الخطيئة الأولى وتعدد الحقيقة في فيلم “راشومون”

المرأة خطيئة الرب، خطيئته التي لم يحسب لها حسابًا؛ هي صنع الإله الذي خرج عن سيطرته، وكلمته التي لم ينطق بها المرأة هي الغواية كما صورتها الأديان، هي التمثيل للتمرد على صوت الإله وأحكامه، والتحذير بما قد يحدث لمن يقترب منها أو يسير على دربها.

يروي سفر التكوين لنا قصة نشأة الخلق عن طريق آدم وحواء؛ بداية من وجود آدم في جنة عدن حتى يخلق له الرب حواء لتكون معينًا له. يأمرهما الرب أن يأكلا من جميع شجر الجنة ما عدا شجرة المعرفة. وحين تحضر الحية إلى الجنة تخبر حواء بالشجرة المحرمة التي لا يموت من يأكل منها، بل يصبح مثل الإله عارفًا للخير والشر. فأكلا من الشجرة، فأدركا حقيقة كونهما عاريين، فخاطا أوراق التين تغطي ما ظهر منهما. وما كان من آدم عند مواجهة الرب إلا أن ألقى اللوم على حواء، التي بدورها ألقت اللوم على الحية. فنزل عقاب الرب على ثلاثتهم، وهبط آدم وحواء إلى الأرض وهبط الشر معهم يعثّ في النفس البشرية فسادًا.

في البدء كانت الخطيئة تحكي قصة الخلق هذه عن الإدراك، وكيف يتحول وعينا من صورة لأخرى بنظراتنا المختلفة للأشياء. لم يدرك آدم وحواء في البداية حقيقة كونهما عاريين بالرغم من كونها الحقيقة. لكن ربما تختلف الحقيقة من الزاوية التي ننظر منها؛ فهي من الممكن أن تُصاغ بأكثر من طريقة أو تأخذ أكثر من شكل واحد. أو ربما الحقيقة دائمًا ثابتة، ولكن يمكن لنا أن نصيغها بأكثر من طريقة.

هل البشر قادرون على التخلي عن الكذب من أجل إثبات أن للحقيقة وجهًا واحدًا؟

إذا ما انتقلنا الى فيلم “راشومون” Rashomon (1950) للمخرج الياباني الكبير أكيرا كيروساوا، سوف لا نرى في مثلث الصراع داخل الفيلم نحن لا نرى حقيقة واحدة، أو بالأحرى لا نرى رواية واحدة للحقيقة. بل لكل راوٍ رؤيته ونظرته التي لا تخلو من إلقاء اللوم على الآخرين، تمامًا مثلما يفعل آدم بإلقاء اللوم على حواء، وتفعل حواء بإلقاء اللوم على الحية.

ربما هي المعرفة التي يكتسبونها من الشجرة هي ما تمثل الكبرياء في تطهير صورتهم. كبرياء يصل لحد التضحية بالذات في رواية الزوج في الفيلم. الكل يظهر بمظهر الكمال من منظوره، والكذب يصير جزءًا من الحقيقة، حتى تصبح الحقيقة التي تخلو من الكذب كأنها منقوصة أو خيالية غير قابلة للتصديق، ولا حتى في الأفلام. فحقيقة عارية بدون كذب لا تجذب المشاهدين بما يكفي.

تحوّل كل شيء حولنا بالفعل إلى مزيف؛ الكذب متغلغل داخلنا حتى لأننا ربما نكذب في نوايانا نفسها التي لا يحاسبنا عليها أحد غيرنا. يخبر القديس الرجل في الفيلم بأن المرء يكذب لأنه يشعر بالضعف، حتى لأنه يكذب على نفسه. فيجيبه الرجل أنه لا يهتم إذا كانت كذبة أم لا، طالما أنها مسلّية. هذا هو نفس الرجل الذي لا يؤمن بالجنس البشري، ولا يصدق أيًا مما يقول. يؤمن بأن الشر طاغٍ، وكلنا مهما اختلفنا أشرار بطريقة أو بأخرى.

منذ بدء الخلق والرب كان مؤمنًا بالكلمة. أحيانًا تكون الكلمة أقوى من أي سيف؛ تبدأ بتسمية الأشياء ثم إضفاء المعنى عليها، وقد تتحول لأداة للسيطرة على جموع البشر وإخضاعهم، في حين لم تخضع الكلمات نفسها قط للمساءلة أو الاستجواب. ظلت الكلمات تتناقل عبر العصور، وظل كل يستخدمها بإرادته، حتى أرسل الله الرسل.

عندما هبط آدم وحواء إلى الأرض، هبطت معهم خطيئتهم؛ خطيئة نشرت الفساد في الأرض حتى يتخذ الرب قرارًا بإغراق العالم الذي غرق في ظلمات لا مفر منها، والبدء من جديد بالبشر المصطفَين. وحتى إذا غرق البشر من جديد في الظلمات يرسل عليهم الرب هذه المرة بكلماته رسلًا بهيئة بشر، وعلم إلهي تمامًا كآكلي شجرة المعرفة.

يستخدم كوروساوا المطر في إغراق عالمه كأنه الطوفان الذي يطهر البشر من فسادهم، ينقيهم من الكذب ويغسل خطاياهم القديمة. يستمر المطر طوال مدة الفيلم معلنًا عن حاجة ماسّة للتطهير. ويستخدم كوروساوا الزمن للحكي عن التاريخ؛ فالماضي ممتد لأبعد من مجرد حادث.

تحت وطأة هذه الأحداث تظهر شخصية الخشاب والقديس جالسين يحتميان من المطر. لا ينطق الخشاب سوى بكلمات مفادها أنه لا يفهم أيًا مما حدث. لربما هو يتحدث بصوت عالٍ لعله يجد إجابة عند هذا القديس، لكن ما نلبث أن نعرف أن القديس هو الآخر لم يسمع عن قصة أعجب من هذه، بالرغم من كل بشائع الحرب وهولات الطاعون؛ فهو لم يجد ما هو أغرب من قصة لرجل قد قُتل.

يستمر المطر في الهطول، ويستمر الخشاب في الحكي، ويستمر كل طرف من القصة في الكذب بشأن روايته، ويستمر الرجل الجالس معهم في الاستماع لتأكيد أن البشر بالفعل كاذبون، ولكن ما المانع من الاستماع لكذبة مسلية؟ ويستمر القديس في الإيمان بالبشر بالرغم من كل ما سمعه وما أثار شكوكه؛ فالكون من حوله هو الآخر مستمر، لا ينقطع ولا يتوقف للحظة. فمهما طال ظلام الليل فالفجر آتٍ لا محالة، ومهما طال انتظار المطر فسيأتي التطهير، ومهما استغرق الأمر فالخلاص سيأتي حتمًا.

والخلاص بالنسبة للقديس كان دومًا متمثلًا في البشر أنفسهم؛ ما زال يؤمن بالنفس البشرية، وما زال يصدق أن من الممكن أن يكون هناك أناس صادقون.

في مشهد النهاية يرتعب القديس عندما يكشف الرجل حقيقة الخشاب: أنه لا يختلف عن الآخرين؛ هو الآخر كذب في روايته ليداري حقيقة أنه سرق الخنجر. يكشفه الرجل أمام نفسه وأمام القديس، ثم يذهب تاركًا وراءه إيمانًا محطّمًا لكلا الرجلين.

وهنا يظهر الطفل في يد القديس كمسيح مخلّص؛ يمكنه أن يغفر للخشاب ما فعله ويقبله، ويمكنه أن يعيد للقديس أمله في البشر، ناشرًا المحبة بينهم، ومبشرًا بشمس جديدة تسطع من بعد الطوفان.