“الحياة كما عشتها” للناقد أمير العمري ورحلة البحث عن معنى

نشر في جريدة “الشروق” المصرية- 11 يناير 2025

أعرف الناقد الكبير أمير العمري منذ أكثر من 22 عامًا، التقينا وقت عودته الثانية إلى مصر، عندما انتخب رئيسًا لجمعية نقاد السينما المصريين، وبدأ نشاطًا مميزا للجمعية في عروض الأفلام، وفي إصدار الكتب، وفي ظهور مجلة «السينما الجديدة» التي نشرتُ فيها مقالات كثيرة. منذ تلك السنوات البعيدة، توطدت علاقتي به، وتناقشنا واتفقنا واختلفنا، ولكنه ظل طوال الوقت واضحًا وصريحًا، لا يرتدى أقنعة، ولا يتردد في الدفاع عما يؤمن بأنه الصواب.


ظننتُ أنني أعرف كل شىء عن حياته العامة والخاصة، ولكن كتابه الجديد “الحياة كما عشتها” الصادر عن دار نظر، أضاف إلى الكثير من الحكايات والأحداث والمواقف، ورأيت فيه ما يتجاوز فكرة «السيرة الذاتية»، إلى آفاق الشهادة على عصور وشخصيات مهمة، كتب عنها بطريقة سردية مشوقة، وبلغة فصيحة سلسة، تُعنى بالصورة والحركة والتفاصيل، وترسم أحيانًا لوحات فكاهية مرحة، وتنتقل ببراعة بين الأزمنة، وتجمع بين ترتيب الرحلة من الأقدم إلى الأحدث، والقفزات الزمنية الحرة داخل كل فصل، تتبعا لمسار شخصية أو فكرة أو ظاهرة.


وكأن خبرة العمرى كناقد يشاهد الأفلام، ويكتب عنها، قد تحولت هنا إلى فيلم طويل مكتوب، حافل بمفاجآت وأحداث عامة وخاصة، وكأنه يكتشف نفسه كحكاء يكتب بنفس طويل، بعد أن عرفنا عنه مهارة الحكي الشفاه»، وصولًا بالحكايات إلى تخوم الكاريكاتير الساخر.
السردية هذه المرة تمتزج فيها المتاعب بالمغامرة بتغيير المهنة والنشاط، وبالتحول من الطب إلى الصحافة والكتابة النقدية السينمائية والثقافية، وعبر نحو 400 صفحة نتابع رحلة ثرية حقًّا، بدأت بالميلاد قبل فترة وجيزة من نهاية الحقبة الملكية، وغالبًا، كما يقول، فإن والده، مهندس المساحة ودارس القانون، أطلق عليه اسم أمير ارتباطا بمولد الأمير أحمد فؤاد ابن الملك فاروق، بينما سيتشكل العمرى في سنوات ما بعد 1952 بكل تحولاتها الضخمة:


سيتعلم في مدارس عامة كانت أقرب إلى معاهد علمية ورياضية وفنية متكاملة، وسيشاهد الأفلام في مدن كالمنصورة وطنطا ودمياط حيث درس وتعلّم، وسيرى العالم من خلال شاشة التليفزيون، الذى دخل إلى مصر في العام 1960، وستصدمه هزيمة 1967، بعد أن كان مؤيدًا للتجربة الناصرية، ومجادلًا لا يلين لوالده الوفدي العتيد.
كل ما هو ذاتي في هذه الحكايات تصبح له دلالة عامة على حياة الطبقة الوسطى، التي ترفع من شأن التعليم والشهادة، ورغم رغبة الابن في دراسة السينما، إلا أن مصير خريجي المعهد لم يكن مبشرا، ولا يمكن مقارنته بدراسة الطب في جامعة عين شمس، التي كانت وقتها تشهد لحظات سياسية وثقافية كبرى، أتاحت للعمرى أن يؤسس ناديا شهيرا للسينما، وأن يكوّن مكتبة خاصة بالكليّة، وأن يقيم ندوات لشخصيات هامة عبر نشاط اللجنة الثقافية، وأن يكون شاهدا على اعتصامات ومظاهرات ما قبل حرب أكتوبر.


التجربة الخاصة بسنة الامتياز، واللوحات الواقعية والغرائبية للعمل في الوحدات الصحية في أسيوط، وكثير منها يمكن أن يتحوّل إلى أعمال درامية مشوقة، والكتابات السينمائية النقدية الأولى، واكتشاف الحياة الثقافية والصحفية من خلال أسماء كبيرة مثل عبدالفتاح الجمل، وصلاح عيسى، وفاروق عبد القادر، كل ذلك أيضا له دلالات عامة على فترة تحولات سياسية واجتماعية ضخمة، وعلى حياة تصطخب بالجدل والصراع الأيديولوجي، كما أن له دلالة على ظروف المجتمع الصعيدي المعلّق بين تراث قديم، وحداثة وافدة.

يستمر هذا المزيج بين الخاص والعام بصورة تلقائية، سواء في سنوات عمل العمرى في الجزائر، فنرى امتداد صراع الأفكار إلى سنوات الثمانينيات، أو في مرحلة الانتقال للعمل في الصحافة في لندن، وهى فترة غريبة ظهرت فيها الصحافة العربية المهاجرة، بكل تعقيداتها، وفي فترة صعود التاتشرية اليمينية، وشهادة العمرى هنا لا غنى عنها لمن يدرس صحافة العرب في أوروبا.
طوال الوقت كانت السينما حاضرة، بل هى الغاية والهدف، حتى حسم العمرى الصراع، وترك الطب نهائيا، وانطلق إلى تغطية المهرجانات والكتابة عنها، واستعادة تاريخ السينما عبر مشاهدة الأفلام الكلاسيكية، بل والانخراط في دورات مكثفة منهجية لتحليل الأفلام، بل إنه فكّر في استكمال دراسة السينما، بالالتحاق بمعهد موسكو الشهير، وفي الكتاب قصة هذا الحلم الذى لم يتحقق مع المخرج مجدى أحمد على، أثناء وجودهما معا للعمل في الجزائر.
صار العمرى صحفيا وناقدا محترفا، وشارك في تجارب هامة للغاية سواء بالكتابة في صحف مثل «العرب» و«القدس»، أو بالعمل كمنتج ومدير نشرة أخبار في تليفزيون بى بى سى العربى، وفي قنوات الجزيرة وأبو ظبى، وأجواء وكواليس هذه الوسائل الإعلامية مكتوبة أيضا بحس درامى مدهش، وفيها الكثير من الأزمات والمشكلات والحكايات الطريفة والساخرة.


في نفس الوقت، لم ينقطع العمرى عن مصر، سواء بزيارات أو بإقامات لم تطل، أو بمحاولات المشاركة في أنشطة ثقافية وسينمائية، فأدار مرتين مهرجان الإسماعيلية للسينما التسجيلية، وكانتا دورتين مميزتين للغاية، وانتُخب رئيسا لجميعة نقاد السينما، بعد وفاة صديقه الناقد الكبير الراحل فتحي فرج، وكان العمرى رئيسا لمهرجان القاهرة السينمائي في فترة تغيّرات سياسية عاصفة، ولفترة لم تكتمل، وفي كل الأحوال، فإن الأجواء لم تكن مواتية، ولم يكن ممكنا لناقد مستقل أن يتواءم مع إجراءات بيروقراطية تليدة، ولعل سقف الطموح أيضا كان أعلى بكثير من واقع الإمكانيات والصراعات الفردية الصغيرة.


يضع العمرى للرحلة كلها عنوانا هو محاولة البحث عن معنى لحياته، ولما يقوم به، وربما يمكن أن نضيف إلى ذلك فكرة الشغف بالثقافة وبالسينما، والطاقة الهائلة للتمرد، والرغبة في الانفتاح على العالم، والاتساق مع الذات، والرغبة العارمة في الاستقلال عن كل المؤسسات، التماسا لحرية أكبر في القول والفعل. ويبقى المعنى الأهم – في رأيي – في نظرته إلى النقد كأسلوب للحياة، وللإضافة إلى الثقافة الإنسانية، وليس كمجرد مهنة أو وظيفة.
شكرًا أمير العمري على شهادتك المهمة والقيّمة.