عن النقد السينمائي وثقافة الناقد ودوره

Print Friendly, PDF & Email

لا تتقدم الأمم وتزدهر إلا بمراجعة الذات والمحاسبة، ومعرفة نواحي القصور والضعف فيما أنجزت وأخفقت، في مقابل التمسك بمصادر قوتها وتنميتها والبناء عليها، إلى جانب اتباع قوانين الحضارة الحديثة.

نفس الشيء ينطبق على الفنون والعلوم الإنسانية وجميع مجالات الحياة، أي ضرورة وجود عامل النقد الموضوعي.

تحتاج الحياة الثقافية إلى أربعة أضلاع؛ كي تعمل بكفاءة وتزدهر وهي: المبدع، ومادة الإبداع، والمتلقي، والناقد الذي يغلق هذا المربع.

يظن البعض أن الناقد عنصر زائد على طاولة الإبداع، بينما غيابه يُسهّل مرور أدعياء الفن، وأنصاف المواهب، واختلاط الغث بالثمين، فعملية الفرز والتقويم تضع الأمور في نصابها الصحيح.

بالنسبة للفن السينمائي يتوجه دور الناقد إلى فئتين: الفئة الأولى هي المتفرج، حيث يقوم بمهمة الارتقاء بالذوق العام للجماهير، ورفع مستوى وعيها الفكري والفني؛ كي تصير الشعوب ذوّاقة تستطيع انتقاء الجيد من الرديء، وليست قطيعًا تسير وراء غرائزها.

أما توجهه الثاني فإلى صناع الفيلم نفسه، ودور الناقد هنا أكثر خطورة عن طريق دعم وتعزيز الاتجاهات الفنية الطليعية المغايرة للسائد والتقليدي، وشرح وتحليل جمالياتها الجديدة، ودفعها إلى التطور، وخلق تيار فني جديد بإنتاج نظرية نقدية لا تساير الإبداع السينمائي فقط بل تسبقه بأشواط. وهذا لا يتأتى إلا لناقد يتمتع بدرجة عالية من الحساسية الفنية، وثقافة رفيعة، ومناخ ثقافي حر لا يخشى من طرح الأفكار داخل منظومة كاملة قائمة على الحرية والإبداع.

لذلك فهناك بعض الأسس الواجب توافرها في الناقد السينمائي، وعيوب شائعة يجب تلاشيها في عملية الكتابة النقدية:

أولًا: يحتاج الناقد إلى امتلاك ذائقة جمالية سليمة، فطرية محبة للجمال، وحاسة قادرة على اكتشاف بواطن وخبايا الإبداع. الذائقة بذرة لا بد من رعايتها بالثقافة والتجربة الحياتية والكتابة ومراجعة الأفكار؛ حتى تصير شجرة معرفية سامقة في المستقبل. وبدون هذه الذائقة سيكون لدى الناقد مجرد تراكم معرفي ومعلوماتي يسير في اتجاهات مغلوطة؛ فيقدم أحكامًا مُضللة.

ثانيًا: الاعتناء باللغة وجماليتها، وقواعدها، وبنائها. يتناسى البعض أنه يعمل في حقل الكتابة رغم تعامله مع منتج بصري، هو في النهاية كاتب مثل الروائي والشاعر، فلا تكون أفكاره ذهبية، ثم يضعها في أوعية متسخة أو مستعملة، بل يبدع أدبًا سينمائياً قائمًا على الرصانة والشاعرية والفكر المتجاوز للحظة التاريخية. عندئذ يدخل النقد في مصاف الأدب الكلاسيكي والفن العابر للزمن.

ثالثًا: الخلط الفادح بين النقد الصحافي والنقد المنهجي، فالنقد الصحافي يقوم على الدعاية، والأخبار، والانطباعات العابرة التي يتوجه بها لقارئ متعجل، مكانه الصحف اليومية. أما النقد المنهجي فيتوجه لقارئ متذوق ومحب للسينما، أو عامل في الحقل السينمائي، يُنشر في المجلات والدوريات المتخصصة في شكل دراسات ومقالات مطولة وافية. يُبنى على منهج في تحليل الفيلم، ونظرية جمالية لمقاربة العالم الفيلمي.

يتطلب ذلك من الناقد امتلاك خلفية معرفية موسوعية من خلال الإلمام بجميع عناصر اللغة السينمائية، ومدارس النقد الأدبي والسينمائي، وعلم النفس، والاجتماع، والسياسة، وتاريخ فن السينما وتطوره، وآخر ما وصل إليه التقدم التقني، ونظريات النقد. لابد أن يكون الناقد على قدم المساواة مع فن يتطور باطراد، مهمته ربما تكون أشق من مهمة المبدع.

رابعًا: من العيوب الشائعة، الإعلاء من الأفلام ذات الصبغة السياسية اليسارية؛ لأنها تلبى حاجة نفسية وإنسانية لدى الناقد ولدينا نحن كشعوب مقهورة تعاني من الاستبداد. هذا التحيز يتجنى على الأفلام الذاتية والتجريبية ذات النبرة المختلفة عن الخطاب السينمائي. إذا يمكن أن تصنع تيارًا فنيًا بالدعم والقراءة الموضوعية؛ لذا يحضر شرط الموضوعية في النظر إلى الأعمال الفنية، ومدى تلاحم وتناغم المعنى والمبنى في نسيج واحد، وليس التركيز على الموضوع فقط، فالتنوع يحقق ثراءً وإشباعًا لدى المتفرج والمبد ع معًا.

خامسًا: يجب أن ينطلق الناقد من داخل العمل الفني، وليس من خارجه. أي تأتى أحكامه ومقارباته النقدية متجانسة مع البناء الفيلمي عن طريق تفكيك وحدات الفيلم وتركيبه وفق معطيات، ودلالات، وعلامات ظاهرة، ومن ثّم استنباط قوانين جديدة لا فرض نظريات جاهزة على كل الأنواع الفيلمية. فمثل هذا التعسف يجعل النقد والعمل الفني لا يتقاطعان في نقاط محددة. إنما يتضادان، كل منهما يسير في اتجاه بعيد عن الآخر.

سادسًا: الاعتماد على الأحكام الأخلاقية في قراءة الأعمال السينمائية، فالأخلاق لا تدخل في حساب الناقد. لا يعنى ذلك أنه ضد الأخلاق والمبادئ، إنما هو معنى بكيفية توظيف الأخلاق والبذاءات في السياق الفيلمي، ونظرة المخرج للعالم.

ويقودنا ذلك إلى تصحيح مفهوم الفن عند الجمهور. فنحن عندما نذهب إلى السينما لا ننتظر سماع موعظة، ولا دخول طقس اعتراف تطهيري، فلسنا في كنيسة، بل نبحث عن الجمال الإنساني عبر فهم الذات والآخر، والنظر إلى العالم بزاوية ورؤية جديدة.

إذا كان المخرج كبيرًا، وحقق مجدًا سينمائيًا ينبري الناقد في التهويل والمبالغات الإطرائية والمديح، ويتغافل عن حقيقة أنه لا يوجد فنان أعماله على درجة واحدة من الجودة الفنية.

في المقابل يتعسف الناقد أحيانا، ويتعنت مع المخرجين الشبان الذين هم في حاجة ماسة إلى الدعم، والتيقن من مواهبهم. هذه التفرقة في الحكم تنسحب على جميع الفنون، والعنصرية ليست بين المخرجين فقط إنما بين الفيلم الأجنبي ونظيره المحلى، سينما دول العالم الأول والعالم الثالث. ينبغي اسقاط عنصر اللغة والدين والعامل الجغرافي في تذوق الإبداع، والتعامل مع المبدع كروح فردية تخاطب العالم، تحتاج إلى الإصغاء دون مؤثرات خارجية.

ثامنًا: النظرة الجزئية أثناء التعامل مع الفيلم عبر اقتطاعه من سياق تاريخ السينما، أي مقارنته بأنواع فيلميه مشابهة؛ لمعرفة هل يعيد إنتاج نفس النوع أم يفتح أفاقًا جديدة للفيلم، أو يتعاطى معه كحلقة مفردة في مشروع المخرج دون النظر إليه كمرحلة من مراحل تطوره، أو وقوعه في فخ التكرار.

تاسعًا: الاستعلاء على القارئ باعتبار الناقد أكثر معرفة بالعملية الإبداعية، فيجلس في مقعد القاضي، يُغرِق القارئ في دوامة من المصطلحات والنظريات وأسماء مفكرين غربيين؛ للتثاقف والنرجسية مما يزيد النقد غموضًا وإبهامًا. فيما ينتظر القارئ أن تفتح له نافذة جديدة؛ كي يرى الفيلم بعيون أخرى تفك شفراته، وتكشف له طبقات وأبعاد لم يكن سيصل إليها بدونك، فيكتسب خبرة نقدية تمكنه من تمييز الجيد من الرديء.

عاشرًا: استقلالية الناقد في أن يبقى على مسافة من شركات الإنتاج والفنانين والعلاقات الشخصية، ليظل محافظًا على ضميره الفني، ونزاهته، وجذوة تمرده بعيدًا عن الأهواء الشخصية، والمكاسب الصغيرة.

بقي أن نضيف أن الناقد لا يقتصر دوره على التحليل والتقييم والتوصيف، بل إنتاج الأفكار، وإشاعة التنوير، والنهوض بحركة المجتمع، فالناقد فيلسوف، راء، مفكر، لكنه لا ينهض بمفردة، يتوقف دوره المنوط به على انتعاش الحياة السينمائية.   أن الثقافي أسير للسياسي، وانفتاح الأخير وتعدّده شرط أساسي للحياة الثقافية، فالمجتمع الحر ينتج فنًا حرًا.

Visited 1 times, 1 visit(s) today