أوبنهايمر.. هل صنع المخرج فيلماً عن نفسه؟

Print Friendly, PDF & Email

حسام الخولي

في أحيان قليلة للغاية، تتسبب الدعاية الصاخبة للعمل الفني في نتائج عكسية، تضعه في طريق وعر، تتناقل الأقلام أن كتاباً ما هو الأسوأ على الإطلاق، أو أن فيلم أحدهم لن تتكرر عظمته، فيضع هذا الحكم العمل الفني في سياق يصعب التحكم فيه لاحقًا؛ أحدهم سيؤكد أن هذا العمل عملا استثنائياً فعلًا، بينما الآخر سيستهجن سذاجته، وربما كان هذا التطرف في استثنائيته أول ما يميز الحديث عن فيلم “أوبنهايمر” (2023) “oppenhiemer” حتى قبل أن تبدأ عروضه السينمائية في دور العرض حول العالم. 

Cillian Murphy is J. Robert Oppenheimer in OPPENHEIMER, written, produced, and directed by Christopher Nolan.

الفيلم عن عالم الفيزياء روبرت أوبنهايمر (1904 – 1965) وقد أثار الكثير من الجدل منذ بدء عروضه السينمائية، سواء بين المشاهدين في الغرب، أو في العالم العربي، والجدل دار أساسا حول “قضية” الفيلم، والتساؤل المطروح كان: لماذا صنع المخرج هذا الفيلم؟ ولماذا قد نجد مخرجا إنجليزيا يسعى إلى تبييض وجه أمريكا كما اتهمه الآلاف؟ وكيف بدا أن مخرج الفيلم كريستوفر نلان، في جزء جوهري من العمل مشغولا بنفسه أكثر من أي شيء؟

أمركة العالم

في كتاب “أمركة العالم” يرى الكاتب البريطاني وليام ستيد، أن أمريكا أرض عجائبية وغريبة لها جذور عميقة، فخلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين مع زيادة نفوذها سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، فإن إدراك العالم صاحبُه أحاسيس بأن كل شيء يأتي من “أمريكا” دون غيرها، أي من المشاعر التي تصدّرها.

اختار نولان فريق عمله بعناية فائقة، وكان من المتوقع أن يأتي هذا الخطاب الملمّع الذي ظهر اعتمادا على الكتاب الحاصل على جائزة بوليتزر “بروميثيوس أميركي: انتصار ومأساة جي روبرت أوبنهايمر” في عام (2005)، وخصوصا أنه أشرك في الكتابة معه الكاتب كاي بيرد الذي كتب قصة الجاسوس الأمريكي روبرت إيمز، الذي صوره هاني أبو أسعد في فيلم أخرجه الفلسطيني هاني أبو أسعد استنادا إلى الكتاب. كما أشرك نولان الكاتب مارتن شيروين الذي أنجز في عام 2008 فيلما تسجيليا يتساءل فيه عن الإدانة الأمريكية غير المستحقة لل”الرجل المنقذ أوبنهايمر” بعد أن أنجز قديمًا فيلما تسجيليا آخر عن “مشروع مانهاتن” عمومًا من خلال القرب من “المعجزة التي أنقذت أمريكا”: روبرت أوبنهايمر.

لذلك يبدو الخطاب الفيلمي متوقعا حتى من قبل المشاهدة، وليس مفهوما لماذا انتظر البعض غير ذلك من الفيلم، فقد تحفّز البعض معتبرين أن الفيلم يدافع عن مدير مشروع مانهاتن مخترع القنبلة الذرية.

وسيطرة أفلام هوليوود على السينما كما تناولها مؤخرًا كتاب “الحرب السرية للسيطرة على السينما العالمية” الذي كتبه ديفيد بوتمان وترجمه محمود علي، يمكن النظر إليها أو من خلالها في اتجاهات متعددة، تمامًا مثلما شاهدنا الجمهور العربي والعالمي ينتظر نظرة إنصاف تاريخية من رجل هوليوودي مثل كريستوفر نولان بالرغم من معرفة الجميع بمآلات القصة.

وربما من تلك النظرة أو هذا المنطلق تتسبب توجهات هوليوود الأكثر انتشارًا في غضب البعض حتى لو كان ينبغي أن يكون مهيئا من البداية، إلى أنها ستقدم وجهة نظر لا تدين الرجل الأبيض مهما تسبب في دمار، أو حتى إذا كان في جزء متجاهل من الفيلم الطويل نسبيًا، يعبر المخرج عن جزء من ذاته، يروى القصة بمشاعره لا على أنها قضية.  

يحمل نولان على عاتقه وجاهة في اختياراته عمومًا، ولكن مع المزاجية الانتقائية، فهو مهووس بالتقارب الفني مع العلم من منطقة شعورية، ونظرة سريعة على مشروعه عمومًا، نجد أنه أخرج سلسلة من الأفلام الكبرى على مدار العقود القليلة الماضية من بينها Tenet و Dunkirk و Interstellar و Inception وثلاثة أفلام ذات صلة بباتمان في ثلاثية The Dark Knight التي تميزت بمقاربات سردية معقدة حققت حتى الآن تجاريًا أكثر من 5 مليارات دولار في شباك التذاكر العالمي، كما فازت أفلامه بـ 11 جائزة أوسكار من بين إجمالي 36 ترشيحاً نالتها. 

هذا الإنتاج كان إلى جانب عائلته أغلب الوقت، فنولان رجل عائلة بامتياز، صنع أول أفلامه مع والده، وبعد فيلمه الأول نجده لن يتحرك إنتاجيًا سوى على خطى زوجته إيما توماس، سيرته آمنة ثابتة ومدروسة من رجل يقدر النظام، يفهم السينما كحدث تجاري يمكن في كل مرة زيادة المساحة التجريبية فيها، مثلما حدث هنا، فهذا فيلم يبدو عن أوبنهايمر، كما يبدو أيضًا فيلما ذاتيا صنعه عن نفسه، في نظرة أبعد قليلًا من الترويج للبروباجندا السياسية أو الدفاع عنها.      

أوبنهايمر كما يراه نولان

في بداية الفيلم نقرأ على الشاشة الجملة الأولى من قصيدة برميثوس التي تلخّص حكايته :”سرق برميثيوس النار وأعطاها للإنسان فعذّبوه بالأبدية”. تقول الأسطورة الإغريقية أن الإله زيوس الذي أمر بتوزيع عطاياه على البشر عهد إلى برميثيوس وأخيه أبيمثيوس بمهمة تزويد الكائنات بما يضمن لها البقاء، الأخير أعطى القدرة إلى الحيوان، أعطاهم الشراسة والسرعة والقدرة على الطيران وأشياء أخرى ولم يترك شيئاً لشعبه، بينما اكتشف برميثيوس أزمة أخيه الذي يحبّه، كما أزمة الإنسان.

يقرر بروميثوس أن يخدع الإله ويصعد جبل الأولمب ويسرق النار التي تساعده على الدفء وتخويف الحيوان، النار التي بدأ منها كل شيء وإليها ينتهي، سعى إلى تعليم شعبه الزراعة والحصاد وكيفية استخدام النار، ولكن لم يعجب ذلك الإله زيوس، فحرم الشعب من ذلك، فقد تحداه برميثيوس وسرق النار التي تجعلهم يطهون ويحصلون على الدفيء وأعطاها للشعب.

وفقًا لإحدى الأخبار القديمة زعم الأخ الأكبر للمخرج كريستوفر نولان أنه سليل عائلة أوبنهايمر الماسية التي يحبها الجميع، بعد ذلك ثبت فعلًا أن الرجل متهم بكونه قاتل محترف قتل ممولًا أمريكيًا في كوستاريكا في عام 2005 وتم القبض عليه وهو يحاول الهرب من سجن في شيكاغو بينما كان يواجه التسليم، دافع نولان كثيرًا كرجل يقدّر العائلة عن شقيقه. في الفيلم يُتيح نولان جزءا أصيلا من القصة عن علاقة الرجل بأخيه التي لم تقدّم شيئا قويا، ولكن يبدو أن نولان نفسه كان يريد وجودها.

الفيلم لا يهتم كثيرًا بالبناء الدرامي، يقدّم شذرات عن أحداث كثيرة جدًا ولا يقدم لها جيدًا، المونتاج يلهث وراء الأحداث المتعددة، كما يبدو أن المخرج لا يحتاج لتورّط المشاهد معه، يرى ذاته أكثر، تصاحب أغلب المشاهد الموسيقى الملحمية، تحمل جزءا من ولع المخرج الشخصي بالموسيقى.

يقول نولان في حوار معه: “لقد صنعتها لأنها قصة رائعة… لقد شعرت بما يعنيه أن أكون أنا هذا الرجل”. في الفيلم نشاهد بطلا يتحرك ببطء، يتابع الأحداث بعين زجاجية ثابتة لا تُظهر الفرح أو الحزن تجاه أي شيء، يبدو شبيها بشخصية نولان التي تظهر مقابلاته.    

يقول نولان “أشعر بالرجل في كل مرحلة، كنت مقتنعا تمامًا أنني سأموت في أبوكاليبس نووي”. ويبدو الأمر نوعاً من التعلّق الشعوري، فكل حبكات نولان السابقة كانت أكثر تعقيدا من هذا الفيلم، بينما جاءت قصة أوبنهايمر ممزقة، تكشفه أكثر من غيرها، يتجاهل تأثير القنبلة الذرية، ويحكي جزءا من نفسه. 

في كتاب “اعترافات قناع” يأتي على لسان أحد الأبطال أن الإنسان يكون أقل من ذاته حين يتحدث بالأصالة عن نفسه، أعطه قناعًا يختبيء خلفه وسيقول لك الحقيقة”. ربما ارتدى نولان قناع أوبنهايمر ليتحدّث من خلاله عن جزء من نفسه في سياق قصة يعلم جيدًا أنها ستثير الجدل وتتصدر شباك التذاكر لتحجز مقعدا في ترشيحات الأوسكار القادمة.

الفيديو

الصور

Visited 1 times, 1 visit(s) today