرك خاصياته الفلسفية رغم أنه أحيانا يمتلك وعيا حادا بجماله. كنت أتمنى أن يكون صانع الفيلم شاعرا أو فيلسوفا.. كذلك المتفرج الذي يحكم على العمل الفني.
الأفلام، وحدها، هي معهد السينما.. تذكر ذلك. هناك سوف تجد المادة النافعة، شريطة أن تتمكن من التعرّف عليها والتقاطها. هذا الابتكار ليس مدّعيا: شارلي شابلن يحقق الشروط التي ينبغي التأكيد عليها بإلحاح. إن احتجت إلى نموذج أو مثال فانظر إليه.. هو وحده الذي بحث عن المعنى الجوهري للسينما. وفي محاولاته الدءوبة، المتواصلة، استطاع أن يسحب الكوميديا تجاه اللامعقول والمأساوي.
يجب على السينما أن تحاذر: جميل أن تكون مجرّدة مما هو لفظي، لكن يجب أن يحل الفن محل الخطاب، وذلك يستلزم ما هو أكثر من التمثيل الدقيق، الصارم، للحياة.
غير أن السينما تنزع لأن تظل سلسلة متوالية من الصور الفوتوغرافية. “التصوير” المثالي ليس هو اللقطة الجميلة، وليس كافيا البحث عن صانعي أفلام ممسوسين بالحس الجمالي، فهذا لن يقودنا إلى مكان معيّن، بل سوف يتركنا مهملين في البرد.
نحن بحاجة إلى جمالية جديدة وجريئة، بحاجة إلى الاحساس بجمال معاصر. وفق هذا الفهم، سوف تتحرر السينما من الخليط العتيق، الملوّث، السام، الذي يربطها بالمسرح: عدوها.
أمر حيوي أن يكون للسينما موقع في اهتمامات الحركة الطليعية، فلديها مصممون ورسامون ونحاتون، ينبغي اللجوء إليهم إذا أردنا جلب شيء من النقاء إلى فن الحركة والضوء.
فن السينما ينتمي بعمق إلى هذا العصر، لذا لا يجب ترك مستقبله بأيدي رجال الأمس. أنظر أمامك من أجل العون، ولا تخش جرح مشاعر أولئك الذين يدلّلونك ويتساهلون معك، إعلم بأن أولئك الذين يحملون عبء هذه المهمة، لابد أن يتوقعوا عدم الفهم والازدراء والضغينة. لا ينبغي أن يكبح ذلك جماحهم. كم هو رائع أن يهتف الحشد ضد الفيلم. لقد آن الأوان كي يصفع شخص ما وجه الجمهور ليرى إن كان ثمة دم تحت الجلد.
متى، قبل أن تضاء الشاشة العارية، سوف يكون لدينا ذلك الاحساس بالعذرية المرعبة، بالوعي الأبيض، لقماشنا؟
آه، ياللنقاء! يا للنقاء!
لوي أراغون، 1918
حياة نشربها كالحليب
ولدت السينما مباشرة بعد أن شعرت أعين الفرنسيين بالإنهاك والضجر من مشاهدة “شرائح من الحياة” الأزلية، على خشبة المسرح، المرّة تلو الأخرى، وعندما كانت مسارح المنوعات وحدها القادرة على تحريك عواطفنا المسكينة التي أذبلها الشعر.. للحظة على الأقل.
لكن سرعان ما بدت الخدعة أكبر مما كنا نتوقع. الأفلام كانت تافهة، مملة، وجديرة بالرثاء. إنها حتى لم تكن غبية إلى حد يكفي لكي تجعلنا نحتج ضدها.. لقد أراد كتّاب السيناريو أن يصلوا إلى الناس بأي ثمن.. أن يصلوا إلى أولئك الذين بهم تزدهر الميلودراما والكوميديا العاطفية.
لكي يجعلوا دموع الجمهور تفيض، بذر صانعو الأفلام الأذكياء مقدارا وافرا من الزهور الزرقاء الصغيرة على السيلولويد. والجماهير بدأت تبكي، لكن من فرط الضحك. كنت ترى فتاة صغيرة يختطفها غجر أنذال ثم يعثر عليها ذووها من طريق الصدفة، أو أماً مسكينة مع دزينة من الأطفال يضربهم الزوج السكّير المتوحش، وفي النهاية يثأر لهم الخمر والهذيان الارتعاشي الناشئ عن الإدمان.
آنذاك، لم يعد أي شيء ممكنا.
ضجر الأمسيات، الذي يطفو مثل دخان سيجارة ويجعلك تتثاءب إلى أن ينحدر النوم، كان يزهر في الأنفاس المتقدة لبعض الأفراد الشباب.. أصدقائي.
كنا نسير في الشوارع المهجورة والباردة بحثا عن حادثة، لقاءٍ مفاجئ، حياةٍ ما. ولكي نذهل أنفسنا، كان علينا أن نشدّ تخيلاتنا إلى أحلام حسّية. الجرائد، التي كانت أكثر غنى بالألوان من خرائط العالم، أذهلتنا للحظة أو اثنتين. مقابل بضعة بنسات كنت تستطيع أن تعبر العالم وتشهد الدراما الدموية، المدهشة، التي للحظةٍ كانت تضيء نقطة ما على سطح الكرة الأرضية. كنا في غاية العطش إلى تلك الحياة القوية والغريبة، تلك الحياة التي كنا نشربها مثلما نشرب الحليب.
يوما ما رأينا ملصقات هائلة، طويلة كالأفاعي، تغطي الجدران. في كل منعطف، ثمة رجل – ملثم بمنديل أحمر – يصوّب مسدسه نحو مارّة لا مبالين. كنا نحسب أننا نسمع عدْو فرس، صوت سيارة، صرخات موت. انحدرنا صوب صالات السينما وأدركنا أن كل شيء قد تغيّر.
لقد فهمنا أخيرا أن السينما ليست دمية مكتملة ومثالية، بل أنها راية الحياة الرائعة والمدهشة. الصالات الصغيرة المظلمة، التي جلسنا فيها، صارت مسرحا لانفجارات الضحك والغضب وإحساسنا العظيم بالزهو. بأعين مفتوحة على سعتها، طالعنا الجرائم والرحلات والظواهر النادرة. لا شيء كان أدنى مرتبة من شعر عصرنا.
لم نكن نفهم ما يحدث. كنا نعيش في سرعة، وبشغف. كان زمنا جميلا، وبلا شك ثمة أشياء أخرى عديدة ساهمت في جماله، لكن السينما الأمريكية كانت إحدى أروع مفاخره.
فيليب سوبو، 1924
هذيان واع في مملكة خارقة
تم الإعلان عن ميلاد تقنية جديدة. فورا جاء الفلاسفة راكضين مسلحين بمعضلات زائفة ومضللة: هل السينما فن أم شيء آخر؟ هل هي جديرة بالاهتمام؟
قال البعض: “السينما مجرد شكل متكامل من أشكال التصوير”.. رافضين بذلك الاعتراف بهذا الاكتشاف الجديد.
المتطرفون، الذين لا مفر من وجودهم في أي مجال، اتخذوا الموقف المضاد. قالوا: السينما ليست فناً فحسب، بل أنها – علاوة على ذلك – سوف تمتص تدريجيا كل الفنون الأخرى (محاضرة مارسيل ليربيه التي نشرت العام 1923) وبرهانهم على ذلك أن السينما تحل محل فن العمارة (القصور في فيلم لص بغداد) والموسيقى (فرقة جاز زنجية تعزف لحنا في أحد الأفلام) والرقص (فالنتينو يرقص التانغو).
إذا كانت الاستجابات تُستخلص وفق هذا المنطق المضحك، فسوف يجعلوننا نؤمن بأن طعامنا في المستقبل سوف يُستبدل بصورة شارلي شابلن والطفل وهما يأكلان بنهم طبقا من الفطائر.
كيف نرى مستقبل السينما؟.. هذا سؤال واقعي أكثر، وللإجابة عليه يتعيّن علينا أن نتأمل، على نحو موجز، مسألة نشوء وتطور الفنون الأخرى.
إننا ندرك بأن كل فن يتبع، في دورته وتحوّله، المخطط العام ذاته: إنه يفلت، أولا، من التلويث الأدبي (التخلي عن الرسم الرمزي والموسيقى ذات الثيمة الرئيسية) ثم يتمرّد على قيود المنطق – الذي يعتبر عنصرا عقلانيا يكبح الحرية الحسيّة – في سبيل استقصاء مبادئه وقواعده الموجهة وفق تقنيته الخاصة (التكعيبية، الانطباعية الموسيقية).
بعدئذ نستطيع بسهولة أن نتنبأ بالمرحلة الثالثة: الفنانون، في توقهم الشديد للتحرر الشامل، سوف يزيحون الركيزة الأخيرة للتقنية ويطالبون بحقهم في استحضار، ومن ثم التلاعب – دون أي تكيّف – بالمادة الحقيقية التي تشكّل أساس فنهم.
نحن لا نرغب في حجب التبسيط المفرط لهذه الأفكار، أو المجازفات الكامنة فيها، لكن لا أحد يستطيع أن يفنّد هذا الاستنتاج: في تطوّر كل فن تأتي مرحلة، قد تكون مؤلمة أو لا تكون، يتجاهل فيها الفنان كل سلطة ذات منشأ عقلاني أو منطقي لكي يستجوب الإمكانيات التقنية لفنه.
يبدو، بالنسبة لنا، أن السينما قد وصلت الآن إلى هذه المرحلة.
سنتحدث هنا قليلا عن حركة أدبية ليست حديثة المنشأ والأصول، لكنها تظهر نفسها في الحاضر بطريقة صاخبة جدا: ونعني السوريالية. نحن الآن نعرف السمة الجوهرية للأطروحات السوريالية (والتي نجد أصدق تعبير لها في بيان السوريالية الذي كتبه أندريه بروتون): إن النشاط اللاواعي للعقل – الذي تركّز حوله اهتمام عام من خلال أعمال مفكرين مثل فرويد وبابنسكي، أو روايات مؤلفين مثل مارسيل بروست – قد أصبح مرتكزا للحياة الذهنية. الغرض الرئيسي للفنان، من الآن فصاعدا، أن يسبر ويستكشف الواقع في حلم أسمى من ذلك الواقع الذي يقترحه علينا التفكير المنطقي، وبالتالي، الاستبدادي.
السوريالية، من جهة، تظهر نفسها كنقد للأشكال الموجودة في الأدب، من جهة أخرى، كتجدّد تام للمجال والمنهج الفنيين، بل ربما كتجديد لأغلب القوانين العامة للنشاط الإنساني.. باختصار: الإطاحة الشاملة بكل القيم.
ثمة حقيقة ملفتة للنظر وهي أن اعتراضاتنا على تطبيق النظريات السوريالية على الأدب تتلاشى وتفقد قيمتها ما إن تطبق في حقل السينما. هنا، أكثر من المجال الأدبي، صحة وخصوبة الأطروحة السوريالية تبدو أخّاذة ومدهشة.
الاعتراض على المنهج (صعوبة توحيد الوعي واللاوعي على المستوى نفسه) لا يصمد عندما يتعلق الأمر بالسينما، ففي هذا المجال ينسجم الشيء المرئي بدقة مع الهذيان الواعي. لندخل صالة السينما حيث الشريط السينمائي المخرّم يطلق في الظلام صوتا كالخرير. ذلك الشعاع المضئ يقود نظرتنا إلى الشاشة والتي، لمدة ساعتين، سوف تظل ثابتة ومركّزة عليها: الحياة في الخارج تفقد وجودها، متاعبنا ومشاكلنا تتلاشى، جيراننا يختفون، جسدنا نفسه يخضع لنوع من الانسلاخ المؤقت الذي يقصي الاحساس بوجوده الخاص. نحن في هذه الحالة لسنا سوى عينين مثبتتين بإحكام إلى الشاشة البيضاء.
أندريه بروتون، الذي يرغب في ترسيخ سمو الحلم، يكتب: “إن ذهن المرء الذي يحلم قانع تماما بما يحدث له. والسؤال المؤلم عن الاحتمال لن يظل مطروحا”. ويتساءل بروتون: “أي سبب، أي سبب أفضل من آخر، يمنح الحلم هذا الإغراء الطبيعي، ويجعلني أرحّب – دون تحفظ – بحشد من الأحداث التي تصعقني غرابتها في ما أكتب؟” .
الإجابة على هذا السؤال تكمن في ما يدعوه تين Taine”الميكانيكية المختزلة للصور”. حين نكون في حالة يقظة، الصور التي تتدفق وتجيش في خيالنا تملك مظهرا واهنا وشاحبا مما يساعد، عن طريق التباين، على بروز وفعالية الصور الحقيقية التي نتلقاها من خلال حواسنا. هذا الاختلاف يكفي لأن يجعلنا نميّز بين الواقعي والمتخيّل. أما في النوم فتكون حواسنا معطلة، أو بالأحرى، توسلاتها لا تعبر عتبة الوعي، وينعدم التباين المختزل، بينما سلسلة الصور المتتابعة المتخيّلة تحتكر الواجهة، إذ لا شيء يعارضها ويناقضها، بالتالي فنحن نؤمن بكينونتها الفعلية. في اليقظة نتخيّل الحقيقي والممكن في آن، بينما في الحلم نتخيّل الممكن فقط.
في السينما نرى حشدا كاملا من الشروط المادية تتآمر لتدمير “الميكانيكية المختزلة للصور”. عتمة الصالة تخرّب منافسة الصور الحقيقية التي قد تتعارض مع صور الشاشة. من المهم صد الانطباعات التي يمكن أن تصل إلينا عبر حواسنا الأخرى: من منا لم يلاحظ الطبيعة الخاصة للموسيقى في السينما؟ إنها، قبل أي شيء آخر، تخدم في محو الصمت الذي قد يدعنا نعي أو نتخيّل ظواهر سمعية ذات نظام واقعي والتي ربما تخرّب الاستثنائية الضرورية للرؤية.
قد يبدي البعض اعتراضه قائلا بأن هذه الشروط مشتركة بين جميع أشكال العرض والفرجة، حتى في المسرح يكون الظلام موظفا لتسهيل تركيز الجمهور على الخشبة. لكن لننتبه إلى أن الأفراد الذين يمثلون على خشبة المسرح لهم حضور مادي، ويتحركون ضمن محيط ثلاثي الأبعاد ويعيشون وسط جلبة الحياة الطبيعية. إننا نقبلهم كأخوة لنا، كأنداد، بينما الكاميرا تتوق إلى تقديم وهْم الواقع بواسطة صورة زائفة ذات طبيعة بصرية على نحو فريد. الهذيان الفعلي مطلوب هنا، والشروط الأخرى للسينما تنزع إلى دعمه وتقويته، تماما كما في الحلم. الصور المتحركة التي تفتقر إلى ثلاثية الأبعاد وتتبع كل منها الأخرى في مستوى واحد هي مؤطرة اصطناعيا بمستطيل أشبه بثغرة هندسية تشرف على المملكة الخارقة للطبيعة.
غياب اللون (استخدام الأسود والأبيض فقط) يمثّل تبسيطا اعتباطيا مشابهاً لما يستقبله المرء في أحلامه. التتابع الفعلي للصور في السينما يملك خاصية اصطناعية تساهم في إبعادنا عن الواقع. استمرار الصور، على نحو مثابر، في اتجاه شبكية العين – الأساس الفسيولوجي للسينما – يوحي بتقديم حركة مماثلة لحركة الواقع ذات الاستمرارية الحقيقية، لكننا ندرك جيدا بأنه مجرد وهْم، صورة خادعة، حيلة حسيّة لا تستطيع أن تخدعنا بشكل كلي. أخيرا، إيقاع الأفراد، الذين نراهم يتحركون على الشاشة الصامتة، ذو خاصية متقلبة تجعلهم يبدون كأقارب للأفراد الذين يسكنون أحلامنا.
في السينما، كما في الحلم، ليس ضروريا البحث عن تفسير أو تبرير لأفعال الشخصيات. حدث يلي آخر، وهذه الأحداث تلتمس التسويغ في ذاتها وبمعزل عن الأشياء الأخرى. إنها تتلاحق بدرجة كبيرة من السرعة إلى حد أننا بالكاد نملك الوقت لاستدعاء التعقيب المنطقي الذي قد يفسّرها، أو على الأقل يربطها.
السينما، إذن، تصوغ هذيانا واعيا، مستفيدة من التحام الحلم والوعي، هذا الالتحام الذي ترغب السوريالية في أن تراه موظفا في الحقل الأدبي. إن الصور المتحركة تضللنا، وذلك بتركنا في حالة إدراك مشوش، سامحة لنا باستحضار – إذا اقتضت الضرورة – موارد ذاكرتنا. (عموما، السينما تقتضي منا، فقط، ذاكرة تكفي لربط الصور).
“الصورة الأقوى هي تلك التي تملك أعلى درجة من الاعتباطية”.. هكذا صرح بروتون الذي أورد، من بين الأمثلة الأخرى، هذه الصورة من فيليب سوبو: “كنيسة كانت تنتصب برّاقةً مثل جرس”. إن كلمة “كنيسة” المشتملة – بفضل اللغة – ضمن نظام من العلاقات المنطقية، تماما مثل كلمة “جرس”، تجعل عملية نطق هاتين الكلمتين والمقارنة بينهما، تستحضر هذين النظامين، وتجعلنا نقوم بعملية التطابق بينهما. وبما أنهما غير قابلتين للتجاور، فإن القارئ يلجم التسليم بالمقارنة.
من جانب آخر، عندما تعرض علينا السينما كنيسة براقة ثم، بدون أي انتقال أو تحوّل، تعرض جرسا براقا، فإن أعيننا تستطيع أن تقبل هذا التتابع. إننا نشهد حقيقتين هنا، واللتين تبرّران نفسيهما. ولو تلت الصورتان كل منهما الأخرى بالسرعة الضرورية فإن الميكانيكية المنطقية التي تحاول أن تربط الشيئين بطريقة أو بأخرى سوف لن يكون لديها الوقت الكافي لأن تبدأ في الحركة. كل ما سوف يختبره المرء هنا هو اللمحة المتزامنة تقريبا للشيئين، أي العملية الدماغية التي أوحت إلى المؤلف بهذه المقارنة أو هذا التشبيه.
العامل الرئيسي في اللغة هو دائما الطابع المنطقي. الصورة تولد وفق هذا الطابع، وتسهم في زخرفته وإضاءته. في السينما، العامل الرئيسي هو الصورة التي أحيانا – وليست بالضرورة – تسحب أسمال العقل وراءها.
لقد حان الوقت لكي يرى السينمائيون أي ربح سوف يجنونه من فتح فنهم أمام أقاليم الحلم غير المستكشفة. لكن حتى الآن لم يتم إنجاز هذا.. ربما إهمالا.
جان جودال – 1925
نادل يبهج أعيننا بالصور
يتراءى لي أن من الطيش تحديد مستقبل السينما بما أن سلالة أكثر تطورا منا قد تنشأ، والتي سوف تستسلم للوهم البصري، حيث أن عينها، الأكثر حساسية، سوف تعي بسهولة الزمن الساكن الذي يصل إطارا من الفيلم بآخر. بالتأكيد أن احتمالا كهذا لا يزعج ولا يوجع أحدا، لأنه سيكون مرضيا ضمن تقاليد السينما، التي تطورها الكامل يحمل سمة المؤقت والزائل.
المعجزة في متناول كل عين، في متناول كل جيب. فوق رؤوسنا يولّد جهاز العرض مخروطا شفافا فيه تتدلى ذرّات كهربائية، شيء يشبه المنيّ، نوع من اللقاح الذي يندفع ويبدأ في التبرعم على السطح المستطيل للشاشة. الكائنات الساكنة لا تعود ساكنة، الكون المتبلور في الفيلم والمختزل إلى سيمائه الأبسط والأقل تعقيدا هو فجأة منتزع من سباته، مفصول عن قشرته الخارجية، وهو – مستعيدا أبعاده الأصلية – يدخل كينونتنا وتفكيرنا. ها هنا، على الشاشة، ينعكس كل سطح في العالم وكل بقعة على الكرة الأرضية. ها هنا، على القماش الأبيض الرباعي الأضلاع، الذي يشبه راية الاستسلام، تلتقي الصور.
كل ما يتعيّن علينا فعله هو أن نفتح الباب ونتحدث مباشرة مع الأشباح: التعرّف يتم بسرعة. لا ستارة هنا، كما في المسرح، حيث الواقعي مفصول عن المتخيّل. إنك هنا في مستوى الخيال نفسه، تعتبره مساويا وتعامله كالندّ.
في قمرته الشاهقة يحرّك مشغّل آلة العرض كأسه البلّورية والمعدنية مثل نادل. إنه يسكب كوكتيلا من الصور في اتجاه أعيننا التي قد لا تحدّق بابتهاج دون أن تصاب بالدوار.
أشعة إكس تحتفظ بصورة الموت فقط، تصف الهيكل العظمي السري. أما هنا، فإن أشعة أخرى تُظهر الحياة وتجددها.
ألبير فالنتان – 1927