“الذرة الحـمـراء”: واقـعـية سـحـرية بـنـكـهـة صـيـنـيـة
إن أكثر المتابعين للسينما الصينية تفاؤلاً في ذلك الوقت – نهاية ثمانينيات القرن العشرين – لم يكن ليتخيل أن يصل فيلمٌ صيني لمنصة التتويج في أي من المهرجانات السينمائية الدولية، غير أن الفيلم الصيني البديع “الذرة الحمراء” Red Sorghum استطاع صنع المعجزة بحصده لجائزة الدب الذهبي لأفضل فيلم من مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته الثامنة والثلاثين عام 1988 كأول فيلم صيني يحصد جائزة دولية من مهرجان سينمائي عالمي.
الفيلم من انتاج 1987 للمخرج جانج ييمو في ظهوره السينمائي الأول كمخرج، فقد سبق له العمل كمدير تصوير سينمائي في أفلام مثل “الأرض الصفراء” 1984 للمخرج تشين كايج، وفيلم “البئر القديمة” لـ وو نيانمنج والذي قام جانج أيضاً بأداء دور البطولة به، واستطاع أن يحوز جازئتي تمثيل عن أدائه؛ واحدة من مهرجان طوكيو السينمائي عام 1987، والأخرى جائزة الديك الذهبي لأحسن ممثل عام 1988.
فيلم “الذرة الحمراء” مقتبس من رواية بنفس الاسم لأديب الصين العظيم “مو يان” والذي سيصنع التاريخ لاحقاً بحصوله على جائزة نوبل للآداب عام 2012 كأول روائي صيني في التاريخ يحصد هذه الجائزة، وقام بدوري البطولة في الفيلم الحسناء الصينية جونج لي و الممثل الكبير جيانج وين.
جانج ييمو والجيل الخامس
ينتمي جانج ييمو للموجة الجديدة في السينما الصينية، أو ما عُرف بالجيل الخامس من المخرجين الصينيين، وذلك في إشارة للدفعة الخامسة من خريجي أكاديمية بكين للأفلام، والتي ضمت أسماءً بارزة في صناعة السينما الصينية من أمثال إي موو، وتشين كايغي.
ولكن قبل ذلك بكثير وبالعودة لبدايات الخمسينيات من القرن العشرين، فقد وُلد ييمو في أبريل من العام 1950 في خضم الثورة الصينية، ومثله مثل الكثيرين في ذلك الوقت لم يتلق تعليماً كافياً، والده كان يعمل كطبيب أمراض جلدية برتبة ضابط في جيش الكومنتانج القومي الذي تصارع مع ماو تسي تونج في حكم الصين، صعب ذلك من فرصة ييمو في الحصول على فرص تعليم أو عمل مناسبة، كما أن هروب أحد أعمامه وأخيه الأكبر إلى جزيرة تايوان والتي كانت تحت حكم القوميين الصينيين، زاد الأمر تعقيداً.
عمل ييمو في البداية في الحقول مع الفلاحين، ثم تم نقله لاحقاً للعمل بمصنع النسيج رقم 8 بمدينة شيانيانج، وخلال عمله بالمصنع لمدة سبع سنوات متتالية أغرم ييمو بالسينما وتمكن من شراء أول كاميرا تصوير عن طريق بيعه لدمائه، وبالرغم من قلة الأفلام العالمية التي كانت تصل إلى الصين وقتها إزداد شغفه بالسينما، لكنه لم ينكر اشمئزازه من الأفلام الدعائية حينئذ، وفي وقت لاحق كان يذكر:
“عندما كنا في مدرسة السينما أقسمنا لبعضنا البعض، أننا لن ننتج أفلاماً من هذا القبيل”(1).
في العام 1978 أُعيد افتتاح أكاديمية بكين للأفلام والتي كانت مغلقة منذ الثورة الثقافية، تقدم جانج بطلب للالتحاق بالأكاديمية لكن واجهته مشكلة السن، حيث كان يبلغ من العمر وقتها 27 عاماً، وقد تجاوز السن اللازمة للالتحاق بالأكاديمية، لكنه استطاع أن يقنع المسئولين باجراء استثناء له بعد أن عرض عليهم جزءً من صوره التي التقطها بكاميرته، تخرج بعدها في العام 1982 ضمن أول صف يتخرج في الأكاديمية منذ عهد ماو تسي تونج وكانت تلك هي الدفعة الخامسة في ترتيب دفعات الأكاديمية، لتمنح ل جانج ورفاقه اللقب الذي ظل ملاصقاً لهم بعد ذلك “الجيل الخامس” من مخرجي الصين.
رواية الصين.. وفيلم الصين
وُصفت رواية مو يان بأنها رواية الصين بإمتياز، وذلك نظراً لما تعكسه الرواية من روح الصين المثابرة والمقاومة لأي محتل، كذلك يمكننا إطلاق صفة الأصالة على فيلم ييموالذي أظهر الكثير من صفات المجتمع الذي ينتمي له؛ مجتمع الفلاحين الذي تتسم حياته بالغلظة والتقشف دون أن يغفل الفيلم السمة التي ميزت ييمومع أبناء جيله وهي نقد صفات مجتمعية قديمة كانت تمارس نوعاً من القهر والقمع على السيدات، وكذلك إظهار ما كان يراه البعض من المحرمات، مثل الحديث عن الجنس أو الشهوة في ذلك المجتمع الذي ظل مغلقاً لسنوات طويلة.
وكعادة معظم أفلام ييمويبدأ الحكي عن طريق راوي عليم لا يراه المشاهدون، يقص لنا حكاية جده وجدته، تلك الفتاة الريفية البسيطة التي أُجبرت على الزواج من شيخ مجذوم يكبرها في السن لكنه غني ويمتلك مصنعاً لتقطير النبيذ من الذرة الرفيعة، وفي طريق ذهابها لقرية الزوج محمولة على هودج يحمله حمالون أشداء، يعترض طريقهم قاطع طريق حاول سرقتهم والاعتداء عليها، لولا شجاعة أحد الحمالين (جد الراوي) والذي أنقذها من الاغتصاب واعجب بها وهي كذلك أغرمت به، وفي أثناء عودتها مرة أخرى لقريتها كما تقضي التقاليدالسائدة, يتقابلا في حقل الذرة الواسع وتسلمه نفسها، تتصاعد الأحداث بعد ذلك فيموت الزوج مقتولاً دون أن يُعرف من القاتل، والذي لمح الراوي باحتمالية أن يكون القاتل هو الجد نفسه، ترث الزوجة مصنع النبيذ ويبدأ في الانتاج مرة أخرى وهنا يظهر الشاب مرة أخرى ويقابل مجهود زملائه في المصنع بسخرية حتى أنه يبول في أواني النبيذ الذي صنعوه منذ قليل، ويقرر أن يأخذ الأرملة عنوة ويصير زوجاً لها.
وهنا تظهر روح مو يان الساخرة، فالنبيذ الذي بال فيه الجد صار ألذ وأصبحت تلك هي الخلطة السحرية للنبيذ والتي توارثتها الأجيال بعد ذلك، وفي تطور مفاجئ لمنحنى الحكي يتحول الفيلم لسرد أحداث الحرب الصينية اليابانية الثانية والتي جرت أحداثها في الفترة من عام 1937 إلى عام 1945 ويصور الفيلم مظاهر البشاعة التي قام بها المحتل ضد سكان القرية، عندما قرروا مد خط لسكك الحديدية وتجريف حقول الذرة الرفيعة، ثم قيامهم بتعذيب سكان القرية في مشاهد قاسية، وعمليات إعدام بلا جرم، وهنا يقرر الجد وعمال المصنع الانتقام لمقتل زميلهم “لوهان” على يد القوات اليابانية، ويقوموا بنصب فخ للقوات اليابانية في مشهد مهيب ينتهي بموت الجنود والمقاومين، وكذلك مقتل الجدة برصاص القوات اليابانية، دون أن ينجو من المعركة إلا الجد وولده الصغير (والد الراوي فيما بعد) في مشهد سينمائي غلب عليه اللون الأحمر، لون الدم والنبيذ والشمس الذابلة في لحظة الغروب.
مُتـفـرد بلا تـعْـقيد
في حديثه لموقع Off Screen الإلكتروني والمنشور في ربيع عام 1999 تحدث جانج ييمو بشكل عام عن الأفلام التي تحوي رسالة أخلاقية أو صراعاً بين الخير والشر قائلاً:
“أعتقد أن الأفلام يجب أن تحتوي على أكثر من هذا، يجب أن تؤثر في أنواع متعددة من المجتمعات، وتؤثر أيضاً على جوانب الحياة المختلفة، وتعكس حياة البشر”.
كما تحدث عن مدى تفرد الفكرة التي يقوم عليها العمل الفني، ولكن بلا تعقيد، وقد بدا ذلك في أغلب أعماله الفنية، والتي عكست روحاً مختلفة وصوتاً سينمائياً فريداً.
ظهر ذلك منذ أول أفلامه، ففيلم “الذرة الحمراء” يحمل سمتاً متفرد، وروحاً غنية، جامحة، يشبه في ذلك حكايات الواقعية السحرية والتي نبتت في أرض أمريكا الللاتينية ولكن بنكهة صينية صافية، فنرى فيلماً رغم قساوته الظاهرة يحمل في طياته عذوبة ترجمها المخرج في مشاهد الغناء الشعبي البديعة، وكذلك من خلال التيمات البصرية الرائعة، حيث أفادته كثيراً خبراته السابقة كمصور سينمائي في ابداع صورة سينمائية حميمة، تكتسي بالألوان الدافئة التي أضفت على الفيلم بعداً انسانياً قربه أكثر من المشاهد، طغا اللون الأحمر بدلالته المختلفة على الفيلم، بداية من الاسم، محصول الذرة الحمراء، فساتين الزفاف، النبيذ، الدم، علم الغزاة الأحمر، نهاية بالشمس الغاربة في مشهد النهاية.
هنا تراوح مدلول اللون الأحمر ما بين حميمية هودج الزفاف وفستان العروس، وبين العنف في لون الدم وعلم اليابان الغالب عليه اللون الأحمر، وكذلك مدلوله الأهم في مشهد كسوف الشمس في نهاية الفيلم، والذي دل على حتمية زوال المعتدي، ذلك المشهد الذي ختمه المخرج بأغنية بديعة على لسان الطفل الذي فقد لتوه الأم، أغنية لا تقل روعةً ولا جمالاً عن تلك التي غناها الوالد يوماً ما للأم وهو يختبأ في حقول الذرة الحمراء محرضاً ها على المقاومة:
“يا بنت تشجعي واذهبي، تقدمي ولا تنظري للخلف، هناك آلاف الطرق للوصول إلى السماء….”.
المصدر:
1 Zhang Yimou Biography, Encyclopedia of world biography.